“مخيم الجحيم”.. مراهقون مرفّهون يخوضون صراع البقاء في الصحراء الأمريكية

يعرض الفيلم الوثائقي “مخيم الجحيم.. كابوس المراهقين” (Hell Camp: Teen Nightmare) للمخرجة “ليزا ويليامز” (2023)، تجربة قاسية عاشها مراهقون في مخيّمات خاصة، بعيدا عن أعين السّلطات.

فقد أسس “ستيف كارتيسانو” -وهو متقاعد من القوات الجوية- برنامج “التحدي” العلاجي، واستقطب به المراهقين الضالين والخارجين عن سيطرة أهاليهم، على أمل إعادتهم إلى الجادة، من خلال إخضاعهم لتدريبات شاقة في صحراء يوتا جنوب الولايات المتحدة الأمريكية.

وكانت أسرهم تتكفّل بنفقات 63 يوما، يقضونها في قطع المسافات الطويلة عبر البراري، والقيام بالأنشطة المنهكة. ولكنّ هذا البرنامج مثّل مجالا واسعا للجدل والمحاكمات أحيانا، فقد اتّهم بأنه ليست لديه حدود واضحة بين الرعاية الصارمة وإساءة المعاملة في هذه الأنشطة، وبين غاياتها التربوية وأهدافها الربحية.

مخيمات البرية.. فرصة لإنقاذ الأبناء الطائشين من الضياع

ينطلق الفيلم من تسجيلات للأنشطة المنهكة، تحت الرّقابة الصّارمة للمشرفين على المخيّم، ثم يعرض شهادات من شاركوا فيها قبل نحو 30 سنة، وتتضمن اعترافات بأنهم كانوا مثيرين للمشاكل، وكانوا يتجاوزون كل الحدود، ويسببون إزعاجا متواصلا لعائلاتهم.

ويبدو أنّ “ستيف كارتيسانو” كان ذا دهاء، فقد التقط هذه الوضعية المربكة، وحاول أن يستغل ما يكون عليه الآباء من إحباط نتيجة لخوفهم على أبنائهم من الجنوح، فأطلق برنامجه. ويركّز هذا “العلاج” على فكرة التخييم بعيدا عن الأهل بالبرية.

وهذا ما يعيدنا إلى مفهوم الكشافة وما تمثّله من أهداف تربوية، فهي تصل الأطفال بالطبيعة البكر التي لم تدنس بعد، بعيدا عن صخب المدينة ورفاهتها، وتعمل مخيماتها على إكساب الشّبان الأخلاق الحميدة، وتدرّبهم على الحياة، عبر أنشطة تقوي ثقتهم بأنفسهم، فيتعهد الواحد منهم بالصدق والإخلاص ومساعدة الآخرين.

عبر نبل المخيمات الكشفية، كان الضابط المتقاعد يستدرج الآباء إلى الفخ، فيُقنعهم بأنّ هذه المرحلة تعدّ رحلة يبحث خلالها أبناؤهم عن ذواتهم التي أضاعها طيشهم، وأضاعوها هم بأسلوبهم الخاطئ في تربيتهم، فيسلمونه إياهم بعد تنازلهم عن حقوقهم كتابيا.

“عزيزتنا، هذا الأصلح لك”.. إلقاء المرفّهين في عمق الطبيعة المتوحشة

يروي بعض المراهقين أنهم كانوا يعانون من الفشل الدراسي، وكانوا يستهلكون المخدرات ويدمنون شرب الخمور ويتجاوزون القانون، وحين يحاول ذووهم ضبط سلوكهم لا يتوانون عن ردود الأفعال العنيفة أو الهرب من المنازل الأسرية.

ومن هذا المنطلق عمل “ستيف كارتيسانو” على إضعافهم، فكان يقطع صلتهم بعائلاتهم التي يرونها مصدر حماية لهم، مع كل ما يفعلونه، وبذلك ينتزعهم من محيطهم المرفه ويلقي بهم إلى توحّش الطبيعة.

تعود “باريس هيلتون” -وهي مغنية وممثلة وعارضة أزياء أمريكية- إلى تجربتها المؤلمة في هذا المخيم، فتذكر ما عاشته من الخنق والصفع والإذلال، وتطلق حملة للتصدي للاعتداء على المراهقين حتى لا يتعرّض آخرون لما تعرّضت له هي.

أموال كثيرة يحصّلها ستيف كارتيسانو لتأديب المراهقين الضالين

أما نادين فتذكر وقائع ليلة من ليالي 1989، حين كانت تأوي إلى النوم، وفي بالها أن تذهب من الغد إلى المدرسة، ولكنها استفاقت على صوت رجلين ضخمين يطلبان منها الخضوع لهما، ويأخذانها عبر طائرة خاصة إلى المخيم البعيد. وفي الطريق يسلمانها رسالة من والديها، يقول نصّها في نبرة استسلام أمام شغبها “عزيزتنا، هذا الأصلح لك”، ويبرران ما أقدما عليه بحبهما لها، وعجزهما عن إصلاح سلوكها بنفسيهما.

“لقد كسرنا عنادهم كي نتخلّص من حماقاتهم القديمة”

في مرحلة أولى يقدّم “المعالجون” لهؤلاء المراهقين ما يحتاجون من الأكل للبقاء أحياء، ولكنهم يضعونه بعيدا جدّا عن متناول اليد، فلا يصلون إليه إلا بقطع المسافات الطويلة على الأقدام وهم محملون بأغراضهم الثقيلة، بحيث يبلغ مجموع المسافة التي يتعين عليهم قطعها تحت الشمس الحارقة 700 كلم، وحين يصلون يُطلب منه طبخ طعامهم بأنفسهم.

ثمّ تتبع هذه المرحلةَ مراحل أخرى أكثر مشقة، فيدرك هؤلاء الأطفال أنهم فقدوا قواعدهم الصلبة بفصلهم عن عائلاتهم، ويصبحون أميل إلى الخنوع، ويعبّرون عن الشعور بالندم وتأنيب الضمير، أو يفتعلونه افتعالا بحثا عن السلامة، في ظل قانون داخلي صارم.

يعاقب قانون المخيم كل متمرّد أو مرتكب لعملية سرقة أو مانح لجائع آخر شيئا من طعامه، بحمل حقيبة الظهر بعد حشوها بالصخور، وحين رفض أحدهم الأوامر بالمسير جُرّ على الأرض إلى أن كُشط جلد ظهره، وفي هذه المراحل يصبح التّحدّي الأكبر هو أن يبقى المراهق على قيد الحياة، وإذا فارق الحياة فإن ذلك لا تكون له تبعات قضائية، وقد فقدت إحداهن روحها في المخيم ولم يحدث شيء.

لا يرى “لانس جاغر” -وهو أحد مديري البرنامج- حرجا في ما حدث، بل ظلّ يردّد بفخر “لقد كسرنا عنادهم كي نتخلّص من حماقاتهم القديمة، ولنعيد بناء شخصياتهم، هذا أفضل من ذهابهم إلى السجن”. أمّا البرنامج فقد غيّر اسمه، وظلّ -على فداحة الحادثة- يستقطب أبناء الأثرياء ويرحّلهم إلى خارج الولايات المتحدة.

توحش البرية يكسر جموح المراهقة.. طقوس العبور

لا بدّ أن ننزّل تمرّد هؤلاء الأطفال في سياقه النفسي والاجتماعي، ففي هذه السنّ يسعى المراهق إلى بناء شخصيّته المستقلّة لمواجهة تحديات الحياة، تلك المرحلة الضرورية التي يحتاجها للعبور من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب ثمّ النضج.

طوّافات خاصة لمراقبة المكان، إذهال الآباء لانتزاع أموالهم

ومن الطبيعي أن يصطدم أحيانا بأوليائه الذين يمارسون عليه المراقبة، في حين يريد هو حرية سائبة تتجاوز أحيانا المحاذير القانونية والدينية والأخلاقية، مستجيبا إلى نداء الجسد الذي ينمو بسرعة أكبر بكثير من سرعة نموه العاطفي أو الذّهني.

ولذلك يعمل البرنامج على إنهاك أجساد المراهقين، ليتمثّلوا العالم عبر ملكات أخرى، فيجعل توحّش الأجساد يواجه توحّش الطبيعة، ينقلهم إلى الصحراء والأحراش القاسية، وهناك يخوضون تجارب جسدية قاسية تكسر روح التمرّد داخلهم، ويواجهون أشخاصا قُساة ضخام الجثث، يطلبون منهم الخضوع بلا تردّد أو تفكير، خلافا لذويهم الذين يعاملونهم بكثير من العطف والدلال.

ويسعى منظمو هذه المخيمات إلى إقناعنا بوجاهة أساليبهم تلك، بغرس ممارساتهم ضمن خلفيات فكرية ونفسية، فيستندون إلى فكرة طقوس العبور التي عمّقها عالم الاجتماع الفرنسي “أرنولد فان جينيب”، ومدارها على ارتباط نهاية مرحلة وبداية أخرى -كالولادة والختان والزواج والموت والارتقاء إلى مرتبة الزعامة أو الملك- بطقوس تكفل عدم العودة إلى الخلف.

ولذلك فهم يجعلون عبور هؤلاء المراهقين من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب عنيفا ومتوحشا بقدر عنفهم وتوحشهم.

إعادة بناء الشخصية.. دعاية تستهدف أبناء الأثرياء

خلافا لهذه المرجعيات العلمية المعلنة يجد معارضو البرنامج ممارسات “ستيف كارتيسانو” ومساعديه أقرب إلى أساليب التعذيب، فسبيل هؤلاء للسيطرة على المراهقين هو الألمُ الجسدي أو النفسي، مثل ممارسي التعذيب في الأنظمة الاستبدادية للسيطرة على ضحاياهم وإخضاعهم.

وطبيعة العلاقات بين الطّرفين تكاد تتماهى هنا وهناك، ففي الحالتين يسعى القويّ إلى كسر إرادة الضّعيف ويعمل على تعميق إحساسه بالمهانة والإذلال الذاتي. وكما يسعى ممارس التعذيب إلى تحييد الشعور بالذنب، فيضفي المشروعية على ما يقوم به باسم الواجب النبيل والحفاظ على السلم الأهلي والمصلحة الوطنية، فإن فريق مخيّم التحدي يبرّر ممارساته الفظيعة ضد الأطفال والمراهقين بتأديبهم وحمايتهم من الانزلاق إلى عالم الإجرام والسجون.

مخيمات خاصة بعيدا عن أعين السلطات عاشها المراهقون

ولكن بعيدا عن هذه الغايات التربوية المعلنة، يستهدف البرنامج جيوب الأثرياء، فهم من يتوجّه لهم بالدعاية، فـ”باريس هيلتون” مثلا التي ذكرناها في مطلع هذه الورقة، هي حفيدة “كونراد هيلتون” مؤسس فنادق هيلتون، وهي وريثته.

يبني البرنامج تصوّر الأثرياء “لإعادة بناء شخصيات” أبنائهم، بعد أن فشلوا هم في ذلك، مقابل نفقات لا يستطيعها سواهم، فما يتطلّب من النفقات -كاستئجار الطائرات الخاصة، وتكليف فريق عمل متفرّغ، ووضع مساحات شاسعة تحت التصرف- يجعله منتجا مكلفا يقتضي بالمقابل دفع الأموال الكثيرة.

وفضلا عن ذلك يكشف هذا البرنامج أصداء بعيدة للشر الكامن في الإنسان، فشهادات الضحايا تكشف أنّ هذه المخيّمات تتحوّل إلى معتقلات أشبه بمعتقلات أبو غريب وغوانتامو، أو معتقلات المعارضين السياسيين في الأنظمة الاستبدادية التي يستسلم فيها السّجانون إلى ساديتهم، فيتفننون في التعذيب والتلذذ بآلام الضحية.

“نتفليكس”.. واعظ يقتحم الخصوصية ويحصد المشاهدات

يطرح الفيلم نموذجا لانحرافات الرأسمالية في المجتمع الأمريكي ويحوّلها إلى قضية أخلاقية، فيفضح الانتهاكات التي تمارس ضد المراهقين بذريعة تدارك “نقائص في تربيتهم” ظاهريا، وأما حقيقة الأمر فهو أنه بدافع الجشع والرغبة في تحصيل المزيد من المال.

والقضية جادة حقا، فالتعامل العسير مع المراهقين يتجاوز مجتمعات الوفرة ليشمل مختلف الطبقات والشرائح، وفي كلّ المجتمعات يعاني عدد كبير منهم من الهدر المدرسي، ويدمن على استهلاك المخدّرات، وينزلق إلى عوالم الجريمة، وقد حوّل عقل “ستيف كارتيسانو” البارع هذه المعضلة إلى استثمار مربح جدا، غير عابئ بالمحاذير الأخلاقية أو القانونية.

المراهقون يقومون بأعمال شاقة في المخيمات البعيدة

ولكن وراء هذا الخطاب الوعظي الذي يدين التضحية بالقيم في سبيل الأموال منصةُ “نتفليكس” منتجة الفيلم، وسبيلها غالبا تقديم الأفلام الصادمة القادرة على تحقيق أرقام مشاهدة عالية، وهي نفسها موضوع اتهام مستمر، فالتقارير الكثيرة تشير إلى أنها تضع يدها على بنك ضخم من المعلومات الخاصّة بالمستخدمين، فيتولى مختصوها تحليلها لمعرفة ما يريده المتفرّج ويوجّهها إلى الاستثمار في مواضيع دون غيرها.

وهذا ما يطرح إشكالا حول هذا “الواعظ” نفسه، فالجشع والرغبة في تحصيل المزيد من المال يجعله يرتكب انتهاكات جسيمة أيضا، منها التجسس على المستخدمين واستباحة خصوصياتهم. ويحيلنا هذا الخطاب إلى طبيعة العلاقة في السينما بين الاستثمار والإبداع، فللفيلم الوثائقي أكثر من خصوصية تجعله فنّا مناضلا، يدافع عن حقوق الإنسان وقضايا البيئة، وينتصر للقضايا العادلة عامة.

ولا يخلو فيلم “مخيم الجحيم” من هذه “الغايات النبيلة”، في الظاهر على الأقل، ولكنّ ذلك ليس إلا مطية لاستدراج المشاهد، ليدفع معلوم اشتراكه في هذه المنصّات.

لقد سرق المستثمرون الفيلم الروائي منذ زمن، وظل الفيلم الوثائقي وحده يقاوم، ولكن على أيامنا هذه جاءت الوسائط الجديدة التي تستهدف المتفرّج الباحث عن التسلية، وتبحث عنه أينما حل، بعد أن كان المتفرّج المحبّ للسينما التي تتعاطى مع القضايا الحارقة يبحث عنها في قاعات العرض وأندية السينما، فاستطاعت سحبه إلى دائرة الاستهلاك والتسلية.

عصر التيكتوك.. ذائقة تعبث بقواعد الفيلم الوثائقي

لقد أضحت الأفلام الوثائقية تنزع بجلاء إلى الروائية على نحو يكاد يعصف بهويتها، بعد أن كان نقيصة تحاول أن تتبرأ منها. والسؤال الذي يطرح اليوم هو ماذا بقي من الفيلم بعد الفرجة، وما الرسالة التي عمل على توجيهها؟

لا شكّ أننا سننتهي إلى تحوّل جوهري في هوية الوثائقي الذي أصبح يستجيب لتطلعات جمهور تصوغ فيديوهات التكتوك والأنستغرام ذائقته، وتأخذه بعيدا عن التقاليد الذائعة في تقبّل الوثائقي. وبديهي أنّ الأفلام الوثائقية تختلف حسب المواضيع والمبدعين، ولكن يجب أن نضع بعين الاعتبار أنه يتغيّر حسب العصور.

واليوم أصبحت للوثائقي هوية مختلفة جوهريا تلك عن التعريفات التي كانت تصرّ منذ قرن تقريبا على ربطه باستهداف الحقيقة والمعالجة الموضوعية لقضاياه، فأصبح يختلق الوضعيات بحبكات تدعم التشويق والمغامرات وفتنة السرد، بدل البحث عن الحقيقة، أو التفكير في وجوهها المختلفة، أو اتّخاذ موقف من الواقع كما كان يفعل الروّاد الأوائل، ويميل إلى المثير والصّادم أكثر من الانخراط في مسار نضالي.