رمضان في طرابلس/ليبيا.. موائد ومسابقات وتقاليد عريقة في بلاد المليون حافظ

صلاة العيد في طرابلس الغرب

يعود تاريخ مدينة طرابلس (الغرب) إلى الألف الأولى قبل الميلاد، وكان أول من استقر بها العرب الفينيقيون. ثم شهدت من بعدهم 25 عهدا من أنظمة الحكم، من رومانية وبيزنطية ثم عربية بكل أطيافها، مرورا بالعهد العثماني الأول ثم الثاني، وبعده الفترة القرمانلية، ثم الاحتلال الإيطالي والإدارة البريطانية، ثم المملكة الليبية والجماهيرية، وأخيرا الجمهورية.

وبقيت طرابلس على مر العصور محضن حضارة البحر الأبيض، وشقيقة بقية مدن حوض المتوسط، وملتقى قوافل التجارة بين البحر وعمق الصحراء الأفريقية. وسكنتها شعوب مختلفة من المالطيين واليونانيين والكروغليَّة والأتراك والعرب والأمازيغ وبقية شعوب البحر الأبيض المتوسط دونما استثناء.

وقد أنتجت قناة الجزيرة الوثائقية سلسلة “رمضان ومدينة” لتعرضها خلال شهر رمضان المبارك، وتسجل من خلالها أجواء الاحتفاء بشهر الصيام في عدد من الحواضر العربية والإسلامية، وخصصت حلقة من هذه السلسلة لطرابلس، وعرضتها تحت عنوان “رمضان في طرابلس-ليبيا”.

طرابلس.. فاتنة حضارات المتوسط على مر التاريخ

منذ الفتح العربي الإسلامي اصطبغت المدينة بالصبغة العربية الإسلامية وما تزال، ومع مرور الزمن زادت أهمية المدينة التاريخية القديمة، وأصبحت مركزا تجاريا وثقافيا، فانتشرت فيها الكتاتيب والمدارس، وحفظ أبناؤها القرآن وتوارثوه كابرا عن كابر.

طرابلس الغرب في ليبيا، حاضرة من حواضر البحر الأبيض المتوسط ومدينة ذات تراث عالمي

يوجد في المدينة القديمة أكثر من 37 مسجدا وجامعا، ومن أهمها جامع الناقة الذي بُني زمن الدولة الفاطمية بين 341-364 ه الموافق 953-975 م، وأقيمت السوق الرئيسية القديمة حوله، فاشتهرت فيها الصناعات التقليدية والمتاجر، وجاءها الناس من كل مكان للعمل والتعليم في المدينة بحرية، ويعتمد سكانها في اقتصادهم على البحر.

شهر رمضان.. موسم التلاوة وإحياء الثقافة والموائد

يحظى شهر رمضان بمكانة خاصة في هذه المدينة، إذ يبدأ الناس الترحيب به والتحضير له قبل قدومه بأسابيع، ويهتم الطرابلسيون بترتيب بيوتهم وشراء الأواني والأدوات المنزلية الجديدة ابتهاجا برمضان، ويشترون مستلزمات الطعام بكميات وفيرة.

وللأندية الرياضية حضورها وفعالياتها خلال الشهر الكريم، فتحرص على إقامة الندوات الثقافية، والدوريات الرياضية على مستوى الأحياء والأزقة، كما يحرص الناس على حضور دروس الوعظ والإرشاد في المساجد، ويقبلون على تلاوة القرآن الكريم والصلوات.

ما أن يدخل شهر الصيام في طرابلس، حتى يتوجه الرجال والنساء إلى المساجد لأداء صلاة التراويح

ومن الأطباق الخاصة على مائدة الإفطار الشُربة الحمراء، وهي شربة شهر رمضان، والبيتزا والبوريك “مثل السمبوسة”، فهذه أطباق ثابتة على مائدة رمضان، وهناك المُبطَّن الطرابلسي، ويتكون من اللحم المفروم والبصل والبقدونس، ويوضع داخل العجين ثم يقلى في الزيت، ويمكن أن تستخدم البطاطس بدل العجين. وهناك طبق البازين المكون من الفول أساسا، ويضاف إليه مرق الحريقة المكون من الزيت والبصل.

إطعام الفنادق.. تراث مدينة لا يبيت فيها عازبٌ جائعا

ومن طقوس رمضان في طرابلس تبادل الأطباق بين الجيران والعائلات أو ما يسمونه الذوقة، وعندما كانت الفنادق -في الماضي- لا يسكنها إلا العُزّاب للدراسة والعمل، كانت العائلات حول الفندق تتكفل بإطعامهم في رمضان، فتنهال أطباق الطعام على الفنادق وقت الإفطار، حتى لا يجوع عازبٌ في مدينة طرابلس.

مطعم بيت عم صالح يوزع مئات الوجبات المجانية في كل رمضان

ومنذ عام 2002 يحرص مطعم عم صالح على تقديم وجبات الإفطار المجّانية، وقد بدأ أيامها بتقديم 50 وجبة مجانية داخل مطعمه، ثم تزايد العدد باستمرار، حتى جاءت جائحة كورونا، فتوقف عن تقديمها داخل المطعم، وبدلا من ذلك أصبح يرسلها للبيوت، حتى وصل عددها إلى 560 وجبة يوميا، من الأرز والمعكرونة والكسكسي والفاصوليا، وما يرافقها من الفواكه والعصائر والألبان، وهنالك البسيسة بالتمر واللوز.

اجتماع العائلة.. بهجة اللقاءات على المائدة الطرابلسية

يحرص بعض الناس على تناول إفطارهم، وأداء صلاة المغرب في الحدائق والساحات العامة، ويلاحَظ دائما وجود علم فلسطين يتوسط مجموعة من الأعلام الليبية في إحدى أكبر الساحات في طرابلس، فأهل المدينة لا ينسون امتدادهم العربي والإسلامي، ولا تفرّق الحدود والجغرافيا السياسية بينهم وبين أشقائهم في النضال والتضحيات.

في أوقات ما بعد عصر يوم الصيام، تتنافس الفرق الرياضية في مسابقات ودوريات شهر رمضان

وتكثر في رمضان اللقاءات العائلية ومع الجيران، فيجتمعون على مائدةٍ طرابلسية بامتياز، عامرةٍ بأصناف الطعام الطرابلسي المتميز، وهم يفضلون الاجتماع للإفطار في البيوت على الذهاب إلى المطاعم، وتزيّن موائدَهم الدولمة ورشتة الكسكاس، وهي المعكرونة الرقيقة جدا، الأقرب إلى شعيرية الكنافة.

ألحان الموشحات ومسرح خيال الظل.. طقوس من التراث

تجتمع العائلة على برامج تلفزيونية أو مسلسلات هادفة، ومن الطقوس الطرابلسية تقديم الشاي بالكشكوشة، وهي طبقة الرغوة التي تعلو كوب الشاي، وفي رمضان تعجّ المقاهي بالناس ليلا، يستمعون إلى المالوف الليبي، وهو نوع من الموشحات، ويدخنون الأرجيلة.

أصناف منوعة من الطعام الطرابلسي على مائدة الإفطار

أما الأولاد فيمرحون في الشوارع والساحات، وتتنزه العائلات في الحدائق حتى الفجر، بينما يستعرض الشباب مهاراتهم على الدراجات النارية.

يتناول الطرابلسيون إفطارهم في الساحات العامة وعلم فلسطين موجود على الدوام

ويحنّ الكبار إلى أيام الطفولة قديما عندما كانوا يتحلَّقون حور “القاراقوز” أو مسرح خيال الظل الذي يحكي لهم حكاية مشوقة، بينما يلاعب عرائسه خلف ستارة شفافة ليظهر خيالها على تلك الستارة، ولذا تراهم يحاولون استرجاع هذا التراث في شوارع طرابلس من جديد.

سباق الأعمال الصالحة.. صلوات ومسابقات قرآنية

تحرص النساء على أداء صلاة التراويح في المساجد، ولذا يعمدن إلى الانتهاء من أعمال المنزل والمطبخ سريعا بعد الإفطار، حتى يتسنى لهن اللحاق بصلاة التراويح. ولتشجيع الأطفال على حفظ القرآن يحرص المعلمون والمربّون على عقد المسابقات وتقديم الجوائز للفائزين، وتزداد كثافة هذه المسابقات في رمضان، كيف لا، وليبيا هي بلد المليون حافظ.

“القاراقوز” أو مسرح خيال الظل عروض رمضانية من التراث الطرابلسي

ويتناول أهل طرابلس في فترة السحور نوعا من الشراب يسمى الخشاف، وهو مكون من الزبيب والحلبة، وبعد غليهما يضاف للمكون السكر والمنكهات العطرية. وهناك أيضا المُحلَّبيّة وكذلك الزلابية والعسلة والغريّبة.

والمسحراتي طقس لا يختفي من طقوس رمضان، فرغم من عدم الحاجة إليه هذه الأيام، فإن ظهوره يجلب إلى النفس سعادة وحنينا إلى تراث المدن الإسلامية في الماضي.

يوم الجائزة الكبرى.. فرحة تعج بها المساجد والساحات الكبرى

في أواخر رمضان، تعود الأسواق لتمتلئ بالناس من جديد، فيشترون حاجيات العيد، وعلى رأسها الملابس الجديدة لجميع أفراد العائلة، وكذلك الحلويات المختلفة التي يقدمونها في صباح العيد بعد الصلاة.

يؤدي أهل طرابلس صلاة العيد جماعة في ساحة مفتوحة قبل أن يبدأوا الاحتفالات

وفي يوم العيد تزدحم الساحة الرئيسية للمدينة بآلاف المصلين الذين جاءوا مكبّرين ومهلّلين لأداء صلاة العيد، وتؤدى صلاة العيد أيضا في المساجد والمصليات الخارجية. وفي يوم الجائزة يكون الفرح والسرور باديا على وجوه الناس جميعا، ولا سيما الأطفال، إذ يعتبرون العيد يومَهم الخاص بامتياز.