“دارفور أمل من رماد”.. قصة كفاح امرأة سودانية على ضوء شمعة

هنا دارفور الإقليم السوداني المشتعل بالأزمات والحروب، يهاجر السكان فيه من قرية إلى أخرى بحثا عن حياة لا تطرق أبوابها ألوان الموت، ولا تسيل في أرجائها دماء الأبرياء، ولا تتعرض فيها الأموال للسرقة.

رجال ونساء وأطفال يغشاهم خطر الموت من قبل مليشيات مسلحة تدعى “الجنجويد” وهو مصطلح سوداني يقصد به الرجل الذي يركب الجواد ويحمل مدفعا يُهاجم الناس مثيرا الخوف والهلع في صفوفهم.

من وسط تلك المعاناة يخرج الأمل الذي تمثّله فتاة سودانية لم يمنعها الفقر والخوف والنزوح عن قريتها من متابعة دراستها لعلها تُشعل شمعة تزيل بها ظلام الجهل والتخلف والقتل والخراب. بين أيدينا إحدى أفلام الجزيرة الوثائقية بعنوان “دارفور أمل من رماد” يسرد حكاية “سيّدة محمد” التي تحدت الظروف الصعبة وصنعت منها أملا في الحياة.

“الجنجويد”.. كابوس يلاحق أهالي” كيلا”

مع وقت الفجر المُبكر هاجمت مليشيات “الجنجويد” أهالي قرية “كيلا” في ولاية دارفور في السودان، فقتلوا 25 رجلا من الجهة الجنوبية وهرب الناس غربا إلى جبل “مرة” فواجهتهم المليشيات هناك بمزيد من القتل.

عند توقف إطلاق النار دفن الرجال ضحاياهم وبقي بعضهم في القرية فهاجمتهم المليشيات مجددا وقتلت 12 رجلا، ثم نزحوا إلى منطقة “الملم” ومكثوا فيها شهرا، لكن سرعان ما تعرضوا لهجوم جديد أيضا.

أفراد من جنود الجنجويد

تتحدث سيّدة عن هجوم الجنجويد في منطقة “مرشينخ” قائلة: لحظة الهجوم كنت في الطاحونة، سرقوا السوق واعتدوا على الناس، أمي وأبي كانا في المنزل، أما أخوتي الصغار فهربوا إلى الجبل، قضيت ليلتي في منزل أقاربي وعدت إلى المنزل صباحا، بعد هذا الهجوم نزحنا إلى “منواشي” وأقمنا فيها 15 يوما وعدنا بعدها إلى “مرشينخ”.

حالة من التشرد والتنقل من قرية إلى أخرى إدبارا من الموت أو القتل عاشتها عائلة سيّدة وأهالي قرية كيلا، يقول محمد خالد –والد سيّدة-: جعلت الحرب العديد من أهالي القرية في عداد المفقودين إضافة إلى إصابة الكثير منهم بالخوف والهلع والأمراض النفسية.

سيّدة.. أمنيات في التعليم لم تكتمل

ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى سيّدة وأختها سهيلة وهما تتجولان في الق

رية تتمنّيان البقاء سويا، ثم تتحدثان عن أهمية التعليم بالنسبة لسيّدة؛ لأنه ربما يُحسّن من ظروف العائلة الاقتصادية، فتتمكن من جمع المال وتعليم إخوتها الصغار الذين تسرّبوا من المدرسة بسبب الفقر.

التحقت الأختان بمدرسة الزهراء دون مساعدة أبيهما، وهناك تميّزت سيّدة علميا. تقول المعلمة نوال أحمد: رغم ظروف سيّدة الصعبة فإنها كانت ترغب في التعليم فلم تفوت حصة واحدة.

مدرسة الزهراء حيث درست “سيدة” وتفوقت لتنتقل منها بمنحة دراسية إلى الجامعة

مجددا عادت سيّدة إلى القرية، تظهر في الفيلم وهي تجلس على كومة من الحطب تتحدث عن أعمال مارستها كي تحصل على المال من تنظيف المزارع إلى صناعة السعف، ثم عملت مع خالتها في صناعة الفحم الذي كان ذا مردود مالي أفضل عليها.

بعد وصول سيّدة إلى الصف الثامن افترقت مع أختها فذهبت إلى مدرسة الوحدة؛ لأنها قريبة من المنزل وتكاليفها المالية قليلة، وفي مرحلة الثانوية حصلت على قبول جامعي لدراسة اللغة العربية في جامعة القرآن الكريم.

توجهت إلى الجامعة برفقة والدها محاولة الحصول على تخفيض مالي على الرسوم الجامعية، لكن الجامعة تعذّرت بأنها طالبة جديدة وبالتالي لا يشملها أي خصم مالي، مما اضطرها إلى ترك الجامعة والعودة إلى قريتها الأصلية “كيلا” باحثة عن العمل هناك.

صناعة الفحم.. لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبِر

بعد عمل استمر شهرين في صناعة الفحم، قررت سيّدة العودة إلى منطقة “مرشينخ” حتى تقدم اختبار الصف الثالث الثانوي، ومن حسن حظّها وافقت المدرسة على ذلك من خلال الدراسة المنزلية؛ لأن المال الذي معها لا يكفي للالتحاق بالدراسة بشكل منتظم.

مجددا عادت سيّدة إلى القرية، تظهر في الفيلم وهي تجلس على كومة من الحطب تتحدث عن أعمال مارستها كي تحصل على المال من تنظيف المزارع إلى صناعة السعف، ثم عملت مع خالتها في صناعة الفحم الذي كان ذا مردود مالي أفضل عليها.

بالتعاون مع أهل القرية تقزم “سيدة” بحرق الحطب وتحويله إلى الفحم ثم وضعه في أكياس بهدف بيعه

تقول زكية خليل “خالة سيّدة”: سكنت سيّدة معي، وتشاركنا في قطع الأخشاب وصناعة الفحم؛ حتى تحصل سيّدة على المال وتلتحق بالجامعة. كانت الفتاة وخالتها تخرجان في الصباح الباكر إلى الوادي شمالا، تقطّعان الأخشاب حتى الساعة الثالثة ظهرا، ثم تنتظران عودة المزارعين ومعهم “العربة كارو” وهي العربة التي يجرها حمار.

وبعد شهر واحد من العمل، تقوم بالتعاون مع أهل القرية في حرق الحطب وتحويله إلى الفحم ثم وضعه في أكياس بهدف بيعه لتاجر من منطقة “الفاشر” شمال درافور. كيس الفحم الواحد ثمنه 50 جنيها، أي أن العمل لمدة شهرين يعود عليهن بمبلغ 1000 جنيه تتقاسمه زكية مع ابنة أختها.

جامعة “الدلنج”.. على باب آفاق جديدة

بعد عمل استمر شهرين في صناعة الفحم، قررت سيّدة العودة إلى منطقة “مرشينخ” حتى تقدم اختبار الصف الثالث الثانوي، ومن حسن حظّها وافقت المدرسة على ذلك من خلال الدراسة المنزلية؛ لأن المال الذي معها لا يكفي للالتحاق بالدراسة بشكل منتظم.

“سيدة” طالبة تنمية مجتمع على مقاعد جامعة “الدلنج”

نجحت سيّدة في اجتياز الاختبار ثم حصلت على قبول في جامعة “الدلنج” الواقعة في ولاية كردفان السودانية والتحقت بكلية تنمية المجتمع. تعرّفت إلى زميلة لها في الجامعة اسمها خنساء عمر، صديقة جديدة لم تعرفها من قبلُ في مقاعد الدراسة، لكن سرعان ما ترسخت العلاقة بينهما وتبادلتا الزيارات.

تظهر سيّدة وهي تقف مع زملائها في ساحة الجامعة، ثم ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى داخل المحاضرة.

المحاضر: ما هو مفهوم التنمية البشرية؟

سيّدة: هو الذي يهتم بالكادر البشري من الناحية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.

الفول السوداني.. مطية التعليم الجامعي

بعد التحاق سيّدة بالجامعة خرج جميع إخوتها من المدرسة لتصبح هي الفتاة الوحيدة التي تتلقى العلم في العائلة، ولتوفير احتياجاتها الدراسية تقول سكينة الأمين -والدتها-: نبيع الفول السوداني ونرسل النقود إلى سيّدة كي تكمل دراستها.

وتعمل العائلة أيضاً في زراعة الذرة وتستخدم العربة كارو في نقل الأخشاب والتربة الطينية للمزارعين وعندما تعود سيّدة إلى القرية أثناء العطلة فإنّها تعمل في “السعف” قبل أن ترجع إلى جامعتها.

“رفيعة الأمين”.. أشواك في طريق التعليم

قبل أن يدمر الجنجويد المدرسة الأساسية في منطقة “مرشينخ”، كانت رفيعة الأمين خالة سيّدة قد تلقت تعليمها الأساسي فيها، ثم تقدمت لاختبار القبول في جامعة “نيالا” وحصلت على القبول الجامعي، لكن ظروف عائلتها الصعبة أجبرتها على ترك مقاعد الدراسة.

عندما تعود سيّدة إلى القرية أثناء العطلة فإنّها تعمل في “السعف” قبل أن ترجع إلى جامعتها

عادت إلى قريتها لمساعدة عائلتها في توفير لقمة العيش، ثم بعد تحسّن وضعها الاقتصادي حاولت العودة إلى الجامعة، ففوجئت بفقدانها الحقّ في إكمال دراستها لأنها تركت الجامعة دون أن تجمّد فصلها الدراسي.

وعلى الرغم من رفض الجامعة لها بإكمال الدراسة وكانت قد أنهت عامين دراسيين، تقول رفيعة: قدمت مجددا للدراسة وتغلبت على الرفض واستطعت أن أكمل دراستي.

تكاليف العيش.. التكاتف العائلي

يعرض الفيلم صورا من الحياة الريفية: أراض زراعية، وعربة كارو، ثم تتحدث سكينة والدة سيّدة عن بيعها للفلافل كي تشتري بثمنه الخضار واللحوم اللازمة للمنزل.

يتكامل أفراد العائلة في العمل، فالأبناء يجهّزون المعدات الزراعية، الابن الأكبر “عدروس” يُعد العربة كارو ثم تقوم البنت بنقل الأشياء عليها، في حين تجهّز سكينة البذور والدقيق والسكر.

في الحقل يحرث والد سيّدة الأرض، وتقوم والدتها برمي البذور؛ تزرع اللوبياء والفول، بينما تجهز البنات الإفطار، وأثناء العودة إلى المنزل يُطعم الحمار العلف ويُسقى الماء.

على ضوء النار.. شمعة تضيء للأجيال

تظهر سيّدة في الفيلم وهي تقرأ من كتاب على ضوء الشمعة، ثم ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى ساحة مفتوحة وسط القرية فيها سبّورة ومعلمة تدرّس الحروف الأبجدية.

تعد سيّدة الجهل سببا رئيسا في الحرب؛ لأن الجاهل لا يعلم أحكام الدين في السرقة والقتل وغيرها، ولو علم ذلك لامتنع عن ارتكاب الجريمة.

ثم تتحدث عن المساواة بين الناس، ناقلة جزءا من الحديث النبوي الشريف: “لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى”، ثم تدعو إلى عدم تمييز الفتيان على الفتيات في فرصة تلقي العلم، وتعتبر أن الفتاة المتعلمة يؤثّر تعلّمها على أبنائها في المستقبل سلوكا ووعيا وثقافة.

على ضوء شمعة، تدرس “سيدة”.. فمن طلب العلى سهر الليالي

بالعلم تُبنى الأمم، ولعل عامل وجود الحرب في أمّة ما، يدفعها إلى تحدّي الظروف التي تعصف بها كي تتغلب على كبوتها وتنهض نحو حياة أفضل.

فتاةٌ سودانية لم يشغلها الخوف عن طلب العلم، بل سلكت مسالكه الصعبة ثم رجعت إلى قريتها تعلم النشء الكتابة والقراءة، تغرس فيهم قيم الحياة كي تنمو شجرة الوطن طيبة ثابتة راسخة لا تُجتث من قبل مليشيات لا تعرف سوى الموت والسرقة وتبديد الثمرات.