“الرحّالة ذو الفأس”.. وحش ورقي صنع منه الإعلام الأمريكي بطلا

من هو “كاي” هذا الذي شجّ رأس أحدهم بالفأس فأصبح بطلا لدى الإعلام الأمريكي، وكيف أصبح من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، ومن سيتحمل مسؤوليته بعد أن عرفوا شخصيته الحقيقية، ومن هو أصلا هذا الشخص الذي عرف بتسمية “الرحّالة ذو الفأس”؟

“كاي”.. وحش يُسقط قناع الإعلام الأمريكي

استطاعت المخرجة “كوليت كامدن” في فيلمها الوثائقي “الرحّالة ذو الفأس” (The Hatchet Wielding Hitchhiker) أن تُسقط القناع على وسائل الإعلام الأمريكية وبرامجها الحوارية الكبرى، وفي الوقت نفسه أن تكشف عن وجهها الحقيقي من خلال تسرّعها في التعامل مع ما هو طارئ وآني وفارغ، من أجل توسيع دائرة المشاهدين والمتابعين، ولو كان هذا على حساب وأمن الفرد والشعب بشكل عام.

وقد قدّمت المخرجة هذه المعطيات المهمة والفاصلة بطريقة غير مباشرة، بعد أن سلّطت الضوء في موضوعه على شخصية شاب مشرد يبحث عن السكينة والهدوء حسب ما روّج له، وهذا على حواف الطرقات الطويلة، وفي نفس الوقت كان يخبئ في نفسه المضطربة شخصية غير متزنة، وإن كان يظهر عكس ما يبطن.

لكن الإعلام الأمريكي من خلال التركيز على تصرف عابر له، حوّله إلى بطل في ظرف ثلاثة أشهر، بيد أنهم نسوا أو تناسوا بأنهم خلقوا منه “فرانكشتاين” جديد، سرعان ما رأوا وجهه القبيح الذي كان يختبئ خلف ابتسامته الطفولية وتصرفه البطولي، وبالتالي تكون المخرجة قد ضربت عصفورين بحجر واحد، بعد أن أعادت سرد قصته من بدايتها إلى نهايتها، وفي الوقت نفسه أظهرت قبح الإعلام الأمريكي، من خلال إبراز نتيجة ما صنعه.

بُث هذا الفيلم نهاية سنة 2022، وهو من إنتاج منصة “نتفليكس”، وانطلاقا من كون القصة مثيرة للانتباه؛ هناك أحاديث عن تحويله لفيلم روائي طويل سينتج في هوليود.

“يجب القضاء على كل السود”.. بطل الحادث العنصري

في فاتح فبراير/ شباط عام 2013، تلقى الصحفي الرياضي “جيسوب رايزبك” مراسل محطة “كي إم بي إتش” عبر جهازه اللاسلكي معلومة عن حادث خطير، ولأن محطته تعاني نقصا في مراسلي الأخبار، فقد تنقّل شخصيا لعين المكان، وتكفل بالتغطية وإذاعة الخبر.

وصل المراسل في لمح البصر لعين المكان، فاستجمع خيوط القصة ومعطياتها، ويتعلق الأمر بتعمد سائق سيارة أبيض البشرة دعس عامل أسود، وحشره بين سيارته وشاحنة كانت مركونة في المكان، وكان يتلفظ وقتها بعبارات عنصرية، مثل “أنا المسيح”، و”يجب القضاء على كل السود”.

جيسوب رايزبك الذي يعد أول صحفي أجرى لقاء من كاي وقدمه للجمهور والعالم

وعندما تدخلت امرأة كانت في عين المكان، وحاولت إنقاذ الرجل الأسود العالق؛ هاجمها السائق الأبيض وأمسك بها من رقبتها كأنها “قلم رصاص” حسب تعبيره الحرفي، في محاولة منه لقتلها، لكن “كاي” تدخل في الوقت المناسب، وضرب الرجل على رأسه من الخلف ثلاث ضربات بالفأس، فأنقذ المرأة منه.

وعندما اقترب المراسل “جيسوب رايزبك” منها مستفهما عن الحادث، حكت له القصة، وأشارت إلى “كاي” الذي كان يحمل حقيبة ظهر على أنه هو المنقذ، ليذهب له ويسجل معه تصريحا مدته 6 دقائق، بُثَّ الخبر، وفي الليل حُمّل التصريح على “اليوتيوب”، فكانت المفاجأة كبيرة في صبيحة اليوم التالي.

“حارس البوابة”.. مراسل يستفيق على ضجة إعلامية

عندما استيقظ المراسل “جيسوب رايزبك” في صباح اليوم الموالي، ذهبت وتفقد قناته على “اليوتيوب”، فوجد بأن هناك ملايين المشاهدات، وإنما كان يتوقع حوالي 20 مشاهدا، ثم انهالت عليه مئات الرسائل من البرامج والقنوات العالمية من عدد من الدول، كلهم يريدون إجراء مقابلة مع الرحّالة ذو الفأس، من بينها برنامج الواقع الذي تقدمه “كيم كارديشيان”، لكن أكثر العروض قوة هو الذي وصله من فريق برنامج “جيمي كيميل” الذي يعد من أكبر وأقوى البرامج الحوارية في أمريكا.

من هنا وقع في حيرة، وعرف بأنه أصبح “حارس البوابة” حسب تعبيره الحرفي، لأنه الوحيد الذي يملك بريد الرحالة ذو الفأس، لهذا أرسل له رسالة من أجل إجراء مقابلة لمحطته، وحين فعل هذا قدّم له كل العروض الذي وصلته، من بينها عرض برنامج “جيمي كيميل”، وهو البرنامج الذي وافق عليه، تتبعا لنصيحة “صديقه” المراسل “جيسوب رايزبك”.

“كاي”.. ماضٍ أسود خلف وجه الرحالة المجهول

رغم الشهرة الواسعة وانتشار أخباره، لم يكن أحد يعرف الاسم الحقيقي لـ”كاي” ولا عنوانه، لهذا وجدت الشرطة مشكلة في التواصل معه من أجل تقديم شهادته حول ضربه رأس العنصري بالفأس، وحين علمت بأنه سيكون ضيفا على برنامج “جيمي كيميل”، جاءت إليه واقتادته واستمعت لشهادته المتضاربة.

“كايلب ماكغيلفاري” المعروف بـ”كاي” مطلوب للسلطات الأمريكية بعد تورطه في جريمة قتل

وعندما عرضت البرامج بعدها ازدادت الشهرة، وعرفوا وقتها بأن اسمه الحقيقي هو “كايلب ماكغيلفاري”، وينحدر من إحدى المدن الأمريكية، وأكثر من هذا فقد تورط في جريمة قتل بشعة راح ضحيتها المحامي “جو غالفي” في العقد السابع من عمره، وقد اكتشف هذا بعد عملية التحقيق، إذ أظهرت أشرطة الفيديو صورته، وقد عُمّمت صورته على القنوات ومواقع الإنترنت، لأن الشرطة لا تعرف عنوانه.

قتل الدفاع عن الشرف.. حجج واهية وسجن مُشدد الحراسة

قبض على “كاي” فيما بعد، ثم ووجه بالأدلة والبراهين، وقد دافع عن نفسه بقوله إنه تعرض لجريمة تحرش واغتصاب من طرف المحامي، والدليل أنه لم يسرق شيئا من منزله، لكن الشرطة لم تصدق هذه الرواية، لأن البراهين تقول عكس ذلك تماما.

كما أنه كان يقول دائما إنه تعرض للعنف المنزلي، وعندما أجريت مقابلة مع والدته نفت تلك التهم، وقالت إن ابنها كان يعاني في طفولته “من اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط، وقد حاول إحراق المنزل في تلك الفترة، وسِيق إلى مركز يُعنى بمثل هذه الحالات”، كما أنه خلّد مشروع الحريق في أغنية.

كاي بعد أن قص شعره ووضع وشما على رقبته تفاديا للقبض والتعرف عليه

وقد واجهته الشرطة بما نشره على “الفيسبوك” قبل يوم من جريمته، وهذا حين توعد المتحرشين بالقتل، وقال إنه يملك قائمة بأسمائهم، كما انكشف بعدها عدد من الحقائق، من بينها اعترافه لأحد أعضاء الفرقة الموسيقية التي غنّى فيها، إذ قال إن العنصري الأبيض كان معه في السيارة، وهو من قدّم له سيجارة الحشيش، وعندما دخنها أصبح يتلفظ بعبارات العنصرية.

هي حقائق انكشفت تباعا، ليحاكم بعدها “كايلب ماكغيلفاري” المعروف بتسمية “كاي”، وقد استمرت المحاكمة لأيام، وحكم عليه القاضي “روبرت كيرش” بالسجن 57 سنة، ووضع في سجن مشدد الحراسة في مقاطعة نيوجرسي، بينما أدين الرجل الأبيض “جيت ماكبرايد” بالاعتداء بسلاح مميت، وحُكم عليه بالسجن تسع سنوات في مصحة للأمراض النفسية.

“كوليت كامدن”. مخرجة تكشف الحقائق وتصنع المصداقية

أظهرت المخرجة “كوليت كامدن” مقدرة رهيبة في عملية القص والتتبع وكشف الحقائق، بل إنها أعطت لفيلمها مصداقية كبيرة بعد أن اقتربت كثيرا من الأشخاص الذين كانوا قريبين من المجرم/ الضحية “كايلب ماكغيلفاري”، خاصة الصحفي “جيسوب رايزبك”، ومديري البرامج الذين كانوا يريدون لقاء هذا الشخص، وحتى الذين ظفروا بعقد صفقة صحفية معه.

كما اقتربت أيضا من رجال الشرطة الذين قبضوا عليه، وعائلته ووالدته وأقربائه وأصدقاء المحامي الذي قتل، وهي شخصيات كانت فاعلة مولدة للقصة، وقد أعطت كل هذه المعطيات لفيلم “الرحّالة ذو الفأس” موضوعيته.

أثناء القبض على كاي بعد نشر صوره أمام العامة للتعرف عليه، حيث حُكم بالسجن 57 سنة

ورغم طوله النسبي (85 دقيقة)، فإن المخرجة حافظت على سلاسة الأحداث، لأنها استطاعت أن تقدمها بتراتبية منطقية، وهو البُعد الفني الذي خلق جماليات في طريقة القص، كما أعطت فسحة كبيرة لشخصيات العمل، من أجل تقديم وجهات نظرهم في الموضوع، دون قمعهم أو محاصرتهم في زاوية ضيقة.

من هنا لم يكن الفيلم محاكمة ثانية لـ”كاي”، أو تحاملا عليه لأنه قتل المحامي، بل تعامل معه كضحية أيضا، لأن الإعلام كان طرفا في تحويله إلى وحش وبطل ورقي، مستغلين بذلك هشاشته واضطرابه النفسي.