مصر.. رحلة الأشواق من المنوفية إلى البيت العتيق

 

مصر النيل وسحر الشرق والأهرامات، كما أنها مصر عمرو بن العاص والفسطاط، تاريخها عريق وعلاقتها ممتدة وثيقة مع الكعبة وبيت الله الحرام منذ عصر النبوة الأول، ومنها مارية القبطية زوج النبي وأم ولده الذي سماه على اسم نبي الله إبراهيم الذي رفع القواعد من البيت.

دخلها الإسلام في زمن الخليفة عمر بن الخطاب، ومنذ عهده كانت تجلب منها كسوة الكعبة المشرفة، كانت تُحضّر فيها خصيصا من قماش القباطي الفاخر الذي كان يعد من أفخر أنواع الأنسجة في العالم.

وهي أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان الذين يدين معظمهم بدين الإسلام، ومن أزقة مدنها العريقة كان ينطلق “المَحمل” موكب إرسال الكسوة للكعبة الذي كان حدثا سنويا استثنائيا اكتسب طابعا احتفاليا بهيجا، تستمر التحضيرات له مدة طويلة تبدأ من شهر رجب، وكانت الكسوة تطوف المدن، لتشملها بركة البيت العتيق.

الفيلم الذي بين أيدينا هو فيلم “رحلة الحج – مصر”، وهو من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية، ويقدم لنا صورة بسيطة، لكنها عميقة، عن رحلة أحد الفلاحين البسطاء، عزم على زيارة البيت العتيق وأداء الحج. كما يطوف بنا الفيلم لنتعرف على عادات الشعب المصري فيما يتعلق بالحج والاحتفاء به وبزوار بيت الله الحرام، ونتعرف على الأهازيج والابتهالات والأغاني الخاصة بالحج.

مكافأة الحج.. أقل ما يرد به الأبناء الجميل

وُلد الحاج رجب عبد الله رجب من محافظة المنوفية عام 1939، وله من الأبناء خمسة، وقد أحسن تربيتهم وعلمهم ودرسوا تخصصات مختلفة كالحقوق والصحافة، أما فقد عاش حياته فلاحا في الحقول يزرعها ويرعاها ويأكل من خيرها، وعندما بلغ من العمر 66 عاما تاقت نفسه للحج، خصوصا أن أولاده كبروا، فقرر أن يتفرغ لنفسه وللعبادة.

في المرة الأولى التي فكر فيها بالحج تعرض ابنه البكر لوعكة صحية منعته من السفر، وفي السنة الثانية قدم رجب أوراقه للقرعة ولكن لم يحالفه الحظ، وأمام رغبته الملحة وإصراره الكبير تقدم لشركة سياحة وسفر خاصة، مما يعني أنه سيدفع مبالغ مضاعفة للحج.

عاونه أولاده في جمع المبلغ، واعتبروا أن ذلك أقل مكافأة يمكن أن يقدمها الأبناء لوالدهم. يقول ابنه الأصغر “والدي قصة كفاح وذهابه إلى بيت الله الحرام مكافأة يسيرة للتعبير عن شكرنا له على ما قدم لنا طوال حياته”.

يصف الابن أهل منطقته فيقول إنهم بسطاء متقاربون، ويعرفون بعضهم بعضا، ومع ذلك فالكثير من سكان محافظة المنوفية حاصلون على تعليم جيد، ومنهم أئمة المساجد الذين يعود الناس إليهم في شؤون حياتهم.
ويعرفنا الابن بالشيخ ماهر فيقول “إن أهل الحي يحترمونه كثيرا فهو رجل متعلم مثقف له قيمته وقدره بين الناس وفوق ذلك كله فهو يطبق ما يفعل”.

الحاج رجب يتوسط مجموعة من رجال القرية، ومعه الشيخ ماهر يحدثهم عن الركن الخامس من أركان دينهم الإسلام

لقاء الإمام.. جلسة تعليمية لتلبية نداء إبراهيم

في أحد البيوت الريفية البسيطة يتوسط الحاج رجب مجموعة من رجال القرية، ومعه الشيخ ماهر يحدثهم عن الركن الخامس من أركان دينهم، يعلمهم المناسك وزيارة المشاعر، بينما القوم يستمعون إليه بانبساط وشغف.

يقول الشيخ ماهر بلهجته المصرية “ربنا يقول للملائكة عبادي جاؤوني شعثا غبرا من كل فج عميق، يعني يأتون من كل مكان في العالم من الهند والصين وأميركا وأستراليا بكل الأشكال، كلهم جاؤوا ملبيين لنداء إبراهيم”.

يتلو بخشوع آيات الحج وقول الله تعالى لأبي الانبياء ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، وفي نهاية الجلسة يدعو الشيخ للحاج رجب أن يهيئ الله له الوصول، ويهيئ له أسباب القبول والعودة إلى دياره سالما وقد غنم الأجر والمثوبة، طالبا منه أن يخصه بالدعاء.

ويقول ابن رجب إنهم جرت العادة عندهم أن كل شخص يريد أن يذهب إلى الحجاز لا بد أن يجلس مع إمام مسجد أو أحد العارفين بأمور الدين ليعلمه مناسك الحج وفضله.

العادة جرت في المنوفية أن كل شخص يريد أن يذهب إلى الحجاز عليه أن يجلس مع إمام مسجد ليعلمه مناسك الحج

“افتحي البوابة يا فاطمة أبوكِ داعينا”

بدأ الحاج رجب بتحضير حقائب السفر وملابس الإحرام، يقول الابن “حاولنا أن نعطي والدي أقل القليل من الملابس والحاجيات، لأنه رجل كبير في السن، حتى لا يجهد نفسه في حمل الأمتعة”.

يقول الحاج رجب بتواضع وخشوع “الحمد لله الذي أكرمني بفضله وبمساعدة أولادي على تحقيق رغبتي في الذهاب للحج، أتمنى لكل مسلم أن يذهب إلى هناك”.

وكطقس من طقوس توديع الحجاج في مصر، تجتمع نساء البلدة في بيت الحاج ويبدأن ترديد الأهازيج والأغاني الشعبية الخاصة بهذه المناسبة، وتسمى بالحنين أو الحنو، وتحمل كلماتها معاني الشوق والتعطش لزيارة بيت الله الحرام.

وبعض كلماتها يتحدث عن حب النبي محمد ﷺ، وقد حملت تلك المعاني مناجاة للنبي وآل بيته “يا فاطمة يا فاطمة يا بنت نبينا… افتحي البوابة يا فاطمة أبوكِ داعينا”، “رايحة فين يا حاجّة، يا أمّ الشال قطيفة؟ رايحة أزور النبي محمد والكعبة الشريفة”.

تستمر النساء بالغناء طوال فترة تحضير الحاج للحج لنحو سبعة أيام أو أكثر، وكذلك الصغار يرددون تلك الأغاني أثناء لعبهم ومرحهم. وفي ليلة السفر يصلي الحاج رجب مع أهل قريته صلاة الجماعة ويردد الجميع دعاء السفر وسط بحر من المشاعر الجياشة، ويركب الحافلة وتنطلق به تسبقه أشواقه إلى المدينة ومكة والبيت الحرام.

تستمر النساء بالغناء طوال فترة تحضير الحاج للحج لنحو سبعة أيام أو أكثر
النساء تستمر بالغناء طوال فترة تحضير الحاج للحج لنحو سبعة أيام أو أكثر

“الرحلة الحجازية”.. رحلات الأجداد إلى الديار المقدسة

يقول ابن الحاج رجب “بعد سفر والدي حاولت أن أبحث كيف كان يسافر أجدادنا في الماضي، قرأت في الكتب وبحثت في الإنترنت وتوصلت إلى أنهم كانوا يسافرون في قوافل، ويأخذون الزاد والماء معهم، وكانت رحلة الحج تستمر ثلاثة أشهر، شهرا في الذهاب وشهرا يمكثونه في الحج، وشهرا في طريق العودة، وكانوا يعودون محملين بالهدايا من بيت الله العتيق”.

استحوذت رحلة الحج على قدر كبير من اهتمام من قام بها، وكانت عملية التوثيق مستمرة بتسجيل التفاصيل من مشاعر وانطباعات وذكر الأماكن.

ومن أهم رحلات الحج التي وُثقت رحلة الأديب المصري محمد لبيب، فقد كان غير معروف، خرج للحج عام 1909 في زمن الخديوي عباس حلمي. كانت رحلة مهمة جدا سجل فيها كثيرا من الأماكن التي شاهدها والمشاعر التي أحسها والانطباعات الخاصة به، وجمع هذه التفاصيل في كتابه “الرحلة الحجازية”، وهو من أشهر كتب الرحلات عن الحج.

أما الرحلة الثانية فكانت تأريخا بالصورة والكلمة، وهي من أهم الرحلات التي احتفظ بها التاريخ توثيقا لرحلة الحج، وهي رحلة إبراهيم رفعت التي تسمى مرآة الحرمين، وقد ضم كتابه 400 صورة وثقت رحلته بشكل دقيق وشامل بدءا من خروج المحمل من مصر والاحتفالات التي كانت تقام، وما قاله العلماء وأمير الحج وقتها، والمناصب التي كانت توجد بالمحمل، والصرة التي كانت تذهب من مصر إلى الأراضي المقدسة، والهدايا التي يحملونها لمكة، والإبل التي سُرقت.

كما اشتملت على ذكر ما تعرضوا له من عمليات سلب من بعض الأعراب، وتُعرفنا الصور على الأزياء التي كانوا يرتدونها في تلك الحقبة من جميع العالم، وطرق المواصلات والآبار وأشهر الأماكن ومقارنة بين القديم والحديث.

.

الحاج رجب يتحدث عن رحلته إلى الحج وطقوس مدينته في استقبال الحجاج

تزيين المنزل.. آيات ورسوم وزخارف لاستقبال الحجاج

لا تغادر كاميرا الفيلم قرية الحاج رجب، بل تبقى تنتظر عودته لتوثق عادات الأهالي في أرياف مصر في استقبال الحجاج، فقد جرت العادة في القرية أن يرحب أهل الحاج به على طريقتهم الخاصة، فتُزين جدران المنازل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعبارات الترحيب والتبريك للحاج.

كما تُرسم بعض الرسومات المتعلقة بالحج والرحلة كرسم طائرة أو حافلة أو رسم صورة للكعبة المشرفة، ويتولى مهمة الرسم والكتابة خطاط القرية محمد أبو المجد، فقد طلب منه أهل الحاج رجب رسم وتزيين جدار البيت.

وأمام منزل الحاج رجب على جدار منزله الريفي المشيد من الطين رسم محمد سفينة وآية قرآنية بخطه الجميل ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، وأضاف عبارة حج مبرور وسعي مشكور.

يقول الرسام محمد “عادة نختار آيات وأحاديث خاصة بالمناسبة وكتابة بعض عبارات التبريك باسم الحاج، وتكون عملية التزيين قبل أسبوع من عودة الحاج حتى لا تتغير الألوان، وقد بقي دون عودة الحجيج أسبوع واحد، وسكان القرية يتقلبون على جمر الشوق للقاء الأحبة.

قرية الحاج رجب ترحب به على طريقتها الخاصة،حيث يتم تزيين جدران المنازل بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية

“عندما وصلتُ إلى مكة نسيت من أين أتيت”

استغرقت رحلة العودة عن طريق الأردن نحو 36 ساعة، عاد الحاج رجب من مكة مرورا بالمدينة المنورة حيث زيارة مسجد النبي ﷺ والسلام عليه في قبره، ثم الأردن، وأخيرا وصلت الحافلة إلى مصر.

ما إن ظهرت الحافلة التي تنقل الحجاج، حتى انطلقت الزغاريد والأهازيج، وتكاد قلوب المستقبلين تنفر من صدورهم. يقول ابن الحاج رجب إنه شعر بالسعادة الغامرة لعودته سالما وقد أدى فريضة الحج العظيمة.

أما الحاج رجب فيحمد الله تعالى أن تمكن أخيرا من أداء فريضة الحج، “زرت البيت الحرام بداية رحلتي، جلسنا في المدينة ستة أيام، واستمتعنا كثيرا بالأجواء الروحانية والصلاة، ثم انتقلنا إلى مكة المكرمة، طفنا بالبيت العتيق، ثم سعينا بين الصفا والمروة”، يذكر كل ما مر به بالتفصيل، والكل متلهف لاستماع المزيد.

يتابع “كنا هناك نتشارك الطعام والمسكن كنا نذهب لزمزم ونشرب حتى الارتواء، وعندما نزلت من عرفات شعرت بذلك الشعور الجميل أني ولدت من جديد.. كانت رحلتي طويلة وأنا رجل أثقلتني السنون، ظننت وقتها أنني لن أتمكن من إكمال الشعائر، لكننا أكملنا ولله الحمد، ذهبنا إلى مزدلفة ثم منى، بعدها تفرغنا للصلاة”.

ويقول “تعبت هذا صحيح، ولكن جمال المكان والأجواء الروحانية فيه أنستني مشقة الرحلة والتعب الذي أصابني وقتها، لن أنسى روعة ما شعرت به تلك الأثناء”.

ويصف مشاعره في مكة فيقول “عندما وصلتُ إلى مكة نسيت من أين أتيت، غدوت في جو آخر، وعندما عدت شعرت أن روحي ما زالت هناك، كانت تتملكني روحانيات عالية”.

تمكن الحاج رجب بعد هذه الرحلة من الإقلاع عن التدخين، “انقطعتُ عنها تماما بحمد الله الذي استجاب لدعواتي ومكنني من ترك التدخين إلى غير رجعة”.

انتهت رحلة الحج للحاج رجب، لكن ذكراها باقية في كل ملمح من ملامح حياته، تبقى في النفس آثار الحج الذي يتعلم فيه الإنسان معنى القرب من الله، ومعنى أن ينيخ مطاياه على باب خالقه ويذرف الدموع طالبا عفوه.