“الأبناء السيئون”.. صراع القيم بين الأجيال في الريف التركي

في الحياة اليومية لعائلة تركية تسكن قرية على الحدود مع سورية، يُقاتل شباب كل يوم لتأكيد حُريتهم واستقلالهم في مواجهة السلطة الأبوية المتجذرة في القيم التقليدية. المخرج أحمد نجدت جبور الذي غادر قريته منذ عشرين عاما يعود إليها اليوم بعد استنجاد أخته به لإقناع والديها بطموحاتها، وليرصد عن قُرب قصة صراع الأجيال بين الماضي والحاضر.

يتابع المخرج محاولات أخته زينب وأخيه محمود للهروب -كما فعل هو سابقا- من الحياة التي خططها الآباء، ويقرر تصوير مسيرتهما في فيلم وثائقي ليرسم صورة حميمية لشباب مُستعد لتغيير الأشياء، حيث تسعي زينب لمغادرة القرية والذهاب إلى الجامعة، بينما يرغب محمود بتطليق زوجته، جميعها مطالب أصبحت محورا للصراع في العائلة ومجتمع القرية المحافظ الذي لم يعتد على التمرد.

“الأبناء السيئون” (Les Enfants Terribles) هو الفيلم الطويل الأول للمخرج التركي المولد الفرنسي الإقامة، وقد عُرض الفيلم في مهرجان “رؤى الواقع” المنعقد في أبريل/نيسان 2021، وحاز مناصفة مع فيلم بولوني على جائزة التحكيم (10 آلاف فرنك سويسري) المقدمة من مدينة نيون السويسرية.

يكشف الفيلم تحولات القيم في العائلة والقرية، ويركز على تطوراتها لدى الشابين، ومنذ مشاهده الأولى يرصد التوتر الذي يسود داخل أسوار البيت وخارجه، إنه توتر عنيف يتصاعد أحيانا تدريجيا مهيئا بين حين وآخر لانفجارات مُنتظرة مع أب لا يقبل النقاش، وأمّ ليست أكثر قبولا به.

“مَنْ لا يحترم عاداتنا وديننا فالباب أمامه”

في هذا النوع من البيوت المحافظة لا يجب أن يكون هناك نقاش لأوامر ربّ البيت، فالأبناء فقط هم من يسمعون كلمة آبائهم، لذا فإن العنف اللفظي هو أسلوب الردّ الوحيد على المطالب، فـ”مَنْ لا يحترم عاداتنا وديننا فالباب أمامه”، هذا أقل ما يُهدِّد به الأب. وفي بيت كهذا يشعر الأبناء بالقيد، ويشعر الأب بالخيبة من أبنائه غير المنصاعين.

حين يصل المخرج من فرنسا يستعيد في حالة أخويه ما حصل له في السابق، وعبر تصويره يُصوّب نظرة إلى ماضيه الخاص مُحاولا فهمه من جديد، فكان قد ترك القرية وعمره 13 سنة ليلتحق بالمدرسة الإعدادية في مدينة أنطاكية (مقاطعة هاتاي جنوب وسط تركيا)، وقد خاض معركته حينها لإقناع أهله، واليوم وبعد عشرين سنة من خروجه من قريته، حان دور أخويه ليشعرا بنفس الحاجة، ليهاجرا هما أيضا من القرية، بينما يعود هو لمساندتهما.

تزوّج الأخ محمود من عروس صغيرة في سن مبكرة، وهو اليوم يأمل الطلاق، أما زينب فهي ذات إرادة، وحين صممت على عدم الزواج من ابن عمها، فلن يثنيها شيء حتى معارضة شرسة من الأبوين، وسوف تفعل ما بوسعها للتعلم، فهي لا تريد قضاء حياتها في هذه القرية، ولا تريد العيش فيها بقية عمرها.

محمود الأناني وزوجته نُزهة التي يود الانفصال عنها قبل أن يعطي نفسه فرصة للتعرف عليها

أما الآباء فيتمسكون بسلطتهم، ويسعون للحفاظ عليها في عالم متحوّل، فزينب ومحمود يكافحان بتصميم وإصرار، ويضعان الخطط لنيل الاستقلال عن والديهما واختيار طريقهما الخاص، لكن المشكلة هي في نقص المال وفي الخوف من سلطة الأب.

إنها حكاية عائلة تعكس المجتمع التركي، لا سيما في الريف وتغيراته الحالية.

طلاق محمود.. أزمة التحول العاطفي في المجتمع القامع

على الرغم من أن فيلم “الأبناء السيئون” ركز منذ البداية على زينب، وكانت السبب المباشر لعودة المخرج لتصوير الفيلم، فإن قصة محمود هي الأكثر لفتا للانتباه، فقصة فتاة تجاهد للتعلم في وسط مُعادٍ، وتلتحق بنفسها بمدرسة عبر المراسلة، لتستطيع فيما بعد الذهاب إلى ثانوية في المدينة ثم تلتحق بالجامعة؛ هي قصة مكررة نوعا ما، وأسلوب معالجتها مُتوقع وقائم على النقاش والصياح والتمرد، لكن طلاق محمود ومتابعة تطوراته هي الأكثر كشفا عن تحولات فردية عاطفية واجتماعية في مجتمع قامع، دون أن يعني هذا أن النقاشات بين زينب وأمها لم تحمل بعض الجِديّة في مضمونها.

يعمل محمود في مطعم بالكويت، وأما نُزهة هي زوجته الصغيرة التي بقيت في القرية مع أسرته، تُحيك الصنارة وتشكو الملل لزينب التي تقول لها: لو عرفت ما هو العمل الحقيقي لما ضاق بك البقاء في البيت.

زينب تفكر في مستقبلها، فهي مُصممة على الدراسة في أنطاكية رغم معارضة

كُلّ ما كانت تأمله نزهة من هذا الزواج هو “السعادة والسلام والحب”، لكن نصيبها من ذلك كان صفرا، فمحمود بأنانيته وهو واعٍ بها لم يحاول حتى التعرف عليها جيدا ولا إعطاءها فرصة، فهو يكتفي بالاعتراف أنه كان يظن الزواج شيئا آخر، لكنه لم يفعل شيئا ليكون شيئا آخر، وهو حين يُصرّ على الطلاق كان يُدرك تركه نزهة لمصيرها البائس، فلن يتزوجها وهي ما تزال شابة ذات 17 عاما سوى رجل عجوز، وربما كزوجة ثانية.

فتاة الهاتف.. كائن جديد يُبعث على أنقاض الآخر

يتابع الفيلم تطور مشاعر محمود وكأنه يساعده على اكتشافها، أو كأنه يدعو للتعاطف معه وهو يصمّ أذنيه عن كل النصائح من الأهل والشيخ وعائلة الزوجة، لكن التعاطف الحقيقي ينحرف باتجاه نزهة، فمحمود سينطلق في حريته وأشغاله بعيدا عن عمل القرية الشاق والحياة الزوجية الرتيبة فيها، وهو يُجرب حياة العشق الأكثر لذة والأقل مسؤولية، فهناك إيحاء بوجود علاقة له مع فتاة لا تظهر في الصورة، لكن يُلمّح إلى وجودها عبر رسائلها له على الهاتف المحمول.

تأثير أفعال محمود سيكون لها الأثر الأكبر السلبي على زوجته والأبوين بإحراجهما وعلى أهل الفتاة أيضا، ويلتقط الفيلم هنا التغير التدريجي في نظرته نحو زوجته، وتعامله معها ومع مَنْ في البيت وخارجه، فهو يرى الآن أنه في الاتجاه الصحيح، فلديه كائن جديد ينبعث على أنقاض كائن آخر هو الزوجة.

نقاشات العائلة.. أجواء مشحونة بالإثارة والعواطف

تعمل زينب في مصنع ليلي للقاصرات قريب من القرية، وتُصمّم على الدراسة من جديد في أنطاكية، لكن أنى للفتيات بالسكن بعيدا عن العائلة قبل الزواج؟

ينقضي الفيلم في المشاحنات والأخذ والرد والنقاشات العقيمة باللغتين العربية (الأسرة من أصول علوية سورية) والتركية، لا سيما بين زينب وأمها، حيث تُبدي الأم عنادا صارما ورفضا لا يتزحزح وتمسكا لا يتزعزع بما تراه واجبا في تربية البنات، من عدم ضرورة تعليمهن وسكنهن في المدينة بعيدا عن أعين العائلة.

الأب يُصلّي مع ابنه محمود الذي يود تطليق زوجته نُزهة

تتكرر مشاهد الأب لا سيما مع محمود، وكأن زينب لا تجرؤ كثيرا على النقاش معه، ليظهر مشهد مُفاجئ يُفهم منه قبول الأب بالمشروعين، وهو مفاجئ لكونه لم يأت كنتيجة مبررة لما دار قبله، أي أن الفيلم لم يبين التحول التدريجي للأب، بل انتقل من رفضه القطعي للمشروعين إلى الإذعان على مقولة “مكره أخاك لا بطل”.

يحفل الفيلم بأجواء الإثارة والعواطف، ويستخدم الموسيقى للمساعدة في شحن المواقف، إذ يلتقط المخرج كل إشارة من محاولات أخويه، وكل غليان يقود إلى انفجار، مفضلا البقاء خلف العدسة، إلا حين تستدعيه أخته ليدلي بدلوه، أو يسأله محمود عن رأيه، أو حين يعاتبونه ويلومونه على ما هم فيه حاليا، يبدي على نحو حميمي الاعترافات والنقاشات، لا سيما مع محمود حين يشرح عدم حبه لزوجته.

“الله خلقنا في الضيعة لنبقى فيها”.. عنف الجيل القديم

ليس الفيلم منحصرا فقط في صراع الأجيال المُتلخص في قول الأب لزينب مثلا “تظنين أنك تكتشفين العالم الآن؟ أنت جاهلة”، بل إنه يبدي كذلك هذا الميل لدى الشباب للهرب من العيش في القرى، حيث الملل ولا شيء غيره، وحيث العمل الحقيقي الشاق.

هذا ما يوحي به الفيلم بقوة، ومن دون توفر أدنى توازن في شخصياته القروية، فهي سلبية على الدوام، فالأب مُنفّر في سلوكه باستثناء مشهد أو مشهدين، كما أنه عصبي ويلجأ بسهولة إلى السباب، ولا يبدو مُتهيبا من إحساس بوجود الكاميرا ولو على نحو خفي، فيُظهر عنفه اللفظي ولا يتحرج من وصف أبنائه بالنمّامين الذين يتكلمون خلف ظهره، كلها مواقف تثير الاستغراب أمام الكاميرا، وكأنها قد رُتبت وأُخرجت وليست عفوية.

منزل العائلة التركية الريفية المعروفة ببساطتها رغم صراعها مع أبنائها الذين يحاولون التمرد على عادات والديهم

أما الأم فتبدو مذهلة بقسوتها حين تعنيفها لأبنائها وعدم تحلّيها بالحنان والرقة حتى في حواراتها الخاصة مع ابنتها، حتى وهي تُسايرها في مطالبها السطحية كشراء بنطلون جينز، فهي لا تبدو كأيّ أُم تهادن ابنتها بعطف، بل إنها تجرح مشاعرها بالقول “ستصبحين لا شيء”، و”الله خلقنا في الضيعة لنبقى فيها”.

“لا سعادة في البيت”.. عتمة العائلة والمجتمع والريف

يصور الفيلم الارتباط بالأرض على نحو سلبي ومُنفّر، فلا شيء كذلك عن ترابط مجتمعات كهذه، لا شيء سوى نظرة سلبية لهؤلاء الناس، فهم “لم يدعونا نعيش طفولتنا”، وحيث “لا سعادة في البيت”، وحيث شعور بعدم الارتياح يسود طيلة الوقت على الشاشة، ولدى الناظر إليها.

هذا الملل وعدم التوازن في الطرح لا يخص الشخصيات فحسب، بل ينسحب على المكان أيضا، إذ تبدو لقطات الفيلم باهتة كأن لا شيء يجذب في هذا المكان، لا الأهل ولا المجتمع ولا الريف نفسه، لا شيء عنه، ولا لغة بصرية تشي بجمال المكان.

معظم المشاهد صُوِّرت في العتمة، كأنها عتمة غير متناهية، فلا تكاد تُلمح شخصياته، حتى البيت لا يكاد يميَّز إلا في بعض المشاهد التي ليست في صالحه، وتُبين مثلا شقاء الأم في تنظيف باحته، وفي الجهد المبذول. الفيلم انحياز تام للهرب، وهذا مؤسف.