“همسات في أذن الفيل”.. علاقة إنسانية تربط زوجين بصغار الفيَلة اليتيمة

يحدث أن تتبنّى عائلة ما قطة أو كلبا، فهذا أمر منطقي وسلوك منتشر في العالم، لكن تربية دغفل (صغير الفيل) يتيم في شهوره الأولى، فذلك هو الاستثناء وخروج عن السائد، فما قصة الزوجين الهنديين اللذين نسجا علاقات استثنائية مع الدغافل، وما هي الهمسات التي بثّاها في أذن الفيل؟

“كارتيكي غونزالفيس”.. قصة ساحرة تختطف جائزة الأوسكار

لم تكن “كارتيكي غونزالفيس” (37 سنة) تحلم أو تفكر ولو للحظة واحدة بأن يحصل فيلمها الوثائقي “همسات في أذن الفيل” (The Elephant Whisperers) الذي أنتج عام 2022 على أعرق وأهم جائزة في السينما الوثائقية، وهي أوسكار أحسن فيلم وثائقي قصير (تبلغ مدته 39 دقيقة)، خاصة أنه أول أعمالها السينمائية، إذ هي مختصة بالتصوير الفوتوغرافي للحياة البرية.

لكن قصة فيلمها كانت قوية وملهمة وإنسانية لأبعد حد، لهذا استطاعت أن تسحر بها أعضاء اللجنة المصوتة في أكاديمية فنون وعلوم الصورة المتحركة والمعروفة اختصار بجوائز الأوسكار، وقدّمت لها الجائزة خلال الحفل الذي أقيم يوم 12 مارس/ آذار 2023 على خشبة مسرح دولبي بلوس أنجلوس.

وبذلك يكون لفرحة المخرجة الهندية “كارتيكي غونزالفيس” طعم آخر تماما، خاصة أن هذا الفيلم وتلك الجائزة سيمنحانها دافعا قوي لها لدخول عوالم وسحر السينما الوثائقية التي تستثمر في قضايا الإنسان الجوهرية، وتحفر عميقها فيها، كما فعلت في فيلم “همسات في أذن الفيل”.

أبطال الفيلم.. انتماء إلى روح المكان وجراح قديمة

اعتمدت المخرجة “كارتيكي غونسالفيس” في فيلمها “همسات في أذن الفيل” على شخصيتين رئيسيتين، فتتبعت طريق كل واحد منهما، ووضعت حياته أمام المتلقي الذي عرف كيف وأين يعيشان، ثم أطلعته بشكل أساسي على الفضاء الذي ينتميان له.

الأول هو “بومان” الذي يقول على نفسه في بداية الفيلم: أنا كاتونايكاني، وهي تسمية تعني “مملكة الغابة”، وهذا هو موطني، حيث أنتمي في المكان الذي تسرح فيه الحيوانات البرية حرة طليقة، وهي الأرض التي عاش فيها أسلافي أجيالا.

وأما المرأة “بيلي” فهي تعيش في نفس المخيم الذي يعيش فيه “بومان”، لكنها تعاني هي الأخرى من جراح قديمة، بعد أن فقدت زوجها الذي قتلته النمور، إضافة إلى موت طفلتها الصغيرة التي فقدتها أيضا.

بطلا الفيلم “بونان” و”بيلي” وهما يحملان أهم جائزة الأوسكار

والقاسم المشترك الذي يجمع بينهما هو عملهما معا في المخيم، في رعاية وتربية صغار الفيلة، أي الدغافل التي وجدت نفسها يتيمة بلا عائلة أو قطيع، ولا تقوى على رعاية نفسها، فيقومان برعايتها والاهتمام بها حتى تكبر، وكأنهما يتبنيان تلك الدغافل التي توضع تحت تصرفهما من طرف إدارة الغابات، خاصة أن “بونان” و”بيلي” تزوجا رسميا، ليشكلا عائلة حقيقية تنظر بعين الأبوة والأمومة لتلك الفيلة.

“ثيباكدو”.. مخيم للفيَلة تأسس قبل 140 سنة

افتتح الفيلم بلقطات متعددة وسط الطبيعة، تظهر عددا من الحيوانات، من بينها سنجاب وبومة وحرباء، يراقب تحركاتها رجل أسمر يملك شعرا مجعدا وعينين حادتين، ركّزت الكاميرا على جسمه، ثم انتقلت إلى وجهه بلقطة مقربة، والتفّت حوله بشكل دائري.

من هنا أظهرت المخرجة مدى ارتباط هذا الشخص بالفضاء الذي فيه (أي الطبيعة)، ليفهم المتلقي بشكل عام بأن هذا الرجل له علاقة عضوية بالطبيعة، ثم ينطلق بعدها في سرد قصته بصيغة المتكلم، حتى يكون للعمل أثر بالغ وحميمية طاغية، وهي عاطفة حاضرة بقوة في العمل، وتتحدد بعدها معالم هذا الفيلم الوثائقي، ويتضح بأن الرجل هو “بومان” الذي تطرقنا لشخصيته.

ومن أجل توسع نطاق العلاقة التي تجمع بين المتلقي وفيلم “همسات في أذن الفيل” وشخصياته، تقدم المخرجة تفاصيل ومعلومات أكثر اتساعا وأهمية، وهي أن قصة الفيلم وأحداثه تجري في محمية “مودومالاي” للنمور بالهند 2019، وبالضبط في “مخيمات “ثيباكادو” للأفيال، أحد أقدم مخيمات الفيلة في آسيا والعالم، وقد تأسس قبل 140 سنة، ويوجد في منطقة هي النطاق البري الأكبر للفيل الآسيوي.

“راغو”.. ابن حنون يعوض الفقد ويمسح الدموع

ينعكس في الفيلم عدد من الصور الإنسانية ذات التأثير العاطفي، خاصة بعد تفكيك العلاقة التي تجمع الزوجان “بونان” و”بيلي” مع الدغفل “راغو” الذي ربّياه وهو في الشهور الأولى، وقد عثرت عليه إدارة الغابات وحده في الغابة، وكانت نسبة بقائه على قيد الحياة ضئيلة جدا.

بونان وهو يدرب الدغفل راغو على السباحة وسط الوادي

لكن الإدارة قدمته للزوجين لتربيته، وقد نجح الأمر، وكبر الدغفل وأصبح فيلا يبلغ من العمر ثلاث سنوات، وقد نسج علاقة عاطفية قوية بينه وبين الزوجين، خاصة الزوجة “بيلي” التي تقول إنها يوم فقدت ابنتها بكت كثيرا.

وقد اقترب منها الفيلم “راغو” ومسح دموعها بخرطومه بحنية واضحة، وقد استطاع أن يخفف عليها ألم الفقد، ليصبح فيما بعد بمثابة ابنها، إذ ينام ويستلقي على حجرها، وكذلك كان يفعل مع “بونان”.

نقل الفيل.. يوم حزين وتوسلات وإضراب عن الطعام

بعد هذا النجاح الكبير في تربية “راغو” أحضرت إدارة الغابات إلى المخيم دغفلا آخر اسمه “آمو” يبلغ من العمر 6 شهور، وقد استطاع الزوجان تربيته والاهتمام به وإنقاذه من الموت، حتى أنه نسج علاقة بينه وبين “راغو” الذي يكبره.

لكن حين حوّلت إدارة الغابات “راغو” إلى جهة أخرى، حزن الزوجان عليه كثيرا، بل بكيا عليه بمرارة، واستعطفا المسؤولين من أجل إبقائه، لكن القوانين هي القوانين، حتى أن “آمو” رفض الأكل أكثر من أسبوع حزنا على “راغو”.

بونان وبيلي يصطحبان راغو لتعميده في أحد الأماكن المقدسة

من هنا تتجلى هذه العلاقة العاطفية التي نسجت بحب كبير بين الفيلم والزوجين، لأنها علاقة أكثر من كونها عملا موجها أو واجبا مهنيا، بل هو أمر مقدس، خاصة بالنسبة لـ”بونان” الذي ورث مهنة الاعتناء بالفيَلة من أبيه ومن جده ومن الأسلاف، لأنه حيوان مقدس لدى قبيلته، ولا يستطيع أن يتخيل نفسه بعيدا عن هذا العالم، حتى أنه يقوم بتعميدهم دينيا عن الآلهة التي يؤمن بها، ويقيم لهم الطقوس الدينية المختلفة كل فترة، بعد أن يرسم على رؤوسهم ويكللهم بتيجان الأزهار.

بناء الأحاسيس.. عواطف الفيَلة تجاه من أحسن إليها

استطاعت المخرجة “كارتيكي غونزالفيس” أن تفكك العلاقة التي تجمع الإنسان بالطبيعة بمفهومها الكلي، أي أن تستجلي الأبعاد التي تربط الإنسان بالكائنات الأخرى، وكيف يمكن أن تكون عليها في حالة أحسن لها وتعاملها بطريقة أبوية.

وقد ظهرت نتائجها من خلال مسايرة المخرجة لهذه العلاقة مدة من الزمن، خاصة أنها مختصة في الحياة البرية، أي تعرف كيف تطرح الأسئلة الجوهرية، وتعرف كيف ترسم أبعاد هذه العلاقة، وكيف تحيط نفسها بالمعلومات العلمية والعاطفية في الآن معا.

حفل زفاف بونان وبيلي بحضور الفيلين راغو وأمو

وقد تجلت هذه النتيجة من خلال مشاهد بصرية ظهرت في شحنة الأحاسيس التي أظهرها صغيرا الفيلة “راغو” و”آمو” صوب من أحسنا لهما، وقد تعدت تلك العلاقة التي تكون عادة بين البشر والحيوان إلى علاقة نقية وصافية ومميزة، وصلت لحد أنسنة تلك الحيوانات، وجعلهما أفرادا من البشر، من منطلق البناء الجيد للعاطفة وشحنها بطريقة مبتكرة، حتى تجلت تلك الأحاسيس بشكل كبير.

نحت الشخصيات وصناعة الصورة.. جمالية الفيلم

اجتمع في الفيلم عدد من العناصر التي شكّلت تفاصيله النهائية لتصبح على تلك الصورة المهمة، من بينها البناء المحكم والمتسلسل الذي اعتُمد فيه على المراوحة بين الشخصيتين من جهة، ومن جهة ثانية بين الزوجين والفيلين.

أما العنصر الثاني -وهو الأكثر أهمية- فقد انعكس في عملية النحت في الشخصيات، من خلال مسايرتها واستخراج أجمل ما فيها، خاصة لحظات البوح والتقاط المشاهد التي تفسر تلك العلاقة القوية.

وأما الجمالية الكلية فهي التي خلقها التصوير (عدسة كارتيكي غونزالفيس، وأناند بانسال، وكريش مخيجا، وكاران ثابليل)، وقد زرع راحة لدى المتلقي، لأن الحيّز المكاني الذي جرت فيه الأحداث كان وسط الغابة، أي بين الأشجار وخضرتها، وبين الحشائش وامتدادها، وبين الماء والتواءات الوديان العامرة به، وهي معطيات طبيعية تخلق سحرا وترابطا قويا بين المتلقي والفيلم.

المخرجة الهندية كارتيكي غونزالفيس تحمل جائزة الأوسكار على مسرح دولبي بلوس أنجلس 2023

وقد استطاعت المخرجة “كارتيكي غونزالفيس” أن تطوّعها لصالح الفيلم، وتقدم رسالة في غاية الأهمية، وهي ضرورة المحافظة على الطبيعة وما فيها من أجل ضمان البقاء والمحافظة على النوع الحيواني من الانقراض، ليكون فيلم “همسات في أذن الفيلم” وثيقة بصرية مهمة، أبرزت العلاقة المتشابكة والمترابطة بين الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه.