“اترك العالم خلفك”.. مقاربة غير مقصودة لحرب إسرائيل على غزة

قبل يومين أعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية قطع الاتصالات تماما عن قطاع غزة، وهي المرة السادسة خلال أكثر من 75 يوما من الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، واستمرت إحدى المرات أربعة أيام من انقطاع تام للاتصالات، سواء عبر الإنترنت أو إجراء المكالمات.

يعني ذلك أن مليوني شخص في القرن الحادي والعشرين غابوا عن الحياة، وقد ثارت المؤسسات الدولية والرأي العام في المرات الأولى، ثم سرعان ما أصبح الأمر معتادا.

ولم يشهد العالم هذه الحالة من قبل، اختفاء شعب كامل عن الكرة الأرضية وانقطاع الاتصال به، لا سيما وهو تحت خطر الموت الجماعي، لكن مقاربة جديدة وغير حقيقية بطبيعة الحال تجعل الحالة مفهومة أكثر، يعرضها فيلم “اترك العالم وراءك” (Leave the World Behind)، الذي أخرجه الأمريكي ذو الأصول المصرية سام إسماعيل، وهو يتحدث عن كارثة غريبة ومجهولة المصدر ترتكز على قطع الإنترنت التام والاتصالات، وفصل الأقمار الصناعية عن كل البشرية.

هجوم إلكتروني يمزق أوصال العالم.. أوجه التشابه مع غزة

فيلم “اترك العالم خلفك” هو عبارة عن خليط بين دراما الكارثة أو نهاية العالم والحنين وبعض الكوميديا، بالإضافة إلى “الهيتشكوكية” (نسبة إلى المخرج ألفريد هيتشكوك)، ولا سيما في مشاهد هجوم الطيور المهاجرة والغزلان للمنازل.

وربما كان هذا الخليط سببا في ضعف الفيلم وقوته معا، فهو خفيف ومُسلٍّ ومشوق، لكنه ليس أصيلا، ولا يقدم رؤية عميقة، وكأن المخرج أراد أن يقدم كل ما يهوى معا، وفوق هذا تركنا في نهاية مفتوحة لم تشبع المتلقي.

يدور الفيلم بشكل أساسي حول هجوم إلكتروني تسبب بقطع العالم عن بعضه، وفقدان التحكم بالطائرات والسيارات الإلكترونية والقنوات والهواتف، فسقطت الطائرات، وأصبحت السيارات تسير تحت برنامج القيادة الذاتية وتسد الطرق، ووقعت انفجارات ضخمة، وهجرت العائلات منازلها على سواحل أمريكا.

إنها مشاهد فيها كثير من التناص مع غزة الساحلية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول الماضي، فتبدو نهاية العالم في الفيلم هي نهاية العالم في تلك البقعة التي تبلغ مساحتها 365 كليومترا مربعا، وهي منقطعة عن العالم في الوقت الذي تباد فيه.

عودة مالك المنزل المستأجر.. حدث هز المدينة

يتتبع الفيلم قصة الزوجين “أماندا” و”كلاي ساندفورد” الذي يلعب دورهما الممثلان “جوليا روبرتس” و”إيثان هوك”، إذ يأخذان طفليهما “روز” و”أرتشي” (فرح ماكنزي وتشارلي إيفانز) في عطلة نهاية الأسبوع إلى لونغ آيلاند في نيويورك، ويستأجران منزلا للمكوث به خلال إجازتهما.

وفجأة يعود مالك المنزل الفاخر المستأجر “جي إتش سكوت” (ماهرشالا علي) مع ابنته “روث” (ميهالا هيرولد) إلى العقار في ظل ظروف غامضة، مدعيا أن حدثا كارثيا قد هز المدينة، وأنه لا يستطيع المشي بعد توقف سيارته، بسبب إصابة في ساقه، فيحتاج للبقاء في منزله.

هنا يبدأ جدال مستمر بين العائلتين، يتحول رويدا لصداقة ونقاشات من نوع آخر لتفسير ما يحدث في العالم، فيطرحان فكرة أن هناك مجلسا يحكم العالم، ومضامين أخرى لنظريات المؤامرة يطرحها أبطال الفيلم، دون أن تستطيع حتى أن تستنتج ما إذا كان الفيلم يؤيدها أم يرفضها، بل يستعرضها في إطار يجعل المتلقي على وشك تصديقها.

“الأصدقاء”.. إقحام مُبالغ فيه داخل جسد الفيلم

وسط هذه الأحداث يظهر الحنين إلى زمن ماض كان يعرض فيه مسلسل “الأصدقاء” (Friends) وما يحمله من قيم وأحداث غير معقدة وعلاقات حب صادقة، وذلك عبر إصرار المراهقة “روز” ابنة “أماندا” في الفيلم على مشاهدة الحلقة الأخيرة، لكن انقطاع الإنترنت يمنعها من استعادة الحلقة من ذلك الزمن.

إقحام مسلسل “الأصدقاء” مبالغ فيه بشكل يكاد يفسد الفيلم، ولولا أنه يحتل المركز الأول في المشاهدة على منصة “نتفليكس” منذ أكثر من أسبوع لأصابه الفشل، فهو يتبع الوصفة الأسهل لجمع المشاهدات، أي التحدث عن نهاية العالم، وهي تحدث فعلا في مكان آخر من الأرض بنفس وقت عرض الفيلم، في الشرق البعيد وتحديدا في غزة، لكن دون أن يحدث الانتباه الكافي.

“الموت لأمريكا”.. شعبوية تعمد المخرج إظهارها

تطرح النقاشات بين شخصيات الفيلم أسماء عدد من أعداء أمريكا، جمعتهم عبر تلك العقود القليلة من عمرها، بافتراض أنهم قد يكونون وراء الهجوم، فمرة كوريا وأخرى روسيا أو الفلبين، حتى تلقي طائرة في السماء مناشير حمراء على سكان المنطقة، وهو يشبه كثيرا ما يحدث الآن في مناطق قطاع غزة التي تخوض المعارك تحت الآلة الاستعمارية، حيث تلقي طائرات الاحتلال الإسرائيلي المناشير التحذيرية.

وكُتب على المناشير “الموت لأمريكا” مع رسمة لثعبان، وهنا يصبح أبطال الفيلم في حوار ساذج شبه متأكدين أن إيران هي التي تقف وراء الهجوم السيبراني، وكأن لا أحد يعرف أن إيران بالأساس لا تتحدث ولا تكتب العربية بل الفارسية، مما يجعل هذه النقطة عصية على الفهم، فهل هي مقصودة، أم أن المخرج سام إسماعيل نسي لغته الأم؟

تشتم هنا رائحة العنصرية والأحكام المسبقة الشعبوية لدى الناس العاديين في أمريكا التي تعمد المخرج إظهارها، إضافة إلى العنف واستخدام السلاح واحتلال المنازل تحت حجة الأمن، ولولا أن حرب غزة كانت لاحقة على الفيلم، لكان بمثابة معادل موضوعي لإبادة شعب بحجة الأمن والأمان، لكن المخرج والمنتجين -ومنهم الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما”- أرادوا التركيز على المجتمع الأمريكي الذي لا يختلف كثيرا -كما يبدو- عن المجتمع الإسرائيلي وشعبويته وأولوياته أيضا.

وكي لا يكون هناك تعميم لا يمكن إنكار المظاهرات الكثيرة هناك المساندة لغزة، واحتلال الناشطين والناشطات فيها لمحطات المترو والقطارات والاجتماعات الحكومية، ومداخل الصحف والقنوات المنحازة بهدف إيقاف الحرب على غزة.

مراحل الاستعمار.. اقتباس من الفيلم يطبقه الاحتلال على غزة

تصنع ألوان الفيلم فرقا كبيرا عن غزة الرمادية الآن بسبب الركام والرماد والقصف، فالفيلم يشع بألوان الطبيعة والبحر والصورة السينمائية الخلابة الكاملة البعيدة عن واقع مدينة مدمرة بعد الكوارث، ومع ذلك لا يمكنك أن تشاهد الفيلم دون أن تسترجع صورا إخبارية شاهدتها اليوم أو قبل ساعات من العدوان الإسرائيلي على غزة.

ولا يمكن التحدث عن كل تلك المقاربات مع واقع الحرب على غزة من دون ذكر اقتباس من شخصية صاحب المنزل “جي اتش”، وهو يتحدث عن ثلاث مراحل من السيطرة الاستعمارية “المرحلة الأولى هي العزل وتعطيل الاتصالات ووسائل النقل، وجعل الهدف أصم وأبكم ومشلولا قدر الإمكان، لتحضيره للمرحلة الثانية، وهي الفوضى المتزامنة عبر إرهابه بهجمات سرية ومعلومات خطأ، واجتياح قدراته الدفاعية، وترك أنظمة أسلحته ضعيفة للمتطرفين وجيوشهم، وسيبدأ هنا الناس بالانقلاب على بعضهم دون عدو واضح أو دافع، وإذا نجح ذلك فستحدث المرحلة الثالثة وحدها، الانقلاب والحرب الأهلية والانهيار، والشعب مهتز بالأساس وسيقوم ببقية العمل بدل عن العدو”.

كل ما ذكرنا آنفا قامت به إسرائيل ولا تزال تحاول في 78 يوما من العزل الإجباري ونشر المعلومات الخاطئة وإثارة النعرات والشكوك داخل أهالي قطاع غزة، لكنها لم تستطع أن تقود الوضع للانهيار أو الهزيمة.

ملجأ الأبطال.. آخر قطعة في أحجية الفيلم

تطرح النهاية فكرة الملجأ الذي سيحتمي فيه أبطال الفيلم، لكن من دون أن يقدم الفيلم هذا المشهد كما يحدث في الرواية الرئيسية التي اقتبست منها الحبكة، وتحمل الاسم ذاته للكاتب البنغالي “رومان علم”.

تجمع “أماندا” المعونات اللازمة للاختباء، حتى تمر كارثة انتهاء العالم والسيطرة عليه من قبل مجهولين، وتنتهي المراهقة “روزا” وحيدة في الملجأ، فهناك عميقا تحت الأرض تتوفر المواد الغذائية ومصادر الطاقة، وكذلك ألعاب التسلية وجميع حلقات مسلسل “الأصدقاء”، وتبدأ هنا بمشاهدة الحلقة الأخيرة التي تتوق إليها، وهو ما يبدي توق المخرج سام إسماعيل إلى المسلسلات التلفزيونية، فقد اشتهر مخرجا لها، قبل صناعة هذا الفيلم الذي يبدو مثل لعبة تركيب القطع، لكن دون قطعة نهائية تكمل الصورة.

وعلى غير عادتها، لم تكن الممثلة “جوليا روبرتس” بكامل عظمتها في الفيلم، ويبدو أن الأفلام التجارية التي مثلت فيها أفسدت موهبتها الأصيلة، فنجد أغلب ردود أفعالها مبالغا فيها، وكأنها تقول طوال الوقت أنا أمثل، في حين أن الممثل “إيثان هوك” الذي لعب دور زوجها جاء أداؤه عبقريا.