“لا شيء يصنع في العراق”.. تاريخ صناعي مشرق وواقع استهلاكي مخيف

قبل عشرات السنوات كان العراق مصنع العالم العربي والشرق الأوسط، فلا تطلب شيئا إلا وتجده “صنع في العراق”، وكان رائدا في صناعات كثيرة وسباقا في تأمين حاجيات شعبه، لينتهي به الحال اليوم إلى بلد مستهلك يستورد كل شيء بكل ما للكلمة من معنى.

“لا شيء يصنع في العراق” هو عنوان صادم لفيلم عرضته “الجزيرة الوثائقية”، وجالت كاميراتها رفقة تجار عراقيين وأصحاب محلات في محافظات العراق وسافرت معهم إلى الدول التي تُستورد منها البضائع، ليؤكدوا بالدليل القاطع الحالة المأساوية التي وصلت إليها الصناعة في بلاد الرافدين، فبعدما كانت تصنع وتصدر باتت تستورد وتستهلك في مشهد تراجيدي يدمي قلوب العراقيين خاصة والعرب عامة، ولولا النفط لكان العراق لا يُصدر شيئا.

شارع المتنبي.. إرث صناعة القرطاسية المندثر

كانت بداية الرحلة من مركز بغداد التجاري الذي يعد سوقا يأتي إليه العراقيون من كافة المحافظات للتسوق، وأول رفقاء هذه الرحلة هو تاجر القرطاسية عصام العلوي، فكل القرطاسية التي تباع في العراق تستورد من الخارج وتحديدا من الصين، بعد أن كان هناك خمسون مصنعا على الأقل في شارع المتنبي وحده كانت تصنع الدفاتر والسجلات والإضبارات وأقلام الرصاص وغيرها من المستلزمات.

فتداعيات التعود على الاستيراد وتجاهل التصنيع كبيرة “تبدأ بخروج ملايين الدولارات من العراق هو بأمس الحاجة إليها لنهضة اقتصاده، وتنتهي بفقدان عمالة صناعية ماهرة باتت عملة نادرة في العراق” بحسب التاجر العلوي.

فالعلوي بملك محلا لبيع القرطاسية مساحته 80 مترا، ورغم بساطة بعض الأدوات التي يبيعها فإنه لا يملك أي سلعة مصنعة محليا.

ثدي الخارج المدرار.. حين يكون المحلي أغلى المستورد

من التاجر العلوي وعالم القرطاسية إلى أم مهدي صاحبة بقالة في محافظة البصرة، فهنا الوضع لا يمكن أن يوصف، الترهل أصاب كل شيء والناس تعيش في منازل متواضعة من دون بنى تحتية أو أي خدمات.

نرافق أم مهدي إلى السوق لتشتري البضاعة، ففي محلات الجملة أغلب المواد الغذائية مستوردة من إيران وتركيا أما السلع العراقية –إن توفرت- فأسعارها أغلى من المستورد.

أم مهدي.. صاحبة بقالة لا تجد شيئا تبيعه مصنوعا في العراق

وتقول أم مهدي إن كل البضائع في بقالتها المتواضعة إما إيرانية أو تركية، وأما العراقية فتكاد تكون مختفية، وتعود بالذاكرة إلى سنوات ماضية لتؤكد أن المصانع العراقية في بغداد كانت تنتج أغلب المواد الغذائية ولكنها أغلقت، وطالبت بإعادة فتحها وتشغيل الشباب العاطل عن العمل.

وإلى مدينة رشت الإيرانية أولى محطاتنا خارج العراق، زارت الكاميرا مصنع بيكاه لمشتقات الألبان، ويُعد العراق السوق الأبرز الذي يصدر له منتجاته، وعن هذا يقول مدير المصنع موسى إسماعيل إن “مصنع الألبان ينتج يوميا أكثر من مئة طن من منتجات متنوعة كالجبن واللبن والقشطة، والعراق يعد أحد أولوياتنا، ومنذ 2018 إلى الآن صدرنا أكثر من 400 ألف طن من منتجاتنا”.

أسواق الموصل الجريح.. بضائع الخارج تغرق المدينة

تعود الكاميرا إلى الموصل لتواصل رحلتها داخل العراق وتخوض في قطاع آخر دمرت فيه الصناعة المحلية وهو قطاع الألبسة والأحذية، فهذه المحافظة لا يزال جزء كبير منها مدمرا وتعاني لرفع ركامها والخروج من تحته والعودة للحياة ولو على استحياء.

الطامة الكبرى في هذا القطاع هو أن التجار يستوردون كل شيء من تركيا، ليس فقط لأن ذلك أسهل أو أرخص أو أفضل أو على الموضة، بل لأن العراقي فقد الثقة بسلعة منتجة في بلاده ولا يشتريها، بحسب ما يقول التجار.

ويتحدث معن ومهند -وهما تاجرا ألبسة- عن أن البضائع المستوردة أو ذات الماركات (العلامات التجارية) في السابق كانت تباع من تحت الطاولة لأنهم كانوا يخافون من أجهزة الدولة الرقابية التي كانت تمنع بيع المستورد في خطوة لدعم البضاعة المحلية والمصانع العراقية.

ازدهرت صناعة القرطاسية في العراق حتى عهد الغزو، ثم أقفرت وأصبحت كل موادها مستوردة من الصين

ويتابع مهند غدير قائلا: بعد حرب 2003 وسقوط النظام أُغرقت السوق العراقية بالبضائع المستوردة، وأثرت بشكل سلبي على السلع المحلية، وتدهورت الأمور بشكل سريع حتى أغلق أغلب المصانع.

ويؤكد أن كل الألبسة والأحذية والجلود مستوردة من تركيا، لأن نوعيتها ممتازة وأسعارها تناسب كل الطبقات الاجتماعية. ويشير إلى أنك “إذا قلت للزبون إن هذه القطعة مصنعة محليا فلن يشتريها، فليس هناك بضائع عراقية أصلا في الأسواق، الزبون لم يعد يقبل حتى البضاعة الصينية.

إسطنبول الناطقة بالعربية.. متجر يجذب مليارات الدولارات من العراق

تسافر الكاميرا برفقة تاجري الألبسة معن ومهند إلى مدينة إسطنبول التركية، وتقصد أحد معامل صناعة الألبسة التي يتعامل معها التجار العراقيون، ويقول محمد جقماز صاحب المعمل: التجار يختارون الأقمشة والموديلات، ثم نقوم بخياطة القمصان وكيّها وتغليفها وتسليمها لشركة التجارة الخارجية شركة الشحن.

وبعدها ننتظر معن ومهند للذهاب معهما في جولة على الأسواق التي يشتريان منها البضاعة، واللافت أن التجار الأتراك تعلموا اللغة العربية لتسهيل التواصل مع التجار العرب الذين يأتون بمئات الآلاف إلى تركيا شهريا وحتى التجار العرب -ومن بينهم مهند- تعلموا اللغة التركية ليطلبوا ما يريدون مباشرة من التاجر التركي ومن دون وسيط أو مترجم، ومن لم يتعلم اللغة التركية فعليه أن يأتي برفقة مترجمين ومستشارين من شركات التجارة الخارجية، وفقا لحسن توك صاحب شركة لصناعة الألبسة.

سوق القماش العراقي أصبح مستوردا كليا من تركيا، بعد أن أغلقت المصانع العراقية

ويبدو –بحسب مهند- أن الأمل معدوم في “أن يُصنع بالعراق ألبسة بنفس الجودة التركية، ولكن إن حصل ذلك يوما ما فسنشتري من العراق دون الحاجة للسفر إلى تركيا”.

يقول أمين طه مدير شركة نقل في تركيا: العراق لا يصدر إلا النفط، وغير ذلك ليس لدينا ما نبيعه للأتراك، وأما التجار العراقيون فيشترون من الأسواق التركية كل شيء تقريبا، من الأحذية والألبسة والحقائب والأقمشة والأدوات الكهربائية الخفيفة وأدوات المنزل والمفروشات إضافة إلى القطاع الصناعي الذي يستورد المستلزمات الطبية والمولدات الكهربائية وغيرها الكثير.

ويختم حديثه بأرقام اقتصادية هائلة توضح حجم البضائع المستوردة من تركيا، إذ يقول: عام 2013 استورد العراق من تركيا بضائع بقيمة 12 مليار دولار، وكانت ذروة الاستيراد، أما عام 2019 فوصل حجم الاستيراد إلى 10 مليارات دولار.

سوق الأدوات والأثاث.. الصين تصنع والعراق يشتري

تعود الكاميرا إلى بغداد محطة رحلتها الأولى للتعرف على قطاع الأجهزة الكهربائية الذي كان قبل عشرات السنين قطاعا منتجا، إذ كانت تصنع في العراق شاشات تلفزيون ومكيفات وثلاجات وصناعات كهربائية أخرى، وقد انعدمت هذه الصناعات المحلية بشكل كامل، وتحول الشعب العراقي إلى مستهلك من الدرجة الأولى.

يتحدث حسين جاسم تاجر المواد الكهربائية بحسرة وحرقة على الصناعة في بلاده قائلا: كان لدينا مصنع في النجف أغلقناه بعدما توقف الدعم من الدولة، في السابق كانت الدولة تعطينا سيارات كل ثلاث سنوات وتسهيلات مصرفية وأرضا.

وأوضح أن 90% من الأجهزة الكهربائية في السوق العراقية مستوردة من الصين وبعضها من إيران وماليزيا، أما العلامات الشهيرة فهي قليلة لأن الطلب عليها ليس كبيرا بسبب أسعارها الغالية.

تجار الجملة العراقيون يعتمدون أسواق إيران وتركيا والصين لاستيراد مختلف أشكال بضاعتهم

وبما أن 90% من واردات الأجهزة الكهربائية من الصين، سافرنا إلى مدينة غوانزو الصينية برفقة تاجر المواد العامة عبد الله فاضل، وتصادفت الزيارة مع معرض دولي كبير يقام في المدينة، وتطرح فيه المصانع الصينية جديدها بكافة المجالات.

يتحدث التاجر فاضل عن صعوبات الحياة واللغة والتواصل في الصين ويضيف أنه: لا بد من وجود مترجم مع التجار العراقيين ليرافقهم عندما يريدون شراء البضاعة، فهذا يسهل عملية التفاوض والشراء.

واصطحبنا ميران كاك حسين -وهو تاجر ومدير شركة نقل في الصين- إلى مدينة فوشان الصينية التي تحتضن أكبر سوق للأثاث في العالم بأسعار تنافسية وجودة عالمية، مقارنة بالدول الأوروبية.

ويشير إلى أن: هناك في العراق مصانع ولكنها قليلة، وتركز على شغل اليد لا على الصناعات الكبيرة، فمن شبه المستحيل أن تصنع المصانع العراقية نوعيات وموديلات الأثاث التي تصنع في الصين.

وفي نهاية رحلتنا عدنا إلى عاصمة بلاد الرافدين ليلخص لنا التاجر عصام العلوي الفيلم ووضع العراق الكارثي بعدة عبارات: تكالبت الظروف كلها لتحطم العراق، لا أجد تفسيرا لما حدث ويحدث، لا يوجد من يحب العراق أو يؤلمه قلبه على الحال التي وصل إليها، كنا أوائل من صنع والآن لا شيء يصنع في العراق.