“بنسيون”.. عالم خالٍ من الصراع يرسم صورة مصر المفقودة

لم تستطع أغلب الأفلام المصرية المستقلة التهرب من التيار الكافكي فيها (نسبة إلى الكاتب “كافكا” وغرابة عوالمه وكابوسيّتها)، لكن المفاجأة أن فيلم “بنسيون” -وهو أيضا صناعة سينمائية مستقلة- قدّم لنا السعادة، ولم يتركها سؤالا عالقا على عادة الأفلام المصرية المستقلة.

فمثلا تكاد تختنق حين تشاهد ذاك الذي مات فوق المقطورة برصاصة غادرة في فيلم “فرش وغطا”، وتبقى الأسئلة عالقة في ذهنك، لماذا تركه الجميع؟ وماذا حدث له؟ وتتساءل هل مات الوالد المريض في فيلم “الخروج للنهار”؟ وهل انتهت العتمة هناك؟

ومع ذلك فإن فيلم “بنسيون” لم يتنصل تماما من تلك المشتركات التي بينه وبين الفيلم المصري المستقل، فنجده يشترك معها بكونه أعاد إنتاج الصورة “البانورامية” عن مصر، بعرض لقطات وصور بديعة للمدينة، تجعلك تراها بشكل مغاير.

منظر لمدينة الإسكندرية لحظة أذان المغرب في شهر رمضان حيث يفطر الناس على البحر

وإذا كانت الأفلام المستقلة المصرية تشترك أغلبها بمأساوية الشخصيات، وتشظي السرد وغياب النجم الواحد، وسوداوية الواقع، فهذا كله لم يحدث مع الفيلم المستقل “بنسيون”، فهو يتميز بالإيجابية والتركيز على الشخصية الواحدة التي تقود إلى بقية التفاصيل والشخصيات، بالإضافة إلى التماهي بين الروائية التمثيلية والوثائقية غير العفوية، وهو من إخراج المخرجة سالي أبو باشا، وإنتاج الجزيرة الوثائقية (2022).

مدير البنسيون.. أريحية رجل خفيف الظل من أرض النوبة

لم يسجل “بنسيون” حكاية مأساة فرد، أو استعراض طبقة مهمشة، بل ركز على جمال البيئة المحيطة ويوميات حياة وفرح، وإيجابية أبطال الواقع المعاش، حتى أنك تشعر فجأة بحنين إلى مصر والإسكندرية خاصة، وبساطة أناسها.

يتناول الفيلم قصة بنسيون اسمه “اللوكندة الجديدة”، وهو يحمل الطابع النوبي بأثاثه، نسبة إلى النوبة التي تقع جنوب أسوان في صعيد مصر، كما أن مديره علي هو ابن تلك المنطقة الثرية بالعادات والتقاليد والمنسوجات والفن.

مدير “اللوكندة الجديدة” علي النوبي، شاب مرح ومدير مثالي

وتمثل شخصية هذا المدير الأسمر اللطيف المغترب عن عائلته الدور الرئيسي، فهو خفيف الظل متعاطف صاحب رؤية، كما أنه عامل الربط بين البنسيون وحكايات الشخصيات العابرة على المكان، منها التي تتعلم العربية، وأخرى تقود ورشات ثقافية، وهناك من يمثل بالمسرح، وآخر يعمل بالتجارة، وهكذا لا تعبر وجوه الغرباء إلا من خلال البنسيون ومديره.

فتشعر أن الفيلم يقود ثنائية الثبات والحركة بين الموظفين المقيمين الذين يحاولون تكوين عائلة للمكان، وبين الزوار القادمين والمغادرين الذي يحملون معهم مختلف التجارب الإنسانية المؤثرة فيهم داخل مصر.

انعدام الصراعات.. عالم من الأحلام في واقع الناس البسيط

يعرض الفيلم العلاقات الإنسانية بين الفتيات الأجنبيات والشعب المصري في الشارع وفي البنسيون، فيتشاركون المطبخ لنقاش يومياتهم والمشاريع الثقافية التي يعملون عليها وآخر مغامراتهم، بدون أي صراع مما يتوقع حدوثه في أي لحظة في الفيلم.

السائحة “فيرونيكا” تبحث عن فندق “اللوكندة الجديدة” بعد وصولها إلى الإسكندرية

ومع أننا نتوقع الصراع كل لحظة، أن يحدث مثلا بين الفتيات الأجنبيات اللواتي يتشاركن الغرفة، أو بين المدير وبعض العابرين على البنسيون، فإن ذلك لا يحدث، فليس هذا الهدف من الفيلم على الإطلاق، بل يغلب عليه السلام وصوت البحر وضحكات الناس، والأيام الجميلة في شهر رمضان بالإسكندرية والإفطار على البحر، حتى تشعر أنك تريد أن تطير إلى هناك، وتشاركهم تلك الألفة والإنسانية غير المحدودة.

فطور جماعي لنزلاء الفندق مع المدير علي والسائحات الثلاث

ولا يمكن إلا أن تتذكر مصر تلك التي كانت في خاطرك ثم غابت لفترة بعد تراكم المشاكل الاقتصادية، وتدهور الأوضاع الاجتماعية، وانشغلت بأزمات الفقر والتحرش والاعتقال، لكن هذا الفيلم الحساس البسيط أتى ليذكرنا بعكس كل ذلك، بإطارات جميلة لبنسيون “اللوكندة الجديدة”، والمنطقة المحيطة به، والشخصيات المقيمة به.

وردية الفيلم.. نقطة ضعف تفقد السرد واقعيته

ربما يكون عدم وجود تلك التعقيدات في العلاقات والاكتفاء بالجانب الإنساني الإيجابي، مما يميز الفيلم ويعرضه للنقد معا، فمن عاش في مصر أو زارها يعرف أن الأمور ليست بتلك السهولة، كما أن العلاقات -حتى العابرة منها- ليست بتلك الوردية أيضا، سواء كانت علاقات حميمية أو رسمية، كعلاقة مدير البنسيون بمقيميه، بل إن المشاكل تحدث طوال الوقت، ولا يمكن القفز فوقها كما فعل الفيلم، ولو اشتغلت عليها المخرجة، لكانت أيضا جزءا جميلا من الفيلم ومنحته الواقعية.

نزلاء الفندق يجلسون كعائلة على مائدة طعام واحدة

وربما هذه البساطة في الاستعراض أغنت الفيلم عن استخدام لغة سينمائية مغايرة، كما هي عادة الأفلام المستقلة المصرية، مثل فيلم “فرش وغطا” لأحمد عبد الله السيد (2013)، وفيلم “اشتباك” لمحمد دياب (2016)، بل كان تصوير المَشاهد بشكل اعتيادي.

ومع ذلك فإن بعض المشاهد لم يكن عفويا، فمن الواضح أنها كانت مخططة، مما يثير التعجب والتساؤل: لماذا لم تترك المخرجة الكاميرا مفتوحة تلتقط خروج الناس والدخول إلى البنسيون، من دون أن تحاول ليّ هوية الفيلم ليشبه سردا روائيا.

ما بعد الثورة.. موجة إنتاج الأفلام المستقلة في مصر

كما هو واضح، فإن أغلب الأفلام المستقلة التي ذكرنا، صُنعت بعد الثورة في مصر، مع أن تاريخ الأفلام المستقلة يمتد إلى قبل ذلك بكثير، لكن الثورة المصرية ساهمت بدفعها بقوة وجرأة في الأسلوب والموضوع.

فمن تلك الأفلام فيلم “18 يوم” (2011) وقد صنعه عشرة مخرجين في عشر حكايات قصيرة، كان أغلبها نافذا وقويا، وبعدها جاء فيلما “الشتا الي فات” لإبراهيم بطوط، و”فرش وغطا” في العام ذاته (2013).

جدران الفندق تتزين بالتراث النوبي من رسومات وأعمال يدوية

ومن هذه الموجة أيضا فيلم “باب الوداع” (2014) للمخرج كريم حنفي، وهو فيلم بديع ذو لغة بصرية شِعرية غلبت كثيرا على الحبكة والحوار، فقد اهتم بالصورة السينمائية بلوحات منفصلة، في مزيد من خوض التجريب، ثم جاء بعده فيلم “اشتباك” لمحمد دياب (2016).

إشراك المتلقي.. أسئلة تتسلل من الشاشة إلى عقولنا

لم تكن السمات المشتركة بين هذه الأفلام تنحصر في كآبة شخصياتها، ورسم الواقع بكامل كابوسيته، ولغتها السينمائية المغايرة، وجماليات يصعب قياس نمطيتها كاختفاء الحوار أو ندرته، ووحدة الزمان والمكان، بل هناك أيضا انخفاض الميزانية، وكسر الصورة الروتينية التي تقدمها السينما التجارية عن الفئات المهمشة والحارات الشعبية، وكذلك جرأتها في التطرق إلى الدين والجنس والسياسة، ووجود شخصيات حقيقية في هذه الأفلام من واقع المكان، وغالبا ما تصاحبها أخرى روائية.

مدير الفندق المغترب “علي” يتحدث مع أولاده بالصوت والصورة

هذا الاتجاه بالعموم الذي ينتمي إليه فيلم “بنسيون” لا يطرح الحكاية بوصفها عنصرا للجذب، بمقدار اهتمامه بكيفية سردها، وإلى أي مدى يشارك المتلقي فيها بطرح الأسئلة على نفسه، فهي غير متوقعة، إذ ليست هناك مفاجأة بالنهاية.

فهذه الأفلام تنتمي غالبا لسينما عدم المفاجآت، لأنك لن تعرف أين يأخذك المخرج بسرده السينمائي المفتوح على كل الاحتمالات، مما يجعله أشبه بمختبر يشارك فيه المتلقي، وبذلك يكون تحت التأثير “البريختي” (برتولت بريخت شاعر ومسرحي ألماني) في كسر متواصل للإيهام.