نساء يبحثن عن الزواج.. فهل فات القطار؟

ستتلقى “أوهاوي ماي” المحامية الناجحة ذات الـ34 عاما حُزمة من الملاحظات المُحبطة للغاية بدل كلمات التشجيع، من موظفة المكتب الصيني لتسهيل التعارف بين الجنسين وترتيب الزواجات، فهي –بحسب الموظفة– عادية الجمال ولن تثير اهتمام الكثير من الرجال إلى الحد الذي يدفعهم لطلب الزواج منها، كما أنها بلغت سنا متقدمة كثيرا في الأعراف الصينية، ولذلك فإن عليها أن لا تكون مُتطلبة، بل تقبل بأول الراضين بها.

كما يجب عليها أيضا أن تودع شروطها وأحلامها السابقة بخصوص شريك الحياة إذا رغبت فعلا في اللحاق بقطار الزواج الذي يمرّ بسرعة خاطفة على أعتاب بيوت النساء الصينيات.

عتبة الثلاثين عاما.. مخاطرة العنوسة الأبدية

ستكون “أوهاوي ماي” إحدى الشخصيات الثلاث للفيلم الوثائقي “نساء فضلات” (Leftover Women) للمخرجتين “هيلا ميداليا” و”شوش شلام”. وعبر قصص النساء الثلاث وتفاصيل الحياة اليومية وطريقهن للعثور على زوج المستقبل، سنتعرف على تقاليد وظروف الزواج في الصين، وكيف أن النساء هناك ما زلن في بداية الطريق عندما يتعلق الأمر بحقوقهن في الزواج في السن التي يرغبن بها، ذلك أن بداية ما يعرف بسنوات العنوسة في الصين تأتي مُبكرة كثيرا هناك، فالنساء اللواتي يقتربن من سن الثلاثين دون زواج يخاطرن بالبقاء عازبات حياتهن كلها.

إلى جانب المحامية هناك شابة اسمها “إكسيو مين” تبلغ 28 عاما من العمر، وتعمل مذيعة راديو، وتُعاني هذه الشابة الوحيدة لأهلها من علاقة صعبة مع والدتها، وسوف يركز الفيلم على هذا الجانب.

أما الشخصية الثالثة والأخيرة، فهي مُدَرِّسة جامعية في حقل السينما اسمها “جا إيكيو أي”، وتبلغ 36، وعندما يصل الفيلم التسجيلي إلى هذه المُدرّسة، تكون قد وجدت شريك حياة أصغر منها سنا، وسيسجل الفيلم الوثائقي علاقتها مع زوجها المستقبلي وإنجابها لطفلها الأول.

يُذكّر الفيلم في افتتاحيته بأن سياسة الطفل الواحد التي سارت عليها الدولة الشيوعية لعقود أنتجت مجموعة من المشكلات الاجتماعية العميقة التي تبدو بعيدة عن المعالجة الفعلية الجادة، فرغم أن عدد الرجال يفوق عدد النساء في الصين اليوم بـ30 مليونا، فإن الحكومة الصينية تشجع وتحفز الزواج المبكر فقط، وتهمل الذين تجاوزوا منتصف العشرين، وهذا سيكون أحد الأسباب لمشكلة العنوسة في الصين، والتي يشكو منها الكثير من الرجال أيضا.

رموز حب أيقونية.. حملات تنمر إعلامية

تظهر شعارات الحب ورموزه الأيقونية في كل مكان في المدن الصينية، وأحيانا تكون مطبوعة على الأرض وتدوس عليها أقدام العابرين في المدن المكتظة بالناس، وإعلانات مواقع المُواعدة الإلكترونية، وشركات إيجاد العريس المناسب مُعلقة على جدران محطات المترو.

تتوجه هذه الإعلانات إلى فئات عمرية بعينها، وتهمل الذين تجاوزوا الثلاثين من العمر، بل إن المحامية “أوهاوي ماي”، ستكشف أن الحكومة تدعم أو تغض النظر عن حملات تنمر في الإعلام الصيني ضد النساء اللواتي لم يتزوجن بعد الثلاثين، حيث يقوم بالسخرية منهن وأحيانا شيطنتهن عبر رسومات كاريكاتورية تُنشر في صحف صينية كبيرة.

مذيعة الراديو “إكسيو مين” في حديقة الزواج في بكين أملا بإيجاد زوج المستقبل

يُرافق الفيلم “أوهاوي ماي” و “إكسيو مين” في سعيهن لإيجاد شريك الحياة المستقبلي، وتلجأ المرأتان إلى نشاطات المُواعدة الجماعية التي تنظمها شركات خاصة، ويشترك فيها أعداد كبيرة من النساء والرجال الذين يتبادلون الأحاديث القصيرة، ليقرروا بعدها إذا أحبوا مواصلة الاتصال ببعضهم.

ينقل الفيلم حرج المواقف التي تولد في مثل هذه التجمعات، فالخجل كان باديا على مذيعة الراديو التي كانت تنتظر ردة فعل شاب كان ينتقي في نهاية زمن الفعالية المرأة التي يريد أن يقابلها بشكل مُنفصل في المستقبل.

“أريد رجلا من مدينة كبيرة”..  مواقع اختيار زوج المستقبل

تصطدم المحامية ذات الشخصية القوية سريعا بذهنيات الذين تقابلهم في هذه النشاطات العامة، ففي أحد اللقاءات لها مع مرشح عاطفي مُحتمل، ستصارحه بشكل مهذب أنها تريد من زوج المستقبل أن يشاركها المهام المنزلية في البيت لأن عملها المتطلّب لا يترك لها الكثير من الوقت، لكن الرجل الصيني يرفض هذا التقسيم مباشرة، ويعلن أنه يريد أن يكون الطرف المهيمن في الزواج.

بدا الانزعاج واضحا على ملامح المحامية في لقاء آخر، وهي تقابل رجلا جاء بملابس الرياضة لمقابلتها، وهي التي قَضت ساعات طويلة من أجل العثور على الملابس المناسبة للقاء.

المحامية “أو هاوي ماي” في لقاء تعارف يبوء بالفشل مع أحد الصينين الذين يريدون أن يكونوا الطرف المهيمن في الزواج

تغوص مذيعة الراديو في عوالم مواقع المواعدة والبحث عن شريك الحياة على الإنترنت، يصور الفيلم الفتاة برفقة صديقة لها وهي تحاول أن تجد طريقها في هذه المواقع التي توفر خيارات كثيرة جدا، وتقول لصديقتها دون مواربة: أُريد رجلا من مدينة كبيرة وليس واحدا من أبناء الأرياف.

لا يبدو التعالي الطبقي نقيصة في الصين، فشخصيات فيلم “نساء فَضْلات” يتحدثن بدون تحفظ أو لياقة اجتماعية عن الفروقات الطبقية في المجتمع وكأنها من الأمور المفروغ منها، فعندما تلتقي المحامية بأبيها الذي يعيش في قرية فقيرة، يهاجمها الأب على تأخر زواجها، ويذكرها بأن لا أحد من أبناء العائلات العريقة في العاصمة بكين حيث تعيش يرضى أن يتزوج بفتاة مثلها آتية من الريف.

“أنتِ أنانية لا يهمك أهلك”.. قسوة العائلة

يُسجل الفيلم أوقاتا حساسة وشخصية كثيرا لشخصياته وهي تخوض صراعات وشجارات مع عائلاتها، مثل المشاهد الطويلة للمحامية التي عادت إلى عائلتها في القرية، لتجد الجميع ينتظرها بعتاب لن يتوقف أبدا طوال فترة وجودها هناك.

تعاتبها أختها قائلة “أنتِ أنانية كثيرا، ولا يهمك أهلك أو والديك”، أما أُمّها فتذكّر ابنتها بأن عدم زواجها هو همّها الوحيد الباقي في الحياة، وأنها لا تريد أن تغادر العالم دون أن ترى ابنتها زوجة، وسيدفع هذا الضغط واللوم المحامية القوية إلى البكاء.

تكشف الصدامات العائلية القسوة الموجودة في الحياة العائلية الصينية، فالمذيعة الشابة تهاجم أُمّها بعنف كبير، وتتهمها بأنها تهيمن على كل تفاصيل حياتها، “أنتِ سبب كل الشقاء الذي أعيشه أنا وأبي”، وتواصل مهاجمتها أثناء تناول الطعام “أنا وأبي أذكى منك كثيرا، وهذا سبب مشاكلنا، كان خطأ كبيرا زواج أبي منك، فأنت لست نظيرة له في الذكاء”.

أما أمها فتذكرها قبل أن تترك الشقة بغضب بأنها هي من دفعت تعليمها الغالي، وهي أيضا التي اشترت لها شقة وسيارة ووفرت لها كل ظروف الحياة المريحة.

“هذا طريق نمشي عليه جميعا”.. إكراهات مجتمع

تُوفر مشاهد مُدرسة الجامعة زاوية جديدة للنظر في طبيعة العلاقات المُعقدة التي تربط بين الأزواج في الصين، إذ يكشف خطيب المرأة المثقفة بأنه أخفى فرق العمر بينه وبينها عن الجميع، خوفا من عتب الناس وملامتهم، وأنه كان قلقا من أن زوجة المستقبل تكبره في العمر، أما المدرّسة المثقفة فيبدو أنها اختارت أن تتزوج شخصا من طبقة اجتماعية أقل من طبقتها، بسبب ضغوط المجتمع والعائلة.

تُكثف المشاهد التي صورت زواج “جا إيكيو أي” الوحدة التي التقطتها بحساسية كاميرات المخرجتين، إذ تجلس المثقفة الصينية في غرفة الزواج في واحد من هذه المشاهد تنتظر بضجر وحزن إتمام مراسيم الزواج التقليدي الصيني، وتذكرها أمها قائلة “هذا طريق نمشي عليه جميعا، ولا يمكن الحياد عنه لأي شخص”، بينما كان يجب عليها توديع حياتها السابقة والبحث عن عمل جديد في المدينة التي انتقلت إليها للالتحاق بزوجها الذي يعيش هناك.

“جا إيكيو أي” المُدَرِّسة الجامعية في حقل السينما في غرفة زفافها، بعد أن وجدت شريك حياة أصغر منها سنا

وإذا كانت “جا إيكيو أي” استجابت لضغوط المجتمع الخارجية، فإن المحامية “أو هاوي ماي” تبدو على النقيض من ذلك، إذ إن الضغط الكبير عليها جعلها تفكر بترك الصين والذهاب إلى فرنسا لتكملة دراستها هناك، وهذا ما يتحقق بالفعل، بينما تفشل في التواؤم مع المجتمع المحيط من حولها، والذي يضغط عليها لكي تستجيب لشروطه.

تجميد البويضات.. حق محصور على الرجال

يُرافق الفيلم “أو هاوي ماي” في زيارة إلى عيادة طبية خاصة للاستفسار عن إمكانية تجميد البويضات من أجل استخدامها في وقت لاحق إذا تعذر موضوع زواجها لسنوات، لكن الصين لا تُشرّع قوانين في هذا الاتجاه، وعلى التي ترغب في تحقيق أمنية إنجاب الأطفال عن طريق التلقيح الصناعي الذهاب إلى خارج الصين.

تُخبر الطبيبة “أو هاوي ماي” بأن هناك تشريعات لحفظ السائل المنوي للرجال في الصين، لكن لا توجد تشريعات مماثلة حتى اليوم تساعد الصينيات اللواتي يرغبن بتأخير إنجاب الأطفال لظرف أو لآخر.

مذيعة الراديو “إكسيو مين” تُعاني من علاقتها الصعبة مع والدتها نظرا لأنها وحيدة العائلة

تبدو الحساسية النسوية للمخرجتين واضحة عبر مشاهد الفيلم وروحه الحميمية، تلتقط المخرجتان الوحدة والضيق الذين تعيش فيهما شخصيات الفيلم، والصراع الداخلي المتواصل في دواخلهن، والتمزق بين الإذعان للضغط الخارجي، أو الوفاء للنفس والثقة بها لكي تأخذ القرارات المناسبة.

هناك مشاهد عديدة في هذه الخصوص منها التي تسجل وحدة الشخصيات وسط جموع بشرية كبيرة في المدن المزدحمة حيث يعشن، أو تلك التي تكون قريبة من الانفجارات النفسيّة الواقعة بين المحامية ومذيعة الراديو وعوائلهن، والتي كانت في مواضع حميمية صعبة على المشاهدة.

حديقة الزواج ببكين.. مطاردة حظ زواج الأبناء

يُسجل الفيلم لقطات من الحياة اليومية في ما يُعرف بحديقة الزواج في العاصمة الصينية بكين، وتجمع الحديقة آباء وأُمّهات يعلنون بالصور والنصوص المعلقة عن أبنائهم وبناتهم الذين يبحثون عن شريك المستقبل، بينما يسير الباحثون عن زوج أو زوجة بين الإعلانات الموضوعة على الأرض أو المعلقة على أسوار الحديقة وأحيانا على الأشجار.

رغم غرابة فكرة حديقة الزواج، فإن الفيلم يأخذ المسافة المناسبة تماما من رواد هذا التجمع، ويعرضهم دون أحكام مسبقة أو سخرية، ويركز على رغبات هؤلاء الآباء والأمهات الذين بلغ بعضهم عمرا متقدما للحصول على شريك حياة لأبنائهم وبناتهم قبل فوات الأوان.

وجه متصلب حزين.. هجرة تفرض نفسها

يكشف الفيلم -وربما من دون قصد- الهوة التي صارت قائمة بين المجتمع الصيني المحافظ، وبين نساء من البلد بلغن مراتب مُتقدمة في الثقافة والسلم الوظيفي ولم يعدن يرضين بالحلول التقليدية أو الزواج برجال متسلطين، رغم أن ثمن ذلك قد يكون البقاء دون زواج في مجتمع يُعامل النساء غير المتزوجات بقسوة كبيرة، بل يكاد يقضي على كيانهن وطموحاتهن الأخرى خارج نطاق مؤسسة الزواج.

المحامية “أوهاوي ماي” أضحت وحيدة في حياتها، حيث أجبرتها الظروف على الهجرة من الصين

ولعل خاتمة الفيلم، إشارة بليغة على أزمة النساء المُتعلمات والقويات في الصين والطريق المسدود الذي يواجه معظمهن، إذ تُجبر الظروف الصعبة المحامية القوية على الهجرة من الصين، ونراقب في مشاهد عديدة وجهها المُتصلب والحزين وهي تودع أهلها في القرية الصغيرة التي ولدت فيها، ثم ينتقل الفيلم مع شخصيته إلى فرنسا حيث تعيش اليوم، ويصورها في مشاهده الختامية وهي تقود بثقة وسعادة واضحتين دراجة هوائية في أحد الحقول الخضراء هناك.