“الزعيمة”.. ثرية عربية تستحوذ على تجارة المخدرات في باريس

اكتشفت المترجمة القانونية باللغتين الفرنسية والعربية والمتخصصة في التنصت على المكالمات الهاتفية لفرقة ملاحقة مهربي المخدرات في قسم الشرطة أثناء التحقيقات أن أحد المُتاجِرين ليس سوى ابن الممرضة المخلصة التي تعتني بوالدتها، فقررت التستر عليه ووجدت نفسها على رأس حركة تهريب ضخمة.

“لا دارون” (La Daronne) فيلم الفرنسي “جان بول سالومي”، ويتناول بأسلوب هزلي خفيف أوساط مهربي الحشيش وموزعيه في فرنسا عبر تغلغل مترجمة في صفوفهم، معرجا بهذا على الفرنسيين ذوي الأصول العربية الذين يروجون للمخدرات.

يعني العنوان (La Daronne) مصطلح الأم أو الزعيمة بالفرنسية، لكنه لا يستخدم إلا نادرا بهذا المعنى لما له من دلالات أخرى، ومنها على سبيل المثال استعماله من قبل الشرطة كلقب لوافدة جديدة تحل في منتصف صفقة مخدرات، وهو ما يمكن أن يقابله بالعربية في هذه الأوساط “الزعيمة”.

ابنة رجل العصابات.. أثقال الماضي

يعتمد الفيلم اعتمادا كليا على حضور النجمة الفرنسية “إيزابيل أوبير” في دور “باسيانص” الشخصية الرئيسية، وهي في الخمسينيات من العمر، كما أنها أرملة فقدت زوجها منذ سنوات وأم لشابتين، ومتعلقة بوالدتها المغاربية ومهتمة برعايتها.

تتقن “باسيانص” اللغة العربية مما سمح لها بالعمل كمترجمة في الشرطة تابعة لقسم مكافحة المخدرات، وهي سعيدة في عملها ولكن ذاكرتها مثقلة بماض معقد يتمثل في والدها الفرنسي رجل العصابات وزوجها الراحل المشبوه، مما يلقي بظلاله على حياتها اليومية.

تعاني “باسيانص” من أزمات مالية فقد ترك لها زوجها ديونا كثيرة وعليها تسديدها، كما تتكفل بدفع أجور إقامة أمها المغاربية في دار المسنين، وتستمع للتسجيلات الصوتية في عملها، سواء أكان في المكتب مع فريق الشرطة أو في البيت أثناء القيام بالأعمال المنزلية، كما تدون مكالمات المهربين باللغة العربية وتترجم بكفاءة وإخلاص كل ما يتعلق بمحادثاتهم.

ترتدي “باسيانص” حجابا وعباءة سوداء لكي تبدو أنها قادمة من بلاد العرب وحتى تُحيّر جميع من يلتقي بها

قسم مكافحة المخدرات.. مترجمة عربية تصطاد كنزا

خلال تنصتها لإحدى المكالمات عرفت من خلال بعض التفاصيل أن أحد المهربين هو ابن ممرضة تثق بإخلاصها ورعايتها لأمها في دار المسنين، فقررت فورا التدخل لإنقاذه، مما يدفعها بالتالي إلى تحوير الترجمة والكذب على زميلها المسؤول.

يضطر الابن الشاب -بعد تنبيه أمه له كي لا يقع في كمين نصبته الشرطة- لتفريغ شحنة الحشيش الضخمة في مكان مهجور بالقرب من مخرج إحدى الطرق السريعة، وبهذا ساهمت الصدفة ومجموعة من الظروف الأخرى في وضع المترجمة “باسيانص” أمام مخزون ضخم من الحشيش، وبعد أن كان دافعها نبيلا في البدء قررت أن  تستثمر الأمر لصالحها بالكامل فيما بعد.

تتصاعد الأحداث إلى الذروة مع قرار “باسيانص” استغلال الفرصة للحصول على مال وفير وبيع الحشيش، فتحاول التعامل مع المهربين -وهي الخبيرة بأساليب الشرطة- بحكمة وصرامة ودهاء متنكرة بزي امرأة عربية غنية.

ولكي تبدو وكأنها قادمة من بلاد العرب فإنها كانت ترتدي حجابا وعباءة سوداء ونظارات شمسية عريضة، لتحير هذه القادمة الجديدة الجميع، فمن هي زعيمة المخدرات الباريسية تلك التي تتحايل بذكاء على رجال الشرطة والمهربين معاً؟ فالشرطة كانت تتابع العصابة بنجاح إلى اللحظة التي تتدخل فيها المترجمة/الزعيمة التي أطلقت على نفسها لقب “دارون”، والمهربون يحاولون القضاء عليها دون نجاح.

تحمل “باسيانص” بضائعها في أكياس حتى لا تثير أية شبهة حولها فيما يخص تجارة المخدرات

غباء الشرطة والعصابات.. كوميديا تكسر منطقية الحبكة

أخذ الفيلم اقتباسا عن رواية بنفس العنوان للكاتبة الفرنسية “هانيلور كاير”، وهو مبني تماما على الشخصية والمواقف الهزلية الموفقة أحيانا وغير المقنعة في أحايين أخرى عديدة، لكنه كأي فيلم ينتمي لهذا النوع فإن السيناريو لا يكترث كثيرا بمدى منطقية الحبكة، كما أن الأسلوب الإخراجي قائم على المبالغة بهدف إنجاح الموقف الكوميدي.

فمن جهة يبدي الفيلم رجال العصابات أغبياء ويستخف بقدرتهم على التخلص من امرأة طارئة على المهنة، ومن جهة أخرى يفعل المثل مع فرقة مكافحة المخدرات في الشرطة التي تفشل خططها في الإمساك بالزعيمة.

النجمة الفرنسية “إيزابيل أوبير” التي أدت دور الشخصية الرئيسية “باسيانص، وهي أرملة وأم لشابتين هذه إحداهن

“إيزابيل أوبير”.. حضور رسم نجاح الفيلم

ساهم حضور النجمة “إيزابيل أوبير” الطاغي وتمحور السرد حولها بجميع مشاهد الفيلم تقريبا في إنجاح الفيلم جماهيريا، ويمكن القول إن المخرج نجح في منح هذه الفنانة دورا كوميديا جديدا عليها، وهي التي اشتهرت بأدوار صعبة معقدة ومأساوية جديرة بأفلام التحليل النفسي.

وكان من أبرزها تلك الأفلام التي أخرجها الفرنسي الشهير “كلود شابرو”، وهي هنا تقدم دورا مغايرا لكل أدوارها السابقة، تبالغ فيه حين يتطلب منها الموقف المبالغة لا سيما في المظهر، حتى تبدو وكأنها تتسلى جدا بأدائه وهو الغريب عليها.

تنجح “إيزابيل” بإعطاء التنوع اللازم حين تكون ابنة حنونة وأما محبّة وأرملة مخلصة ومترجمة صادقة، أو زعيمة عصابة مخدرات محترفة، وتستطيع أن تمنح هذا الشعور بالبعد في جميع أحوالها من خلال نظرتها الغائبة الحالمة.

“إيزابيل أوبير” من الممثلات اللواتي يسيطرن بحضورهن على الشاشة على نحو لا يرى معه المشاهد غيرهن، وإنما كان مؤسفا أن تلفظ العربية بهذا السوء في حوارات تافهة في معظم الأحيان، وذلك على الرغم من أن الممثلة تعلمت اللفظ ومخارج الحروف، إذ لم يكن ممكنا لمشاهد يتحدث العربية فهم أي شيء مما كانت تقوله بهذه اللغة.

هذا على الرغم من كل الجهود التي بذلتها ورغم بساطة وقلة الجمل التي نطقتها، وكان المخرج استعان بمترجم في القضاء يعرف التعابير العربية المستخدمة لدى عالم المهربين للاقتراب منهم.

“باسيانص” تجلس مع أحد المهربين المغاربة لتعلمه أصول التعامل المهني فيما يخص تهريب الحشيش

تهريب الحشيش.. أفكار نمطية في ثوب هزلي

تعامل الفيلم -المبني على المواقف الهزلية- مع الأفكار النمطية المتعلقة بالعرب والآسيويين في فرنسا بكل ذكاء وبساطة، وإن كانت تلك نمطية فقد قدمت بأسلوب ظريف خفيف يثير الضحك ولا يثير الاستنكار، لا سيما أن السيناريو -كما ذكر أعلاه-مأخوذ عن كتاب استوحته كاتبته من حياة والديها  ومن قصص صادفتها خلال عملها في سلك القضاء الفرنسي، حيث دافعت عن مهربين صغار وكبار  من العرب والصينيين، وهي على دراية تامة بما يحدث هناك، وتعرف كل الإجراءات والحوارات من مراقبتها الدقيقة لعالم المهربين.

ينشط ذوو الأصول العربية في أوساط تهريب الحشيش، بينما يهتم الآسيويون -والصينيون منهم على وجه الخصوص- بتملك العقارات والسيطرة على بعض المهن في فرنسا، لقد أظهر السيناريو هذا دون حرج في وقت تسود فيه الصوابية السياسية والاجتماعية، ونجح المخرج في إبرازه بأسلوب هزلي لا يمت للعنصرية بصلة.

البطلة “باسيانص” مع جارتها الصينية “مدام فو” مالكة البناية الصينية التي تسكن فيها المُترجمة، حيث تتصالحان وتتفقان على تعاون تجاري بينهما

“مدام فو”.. دهاء الجارة الصينية الهادئة

لا يجب توقع الكثير في هذا الفيلم  الذي تجاور فيه الكوميديا مع النمط البوليسي الخفيف، لكن تبقى مشاهد البطلة “باسيانص” مع جارتها الصينية “مدام فو” (الممثلة “ناديا نغوين”) من أفضل المشاهد، و”مدام فو” هي مالكة البناية الصينية التي تسكن فيها المترجمة.

وقد أدركت منذ البداية أن المترجمة تخبئ المخدرات في المستودع، لكنها احتفظت بالسر للوقت المناسب، وقد نجحت بأسلوب كلامها ولهجتها الفرنسية وحركاتها في تجسيد شخصية تعبر عن امرأة أعمال متدبرة ذكية وطريفة وتعرف من أين تؤكل الكتف، وكل هذا في مشاهد قليلة لكنها كانت كافية للإحاطة بها.

كما أبدعت بدورها في إظهار دهاء خاص تتميز به وتصرفها مع “باسيانص” وكأن شيئا لم يكن، وفي هذا تلميح إلى السرية التي يتعامل بها الصينيون لأداء أشغالهم.

لا يخلو الفيلم إذن من ظرافة ومواقف ساخرة، لا سيما في أسلوب تعامله مع ذوي الأصول الأجنبية فهذا أهم ما فيه، لكن ببقائه على السطح في معالجته وعدم اهتمامه كما يجب ببقية شخصيات الفيلم إلا بمقدار علاقتهم بالبطلة، فذلك يجعله فيلما خفيفا صالحا فقط لقضاء وقت ممتع، وهذا ربما ليس بالشيء القليل.