“200 متر”.. قفز الإنسان الفلسطيني على حصار الزمان والمكان

200 متر هي مسافة قطعها العدّاء “يوسين بولت” في أقل من عشرين ثانية، أما الرجل العادي فيقطعها مشيا فيما يقارب الدقيقتين والنصف، لكن هذه المعادلة يمكن أن تختلف كليا إذا أعدنا صياغتها كالتالي: المسافة (200 متر) مضروبة في الزمن (زمن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين) مضروبا في المكان (الضفة الغربية)، فإن النتيجة تساوي يوما بحاله مما تعدون.

وإن لم يستطع العقل البسيط أن يفهم كيف يمكن أن نقطع 200 متر في يوم كامل، فإن فيلم المخرج أمين نايفة “200 متر” يمكن أن يكون درسا في إعادة حساب معادلة الزمن والمسافة، وذلك في 96 دقيقة فحسب هي طول الفيلم.

جدار الفصل العنصري.. رحلة المأساة الفلسطينية إلى الأوسكار

أعاد المخرج الفلسطيني أمين نايفة في فيلم “200 متر” كتابة مأساة جدار الفصل العنصري وإن سبقه لذلك كثيرون، لكن ما يميز هذا العمل عن غيره هو التنزيل الزمكاني المبدع لقضية الجدار، وفنية كتابة القصة بقلم رصين، خاصة وأن المخرج مهّد لفيلمه الطويل الأول بفيلمين قصيرين، هما “زمن معلق” (2014)، و”العبور” (2017).

هنا نستشف فيلما مصقولا وشخصيات تجرك جرّا لتشاركها الأحداث بحزنها وفرحها، رغم أن المخرج لم يتعمد خلق هذه المشاعر بصور الحرب والقصف والدماء، بل جعلها قصة الفلسطيني البسيط في معاناته اليومية.

وربما أراد أمين نايفة القول إن ألم الشتات والفصل يمكن أن يكون بنفس حدّة ألم القصف والجروح، فكل هذه العناصر الفنية والدرامية اجتمعت وكانت سببا في أن يرشح الأردن فيلم “200 متر” إلى الأوسكار بكل ثقة.

“200 متر”.. قصة من عوالم المُخرج الشخصية

قبل الغوص في الفيلم لا بد من العودة إلى حياة أمين نايفة الذي كانت قصة الفيلم قصته الشخصية، وإن لم تكن سيرة ذاتية، إلا أنها كانت من صميم معاناة المخرج وعائلته، لذلك نجد أن الفيلم محبوك دراميا ومليء بنقاط القوة في الشخصيات والأحداث، باعتبار أن المخرج عايشها وأعاد كتابتها بطريقته.

يقول أمين نايفة في حواره مع جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 28 أكتوبر/تشرين الأول 2020: قصة الفصل العنصري هي قصة أمي، فقد نشأتُ في بيت جدي وجدتي وأخوالي، ولأننا ننتمي لقرية من عرب 1948 فقد انفصلنا بعد إقامة الجدار، وبدا كأن أهلنا يعيشون في كوكب آخر، لذا أردت أن أحكي في فيلمي عن هذا الفصل العنصري، وسيطرت عليّ الفكرة منذ عشر سنوات تقريبا، ولم أكن أعرف الطريقة المثلى لهذا الحكي، لذا كتبته ثماني مرات تطوّر خلالها السيناريو كثيرا حتى شعرت بالرضا عنه.

كان يمكن أن تكون قصة فيلم “200 متر” قصة بسيطة بالضبط كقصص أفلام الواقعية في السينما الإيرانية والإيطالية، إلا أن التحول الدرامي السلس جعلها تتفرد بنقطة ذروة محكمة جدا، يمكن بصريح العبارة أن تؤسس للسينما الفلسطينية كمدرسة سينما واقعية قائمة الذات.

الفيلم عبارة عن قصة البطل مصطفى الذي سيقطع مسافة 200 متر تفصله عن زوجته وابنه الذي في المستشفى بعد حادث أصابه، لكن جدار الفصل العنصري جعل المسافة مسافات والوقت أوقات، وهنا تتحوّل بساطة الطرح الفردي إلى قضية معاناة شعب بأكمله.

الممثل علي سليمان بدور البطل مصطفى الذي فرّقه جدار الفصل العنصري عن عائلته

ملامح الفلسطيني العادي.. حبكة الدراما والرتابة الخادعة

يبدأ الفيلم مع البطل مصطفى فوق سطح منزله، حيث يدخن سيجارة ويتأمل المساكن الممتدة، تبدو ملامح البطل عادية ووقفته عادية وحركاته عادية، ومن الوهلة الأولى تبدأ في الانتماء إلى الشخصية التي تمثلك وتمثل أي فلسطيني عادي.

يتحرك البطل مصطفى في ديكوراته، لتجد الشخصية تسحبك إليها أكثر فأكثر، فهو أب لثلاثة أطفال في عائلة بسيطة، لكنها سعيدة رغم ظروف الاحتلال القاسي، وخلال الدقائق الأولى تعتقد أنك بدأت تسقط في الرتابة، لكن هذه الرتابة خادعة بحق، إذ هي مجرد تأسيس لتحوّل درامي مفاجئ يبدأ حين ترى مصطفى الأب يتحدث مع أطفاله قبل النوم بالهاتف، لتكتشف أن العائلة مُشتتة، والأدهى والأمرّ أن بيت الأب يقابله في الجهة الأخرى بالضبط بيت الزوجة والأطفال، ويفصل بينهما جدار الفصل العنصري بمسافة 200 متر.

ومن هنا تتبدد الرتابة لتسكنك مشاعر متناقضة حين ترى الأب والأطفال يرسلون إلى بعضهم رسائل قبلَ النوم بإشعال الضوء وإطفائه من شرفة البيتين المتقابلين.

في هذا المشهد تكتشف الكاستينغ (تجارب الأداء) المحكم، وكيفية اختيار شخصية مصطفى بعناية فائقة، فملامح الممثل الفلسطيني علي سليمان -صاحب دور الأب مصطفى- التي كانت عادية في البداية تتحول إلى ملامح تجمع بين الحزن والحب، وبعينيه المُحمرتين بدموع مكتومة؛ تنتقل إليك صورة فلسطين والاحتلال والألم والمعاناة والشتات، دون أن تكون هناك صور للقصف أو الموتى، أو عويل الثكالى.

جدار الفصل العنصري الذي سيبلغ طوله حين انتهائه 770 كيلومترا ويفصل الضفة الغربية عن أراضي 48

سور الإسمنت المسلح.. بطل صامت ثقيل

تعودنا أن تكون الشخصية الروائية والسينمائية شخصية فاعلة ومتفاعلة بحضورها مع بقية الأطر الزمانية والمكانية والشخصيات، لكن هنا نرى أن المخرج اتخذ من الجدار الفاصل شخصا قائما بذاته ليجعله بمثابة أحد أبطال الفيلم.

كان الجدار حاضرا في الأحداث ومسببا لها ومتفاعلا مع الشخصيات، وكأننا بصدد بطل صامت وراء الكواليس، أو مُحرّك خفي للدمى (أي الشخصيات) بخيوط رفيعة، حتى أن التركيز البصري على الجدار كان حاضرا بشدة، فقد تتالت صور الجدار الكثير من المرات على طول الفيلم بلقطات واسعة وأخرى قريبة، وكأن المخرج يذكرنا كلما غاب عن أعيننا الجدار، ليقول إنه وإن اختفى قليلا فهو لا يزال هنا رابضا بثقله وشره وبروده، ليكون الإسمنت بطلا من أبطال الفيلم.

منذ عام 2002 يعيش فلسطينيو الضفة الغربية وفلسطين المحتلة شتاتا جديدا بسبب جدار الفصل العنصري الذي سيبلغ طوله حين انتهائه 770 كيلومترا، فقد التهم الجدار كحيّة أسترالية 22 كيلومترا من الأراضي في عمق الضفة الغربية، شاقّا طريقه داخل محافظات وتجمعات سكانية أصبحت تعيش داخل سجن حقيقي. حيث يضطر الآلآف من الفلسطينيين إلى استصدار تصاريح للتحرك من بيوتهم إلى أراضيهم، وذك بعد أن شقّ الجدار العازل الطريق بينها، ومنذ ذلك الحين، يكاد الجدار الفاصل يحجب السماء عن الفلسطينيين الذين يطوّق بيوتهم وأراضيهم، فيصل ارتفاعه أحيانا إلى تسعة أمتار في التجمعات السكانية التي يشقّها.

مصطفى يرافقه الآلآف من العمال الفلسطينيين يعبرون يوميا من حواجز الاحتلال الإسرائيلي للدخول والعمل في أراضي عام 1948

“لا أريد تلك الهوية”.. نكبة فلسطين الثالثة

تمثل تلك الكتلة من الإسمنت المُسلّح الفاصل نكبة الفلسطينيين الثالثة، فبسبب الجدار يضطر عشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى استصدار تصاريح للالتحاق بمدارسهم أو مراكز عملهم في القدس الشرقية، بينما يُحرم آخرون من الوصول حتى إلى المستشفيات، وقد يموت بعضهم وهم واقفون في طوابير الانتظار.

لم يغفل فيلم “200 متر” عن تصوير معاناة الفلسطينيين اليومية في التنقل بين الجانبين بكل ما في ذلك من ألم ومشقّة وعنجهية صهيونية، وقد كان مصطفى واحدا من هؤلاء الذين يقفون في طوابير طويلة تُعدّ بالآلاف، وذلك لمجرد المرور من وطنهم إلى وطنهم للحصول على حفنة شواكل (عملة إسرائيل).

يمثل مصطفى الفلسطيني الوطني العنيد الذي كان بإمكانه أن يتجنب كل هذا العناء بالحصول على هوية إسرائيلية، ففي أحد مشاهد الفيلم تقول له الممثلة لينا زريق التي تجسد دور زوجته “مصطفى، لا تقلّب علينا المواجع، فأنت تعلم أن الخطأ منك حين كانت لديك فرصة لاستخراج هوية إسرائيلية، لكنك رفضت وتعنّت”، فيجيب مصطفى بنبرة مليئة بالغضب: لا أريد هذه الهوية.

الممثلة لينا زريق التي تجسد دور زوجة مصطفى في فيلم “200 متر”

معركة عبور الجدار المستحيلة.. مغامرات أفلام الحركة

في تحول درامي آخر ربما هو الأهم في الفيلم، يتلقى مصطفى مكالمة من زوجته تخبره فيها أن ابنه في المستشفى، ومن هنا تبدأ مغامرة العبور إلى أراضي عام 48، ليلتحق مصطفى بابنه وزوجته، وهنا نكتشف فعلا أن مسافة الـ200 متر يمكن أن تشكّل مغامرة مثل مغامرات أفلام “أنديانا جونز”، أو ملك الخواتم.

تبدأ المغامرة بالبحث عن وسيلة نقل “غير قانونية” تتمكن من تهريب الركاب وعبور الحواجز الأمنية الإسرائيلية، وإن كانت شبكات التهريب تعتبر في بقية العالم إجرامية أو خارجة عن القانون، فإنها تعتبر في فلسطين تحديدا طريقا للنجاة رغم خطورتها.

هنا تابعت كاميرا المخرج أمين نايفة هذه المغامرة التي بدت عادية للوهلة الأولى، لتتخذ فيما بعد تحوّلات درامية مشوّقة، ومع كل دقيقة تمر يصبح مبتغى قطع الحواجز الأمنية والوصول إلى المستشفى أقرب إلى المستحيل، وإن صحّ توصيف الطريق الفاصل بين جانبي الجدار فإنه سيكون طريق النار.

لم يكن الجدار البطل الصامت الوحيد، فقد كان ذلك الطريق الفاصل بين الجانبين بطلا آخر من أبطال الفيلم، يمكنك أن تشعر بحضوره كشخصية شريرة، أو كوحش غاضب يمنعك من الوصول إلى الكنز، وقد جعلت كاميرا المخرج الطريق يبدو أطول وأطول، خاصة بتلك اللقطات التي تُصوِّر الطريق خاليا أو مظلما، فتشعر بعد ذلك بثقل الزمن وتمطط المسافة.

مخرج فيلم “200 متر” أمين نايفة خلال حصول فيلمه على جائزة مهرجان الجونة

رمزية البيت.. ملجأ بحجم وطن لكل شعوب العالم

لم يختر المخرج أمين نايفة أن يركز على حادثة الطفل المريض وكأنها الحدث الرئيس في الفيلم، وإنما اكتفى بأن يجعلها مجرد حلقة رابطة بين الأحداث.

ورغم أن الوصول إلى المستشفى كان يبدو الغاية القصوى للبطل، فإننا نكتشف أن الغاية القصوى هي الرجوع إلى البيت، ولا نقصد هنا بيت مصطفى بالضرورة، لكننا نقصد البيت كدلالة على الوطن والسكينة والسلام، لذلك فبعد وصول مصطفى إلى ابنه الذي يرقد بالمستشفى تحولت الكاميرا بسرعة لتعود إلى البيت، وكأن حلم رجوع مصطفى إلى بيته هو حلم العودة له ولأي بعيد عن أرضه، لا في فلسطين فحسب، بل في كل بقاع العالم.

هناك، يكون الانفراج الحقيقي للأحداث والخروج من التشويق والعودة إلى خانة البداية، حيث مصطفى فوق سطح بيته يخاطب زوجته وأبناءه بفوانيس مُضيئة كأنها بصيص أمل لغد دون جدار، وبيت واحد يجمع الكل هو الوطن.