“السبِّيبة.. فرح الصحراء”.. تقاليد ومعتقدات وفنون عريقة في تاريخ الطوارق

تقع مدينة جانت الجزائرية في أقصى الجنوب الشرقي للجزائر وسط الصحراء الكبرى، وتبعد عن الجزائر العاصمة حوالي 2300 كيلومتر، بينما تبعد عن حدود ليبيا 100 كيلومتر فقط، و200 كيلومتر عن الحدود مع مالي، وتسكنها قبائل من الطوارق، يتحدثون اللغة الأمازيغية ويدينون بالإسلام.

وقد تجولت كاميرا الجزيرة الوثائقية في مضاربهم بين قصر إزلواز وقصر ميهان، وسجّلت يومياتهم وهم ينتظرون عيدهم الأبهى وموسمهم الأهم، وأنتجت هذا الفيلم الشائق بعنوان “السبيبة.. فرح الصحراء.. الجزائر”، والتقت فيه برجالهم ونسائهم الذين تحدثوا عن “يوم السبيبة” وأهميته، وما يعني لهم هذا العيد البهيج.

يوم السبيبة.. احتفالات الصحراء الجزائرية بإغراق فرعون

يقوم المُلَبِّس بلفِّ عمامة خاصة بالعيد على رأس أحد الشبان الذين يشاركون في احتفالات السبيبة لأول مرة، ويشرح له: هذا هو لباس “تكميست”، إنه لا يشبه أي لباس أسود آخر، عليك الدخول لاحتفالات السبيبة أول مرة بـ”التنفار”؟ يجب القيام بطقوسها بإتقان، ستدخل متأخرا قليلا ساحة السبيبة، حاملا سيفك باليمين والمنديل باليسرى، واتَّجِه نحو النسوة اللاتي يصفقن ليضبطن إيقاع رقصك، هنّ يغنّين وأنت تستعرض مهاراتك في الرقص أمامهن، وتلوِّح بمنديلك.

مدينة جانت الجزائرية في أقصى الجنوب الشرقي للجزائر وسط الصحراء الكبرى

وفي ظل التدابير الاحترازية أثناء جائحة كورونا، ومنع التجمعات والاحتفالات، يتحدث إلياس مختار من أعيان قصر أزلواز قائلا: هذا الوباء أصبح مصدر قلقنا، فالإجراءات الاحترازية ستؤثر على عيدنا السنوي “السبيبة”، وأبرز طقوسه اجتماع الناس، وأنا ذاهب على عجل لتبين الأمر، فعدم انعقاد السبيبة سيجر علينا الشرور، إذ لا يوجد أي مبرر لمنعنا من الاحتفال بالسبيبة، فهي مناسبة عظيمة ينتظرها الناس بشغف، ويحجون إليها من كل مكان.

يتحدث بعض السكان عن خطر عدم إقامة هذا الموسم في موعده، فهذه قارعة الطبول “الكياني بيوا” تقول: نحتفي بالسبيبة ونفرح بها منذ زمن بعيد، يقول أجدادنا إن السبيبة إذا لم تنعقد فستعصف ريح عاتية بالوادي.

تحضيرات مسائية ليلة السبيبة لملاقاة الفريق الخصم

أما الراقص الشاب حسين باله، فقال: أتذكر أنه في أحد المواسم توفي أحد شيوخنا، فامتنع الناس عن الاحتفال بالسبيبة، فعصفت ريح قوية، فلما رأت إحدى عجائزنا عصف الريح عمدت إلى طبلها فقرعته، واجتمع الناس حولها، فهدأت الريح تدريجيا، ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا ساد الاعتقاد بأن إقامة السبيبة تحمينا من المصائب.

ويحدثنا المختار بن عومر -وهو مُلبِّس من قصر أزلواز- قائلا: الشهور القمرية عند الطوارق تبدأ بالمحرم، والعاشر منه يطلق عليه “السبيبة”، وتعود الاحتفالات بالسبيبة إلى قصة إغراق فرعون، فقد حاول الناس التعبير عن فرحهم بهلاك الطاغية، مثل بقية شعوب الأرض، فكان الرقص بالسيف طريقتهم للتعبير في هذا الوادي.

رقصة السيوف المقدسة.. تراث الطوارق المنقوش على الصخر

ما زال إلياس مختار من أعيان قصر أزلواز مهموما خشية عدم إقامة السبيبة هذا العام، إذ يقول: آتي إلى السوق الشعبية لشراء حاجاتي، يؤرقني هاجس كم سنخسر إذا لم تقم السبيبة هذه السنة، هذه الجائحة قلبت موازيننا، وأنا ككل أهل المدينة لا أتخيل مدينة جانت بدون السبيبة، أهل مدينتي تضرروا من كورونا، ولكنهم سيغامرون لإقامة السبيبة.

يتعلم الصبيان لبس الزي التقليدي للسبيبة وكيف يتم لفه على الرأس وفوق الوجه

وتبدأ التحضيرات للسبيبة من بداية محرَّم، ويصادف السبيبة العاشر منه، ويكون لباس السبيبة ثلاث قطع من القماش الأسود، ويحرص الصغار على تفصيل لباس جديد، أما الكبار فقد يصلحون لباسهم القديم فحسب، إذا لم يكن باليا، ويقبلون على سَنّ سيوفهم وتلميعها.

وقد أخبرنا أحد الشباب، وهو يصقل سيفه في أحد جوانب السوق: قلت يوما لوالدتي إنني سأعتزل السبيبة، فقد اعتمرت وأريد أن أتفرغ للعبادة وزيارة الزوايا والمساجد، فمرضت المسكينة، لأنها لن تجد من يمثلها من العشيرة في السبيبة إذا ماتت، وهذا يعتبر إهانة للقبيلة بأكملها.

للسيف مكانة مقدسة عند الطوارق، ومن النادر أن تجد طارقيا بلا سيف

يقول الشاب: هذا سيف “تازغايت” التاريخي أريدك أن تشحذه لي وتلمعه جيدا لقد اقترب موعد السبيبة، وأصلح لي غمده كذلك، أريد أن أُلوِّح به بفخر يوم السبيبة، فالسيف له مكانة مقدسة عند الطوارق، ومن النادر أن تجد طارقيا بلا سيف، ويتوارثه الأبناء عن الأجداد، قد تجد سيوفا عمرها 200-300 عام.

وتبدو الفرحة في وجوه الناس منذ أول يوم من محرم، وستلاحظها في الأسواق، حيث يعرض التجار أجمل ما لديهم من الملابس والحليّ الفضية التي يصنعها الطوارق منذ قديم الزمن، وتتمثل تجهيزات السبيبة في “الآلشو، أغادس، تينيفانت” وتلاحظ أنواع الجلود المختلفة والملابس المثقلة بالتمائم الضاربة في القدم.

يعرض التجار أجمل ما لديهم من الملابس والحليّ الفضية التي يصنعها الطوارق منذ قديم الزمن

حتى السياح يحرصون على حضور هذا العرس الموسمي، فالسبيبة مصنفة لدى اليونسكو تراثا عالميا، وكذلك مدينة سفار، ويظهر في الرسومات القديمة على الصخور أن السبيبة لها جذور ضاربة في القدم، ويكمن جمال مدينة جانت في التخييم فيها ليلا، ويعتبر قصر أزلواز مهد السبيبة، وساحة الاحتفالات “دوغيا” وسط المدينة هي المسرح الذي يحتضن الاحتفالات.

قصر الميهان.. عام من التحضيرات لانتظار الفوز

تبدأ التحضيرات الليلية مع دخول شهر المحرم، وتعرف باسم “تيمولاوين”، ومن خلالها نعرف ما ينقصنا من التجهيزات لليوم الموعود فنقوم بتعويضه، وتكمن أهمية التحضيرات في جلب أكبر عدد من الراقصين والمغنيات وضاربات الطبول، وتسهم هذه الليالي في الألفة والودّ بين الأهالي والزوار، ويتعمق الترابط بين أهل المنطقة.

آلة “القنقا” تصنع من خشب التندي ويشدّ عليها جلد حيوان، وبداخلها نوى التمر

يأتي الناس من أقصى الشمال الجزائري لحضور موسم السبيبة، وكذلك من جميع المناطق المجاورة، وعلى الرغم من احتياطات كورونا هذه السنة، فلا يزال الأمل منعقدا على وصول أكبر عدد من الناس لحضور الموسم، وتنتعش فيه تجارة الفضة والحلي والملابس، وهو موسم ينتظره التجار بشغف لزيادة الربح والبركة.

هذه آلة “القنقا”، وهي مصنوعة من خشب التندي ويشدّ عليها جلد حيوان، وبداخلها نوى التمر، وهي تقدَّم للمرأة الأندى صوتا، ولها عصا خاصة للضرب تسمى “تقوربيت”. ويقع اختيار المتنافسين الشباب من الأحياء مباشرة، ينتقون أمهرهم في الرقص، من ذوي القامات الطويلة والأجساد المتناسقة، والذين يمتلكون القوة والصبر والتحمل للثبات في الميدان، والذين يناسبهم لبس الدراريع، فهي لا تناسب أيا كان.

يتحدث أحد شباب قصر الميهان قائلا: تغمرنا رغبة جامحة بالفوز هذه السنة، فعندما يفوز شباب قصر أزلواز نشعر بخيبة أمل، كأننا لم نحضر السبيبة قط. ففي السنة الماضية تفوقوا علينا، ومنذ ذلك الوقت نحضر أنفسنا لرد الاعتبار، فلن تطمئن نفوسنا حتى ننتزع الزعامة من قصر أزلواز.

المتنافسون هم أمهر الشباب رقصا، ويشترط أن يكونوا من ذوي القامات الطويلة والأجساد المتناسقة

أما في قصر أزلواز فالتجهيزات على قدم وساق أيضا، فهم يريدون تكرار فوز العام الماضي.

كلما كان اللباس أنيقا زادت فرصة الفوز، وهم يسافرون لأقصى الجنوب نحو مالي والنيجر من أجل الحصول على أجود أنواع القماش لارتدائها يوم السبيبة، فكلما بذلت أكثر لذلك اليوم كان اهتمامك بالسبيبة أكبر، وبالتالي ستحرز الفوز وتحوز البركة.

قرع الطبول.. لمسات نسائية تصنع سحر التقاليد

قديما كانت حيازة “التكمبوت” سببا مباشرا في الفوز، اليوم لم يعد ممكنا شراء الجديد لأنه لم يعد متوفرا، ولذا نقوم قدر الإمكان بصيانة وتجديد ما لدينا، فله دلالة عسكرية رمزية، وهو قبعة موشّاة بالقطع المعدنية اللامعة، يلبسونه على الرأس وتتدلى قطعة منه على أعينهم، ولكنها نوع خاص من القماش الشفاف، يمكنهم الرؤية من خلاله.

للمرأة أهمية كبيرة يوم السبيبة، فهي التي تقرع طبل “الإمينيني” إيذانا ببدء الاحتفالات

والمرأة لها أهمية كبيرة يوم السبيبة، فهي التي تقرع طبل “الإمينيني” إيذانا ببدء الاحتفالات، وتتبعها بقية النساء بقرع طبول “شيت أباتول” بأنواعها الثلاثة، ويتراقص على إيقاعهن الشباب المتنافسون، يهدأن تارة ويثرن أخرى، لتكتمل بهن جمالية السبيبة، وهي لا تقل عن جمالهن وسحرهن.

أما الصبيات فيقفن في جهة واحدة يغنين ويصفقن دون انقطاع، تحفظ الواحدة أجمل الأشعار والألحان، لتحافظ على هذه التقاليد والموروثات التي ورثتها عن الأمهات والجدات، وتعلمهن الحاجّة عباسي الرزانة والاتزان، فالأداء الجيد هو ما يدفع فرساننا للفوز على الخصوم. فالفائزون من الرجال هم الذين يتقنون الرقص أكثر، ويكون لباسهم أكثر أناقة وهيبة.

يتجمع الناس في ساحة السبيبة “الدوغيا” ويعرض الفريقان المتبارزان رقصاتهما بالسيوف

وأكثر الأغاني مدائح، ويُستقبل بها الفرسان في حلقات نصف دائرية، وكأنهم عائدون من الحرب منتصرين، ولكل حيّ أشعاره وأغانيه، يردّ بها على الحي الآخر، فيمدحون فرسانهم ويهجون الآخرين.

يوم السبيبة.. أزياء العيد المزينة بالسيوف المغمدة

في يوم السبيبة يبدأ الرجال بتحضير أنفسهم، ويلبسون الملابس الخاصة بهذا العيد، ويتأكدون من حالة سيوفهم وأغمادها، فبعضهم لم ينم الليلة الماضية بطولها، والرجال يساعد بعضهم بعضا في ارتداء ملابسهم، ويُلبِسون صغارهم أيضا، والنساء كذلك من جهتهن، ويوزعن الأدوار بينهن في جلب الماء والحطب وإعداد الطعام، ويتسامرْن فيما سيحدث يوم الغد.

والمزج بين اللونين الأسود والأبيض يدل على مزيد من الأناقة، ومن يقصر في أناقته فكأنه لم يعط السبيبة حقها، والذي لا يملك “آلشو” (لباس أسود يوضع على الرأس) فعليه أن يستعيره، أو يحضره بأي طريقة. ويصل سعره حوالي عشرين ألف دينار جزائري، أي ما يعادل 150 دولار أمريكي.

في يوم السبيبة، تتزيى النساء بأجمل ما لديهن

وتتزيى النساء بأجمل ما لديهن، ثم يذهب الجميع إلى ساحة السبيبة “الدوغيا” التي تقع في الوادي وسط واحات النخيل، وهي ساحة معركة استثنائية، لا يَجرح فيها أحدٌ أحدا، بل يستمتعون فيها مع كل حركة سيف وقرعة طبل، حركات لا يفقهها إلا العارفون بتاريخ المنطقة وعاداتها.

يوم الاستعراض.. سباق أخوي وانتصار للتراث الجماعي

تتموضع أزلواز على جهة من الساحة، بينما يتجمع أهل قصر الميهان في الجهة المقابلة، وبمجرد حضور الجميع تنطلق عملية “التنفار”، وهو استعراض المشاركين، فتدخل الفرقتان الساحةَ، كلٌ من جهته ويبدؤون بالدوران مرتين إلى ثلاثة، ثم تعود كل فرقة إلى موضعها.

في المرحلة الثانية تُتبادل الأماكن بين الفريقين، فيتحرك راقصو أزلواز وقارعات الطبول إلى مكان فريق قصر الميهان، ويتحرك أولئك أيضا مع نسائهم إلى موقع جماعة إزلواز فيرقصون قليلا، ثم يخرج الفرسان لاستعراض “تيكمسيت”.

تصطف الفرقتان على شكل صفوف ثم يقوم كل طرف بضرب سيف الآخر بشكل موزون ومتناسق

يبدأ الاستعراض من حوالي الساعة التاسعة حتى الحادية عشرة صباحا، بعد ذلك تُخرِج كل فرقة دراريعَ “تيمسكوراتين”، ويصطفون كلٌّ على جهته، وهنالك لجنة تحكيم تحسب كم تخرج كل فرقة من الدراريع والقبعات، وتحصي أيهم أكثر عددا وحضورا.

الشوط الثاني خاص باستعراض السيوف، إذ تصطف الفرقتان على شكل صفوف، وتتقابلان على شكل ثنائيات، ثم يقوم كل طرف بضرب سيف الآخر بشكل موزون ومتناسق، ويكون هذا الاستعراض على شكل دائري.

يرقص الرجال وتغني النساء ويقرعن الطبول في مبارزة هي الأهم في كل سنة

كانت الفترة الصباحية عند فرقة قصر الميهان جيدة إلى حد ما، مع ظهور بعض النقائص، ويعزون ذلك إلى وفاة شيخين من قبيلتهم خلال هذه الفترة، فكان الشبان المنوط بهم بعض المهام منشغلين بالعزاء، وكان النقص في العدد أيضا بسبب هذا الوباء المنتشر في العالم، فلو كانت الحدود مفتوحة لالتحق بهم عدد من الشبان من ليبيا، ولجاءهم زوار من النيجر وشمال الجزائر.

تأخذ الفرق استراحة لأداء صلاة الظهر، ثم ينزلون إلى الوادي ثانية بعد صلاة العصر، ثم تبدأ فترة استعراضية أخرى، برقصات هادئة ومتزنة من الشباب على إيقاع قرع الطبول عند النساء، وعند المساء قبيل المغرب يعلن عن الفائز في هذه المنافسات.

لجنة تحكيم محايدة، ولا تتبع لأي من الفريقين، ولا يجرؤ أحد على التقليل من احترامها أو احترام  الآخر

هنالك لجنة تحكيم محايدة، لا تتبع للميهان ولا أزلواز، ويأتي حكمها بناء على ما أحصته من أعداد دراريع “تيماسكوراتين” و”الإلشان” و”التيكومبا”، أي القبعات العسكرية، وما سمعته من الأشعار وأغاني النساء، ولا مجال للخصام أو المجادلة، ولا يجرؤ أحد على التقليل من احترام الآخر، ويتقبل المغلوب هزيمته بروح رياضية، ثم يعودون إخوة كما كانوا. فهي حرب بغير دماء، والفوز الحقيقي هو الحفاظ على العادات.