“مورا يُشكاد”.. تاجر الرقيق الفرنسي الذي أرسل المغاربة إلى مناجم الفحم القاتلة

يسترجع الوثائقي المغربي “مورا يُشكاد” تاريخا من الحيف والظلم الذي لحق بعمال مغاربة ذهبوا للعمل في مناجم الفحم في فرنسا من الخمسينيات إلى بداية ثمانينيات القرن المنصرم، وذلك بسبب ضيق العيش، وبأمل الحصول على فرصة عمل يوفرون بها مبلغا من المال، يكفيهم للعيش بكرامة في وطنهم بعد عودتهم إليه.

هذا الحلم أو الوهم عملت شركات استخراج الفحم الفرنسية على تغذيته في أذهان الفلاحين المغاربة الفقراء، وصوّرته لهم واقعا حاصلا بمجرد وصولهم إلى هناك، من دون الإعلان أو الكشف عن نياتهم الحقيقية من وراء ذلك، المتمثلة بالحصول على قوة عملهم الرخيصة، واستغلال جهلهم بالقوانين التي تحمي حقوقهم.

ولتحقيق ما تريده الشركات، تُكلف المجند السابق والموظف في قسم شؤون السكان الأصليين في الجيش الفرنسي في المغرب “فيليكس مورا” بهذه المهمة، فصار اسمه مرادفا لحركة العمالة المهاجرة في تلك الفترة، وما لازمها من خسارات وأحزان.

ولهذا السبب يقرن المخرج عنوان وثائقيه باسمه، ليشير به إلى وجوده في مدن مغربية بعينها، فقد بات -بسبب دوره تاجرا للعبيد- جزءا من تاريخها الحديث المتشابك مع الدور الذي لعبه وسيطا فرنسيا، وضع مصلحة مناجم الفحم في بلده فوق مصالح مواطنين مغاربة بسطاء، كانوا يجهلون ما ينتظرهم هناك في الجهة الأخرى من المتوسط.

أُنتج فيلم “مورا يُشكاد” عام 2023، وعنوانه المترجم عن الإنجليزية هو: “مورا هنا” (Mora Here)، وقد أخرجه المغربي خالد زايري وكتب له السيناريو أيضا، واشترك في تصويره باشتغال جميل المصوران محمد كارا، ورفيق زكان، في حين صنع له الموسيقى التصويرية “أويستن بواسين”.

عمال مناجم الفحم.. شهود من قلب التجربة القاسية

لاستعادة جانب من حياة أكثر من 70 ألف عامل جلبهم “فيليكس مورا” من المغرب إلى مناجم الفحم في منطقة باو دو كاليه شمال فرنسا خلال أكثر من عقدين من الزمن، يستعين صانع الوثائقي بعمال اشتغلوا في تلك المناجم، بعضهم مكث في فرنسا، وقسم آخر قرر العودة إلى بلده بعد إغلاق المناجم خلال ثمانينيات القرن المنصرم، ولم يبق لديه ما يصنعه هناك، بعد أن أفنى شبابه فيها، ولم يحصل منها سوى على المرض والحزن وعلى خسارات عائلية لن تعوض.

يتعمد المخرج خالد زايري عدم كتابة أسمائهم على الشاشة عند ظهورهم عليها، ويترك ذلك يأتي ضمن السياق، وفي ثنايا الحوارات، أو يؤجله حتى نهاية مسار فيلمه، ليضعها ضمن لائحة الختام، وهو بهذا الأسلوب يريد توسيع مساحات شخصياته، لتمثل شريحة كبيرة من العمال عاشت نفس التجربة، أو كانت قريبة جدا منها.

لكنه لا يكتفي بذلك، بل يرجع إلى الأرشيف ليأخذ منه ما يفيد فكرته، ويعمق الإحساس عند المتفرج بشدة مصداقية كتابته السينمائية المقرونة دوما بالصورة، والموسيقى التصويرية المُعَمِقة لمضامينها، هذا كله من دون تجاهل لدور الشخصيات المشاركة في التعبير عن دواخلها بحرية لافتة في عمقها وصدقها.

“مورا”.. رمز الرجل الفرنسي الذي سرق أولاد المغاربة وأزواجهم

كتابة المخرج خالد زايري مصحوبة بقصص منقولة عن عمال غادروا البلد وتركوا عوائلهم على أمل العودة إليها، بعد انتهاء مدة عقد العمل التي تراوحت بين ستة أشهر وثمانية عشر شهرا، لكن الواقع كان غير ذلك، فقد بقوا بعيدا عنهم سنين عددا، وكثير منهم لم يرجع، ومات هناك.

يشتغل الوثائقي على ذلك الجانب المتخيل بعناية، وهو يأخذ شكل حوار يمر عبر رسائل صوتية أو مكتوبة، تناشد فيها الزوجات المتروكات للوحدة والحيرة عودتهم سريعا، والأمهات والآباء يعبّرون عن أملهم برجوع أولادهم معافين، وقد حققوا ما خرجوا من أجله.

لا يغيب اسم “مورا” عن الرسائل والتسجيلات الصوتية، فقد بات لديهم رمزا للرجل الفرنسي الذي سرق منهم أولادهم وأزواجهم، رجل كُتبت عنه أغانٍ شعبية تشير إلى قساوته ودوره الخبيث.

التهديد بالطرد من العمل بعد الخروج في مظاهرات تطالب باستعادة حقوقهم

ومع أن هاجس صانع الوثائقي أكبر من شخصية “مورا”، فإن حضوره يظل ملازما لمسار الفيلم، لكونه نموذجا للاستعماري البشع وتصرفاته التي هي كناية عن سلوك ثابت لرجل أبيض متعجرف لا يرى الآخر “الضعيف” إلا جسدا قويا يستغله، وبعد استنزاف ما فيه من قوة يمكن له رميه من دون التفكير بمصيره حتى ولو لحظة.

اختيار الأقوياء الأميين.. أسلوب خبيث لوأد حقوق العمال

يوثق الفيلم دور “مورا” من خلال صور فوتوغرافية، يظهر فيها وهو يختار عمالا مغاربة تقدموا للعمل، بعضهم يشارك في الوثائقي، ويصف بدقة آليات اختيار المتقدمين منهم، وجلهم من قرية “أيت أورير” القريبة من مدينة مراكش.

يظهر من أحاديثهم أمام كاميرا الوثائقي أنه وضع آلية لاختيار العمال الأقوياء فقط دون غيرهم، يكلف لجنة طبية لفحصهم، ثم يعاين هو أجسادهم ويدقق في مدى قدرتها على تحمل مشاق العمل في المناجم، ثم يحدد المقبولين منهم بلون الختم الذي يتركه على أذرعهم، فاللون الأخضر يعني اجتياز الاختبار، أما الأحمر فيعني الفشل.

من خبايا الاختبارات وخبث المشرف عليها أنه كان يختار الأُميين من بين المتقدمين للعمل، ويُبعد من كان لديه تعليم مدرسي، ويكتشف العمال فيما بعد أن الغاية من وراء ذلك هي استغلال جهل هؤلاء وأُميتهم، لتجنب أي مطالبة لاحقة لهم بحقوقهم المشروعة، بوصفهم عمالا أجانب وقعوا عقود عمل نظامية.

قسوة المناجم الفرنسية.. مغاربة ينهشهم المرض والعنصرية

يصف الكثير من الذين مروا بالتجربة صدمتهم الأولى بنوع العمل وصعوبته، فلم يتخيلوا ولم يقل لهم “مورا” شيئا عن الأعماق الساحقة التي ينزلون إليها بمصعد كهربائي شديد السرعة، مما يثير الخوف في دواخلهم لعدم تعودهم عليه.

لم يشر “مورا” إلى ظروف العمل السيئة في المناجم الفرنسية، ولم يخبرهم عن بؤس عيشهم المنتظر في فرنسا، ولا عن وجود فوارق كبيرة بينهم وبين العمال الفرنسيين، فأولئك عمال لهم حقوق مصانة قانونيا ونقابيا، أما المغربي فليس له إلا الواجبات، وما عليه إلا القبول بما يُقدم إليه.

توضح شهادات ومقابلات العمال المغاربة الذين مروا بالتجربة نظرةً عنصرية وإحساسا شنيعا بالتفوق عند الفرنسي، صاحب المصلحة في استغلال قوة عمل المهاجر الذي يترك وطنه وعائلته من أجل هدف نبيل، لكن المحزن أنه في أغلب الأوقات لن يتحقق، وينتهي مُخيّرا بين أمرين، فإما البقاء ومواصلة العمل بشروط مجحفة، أو العودة إلى الوطن خالي الوفاض.

يكشف الوثائقي أساليب تحايل مناجم الفحم التابعة للدولة، ومنع حصول العامل المغربي على حقوقه حتى في حالة مرضه، إذ يُصاب كثير منهم بمرض “السُحار السيليسي”، بسبب استنشاقهم غبار الفحم داخل المناجم، مما يؤدي إلى عجز الرئة عن أداء وظيفتها، وفي مراحل متقدمة يؤدي إلى موت المريض.

توثيق لحياة عمال أجبرتهم الظروف القاسية على البقاء في فرنسا

يجمع المخرج في مشهد قصير أجيالا جديدة من أبناء عمال مغاربة ماتوا بسبب المرض، لكنهم اكتشفوا فيما بعد أن إدارات المناجم كانت تتعمد إخفاء التقارير الطبية الحقيقية، حتى لا ينال المريض الحقوق التقاعدية التي ينالها العامل الفرنسي، مما الذي يُعرّي أمامهم موقفا عنصريا تعرض له آباؤهم لكونهم عمالا مهاجرين أولا، وثانيا لكونهم عربا ومسلمين يواجهون في فرنسا تمييزا مضاعفا.

مسؤول المناجم.. كراهية نابعة من ثقافة استعمارية

تحيل المناقشات حول سلوك “مورا” وبقية مسؤولي المناجم إلى سلوك عنصري نابع من ثقافة استعمارية تبطن كراهية واستخفافا بالآخر، وتجيز التقليل من شأن المهاجر، وتسمح له باستغلاله، وحين يدرك العامل حقوقه ويطالب بأخذها يتكشف الوجه الحقيقي لأصحاب المناجم، فيهددونه دون تردد بالطرد من عمله، وهذا ما كان يقوم به “مورا” كثيرا، حتى بات كأنه الناطق الرسمي باسم أصحاب المناجم، ووسيطهم الخبيث القادر على المماطلة وخداع العمال.

يُثبت الوثائقي شهادات عمال رفضوا القبول بواقع غير عادل، فقرروا تنظيم المظاهرات وإعلان الإضراب عن العمل، لكنهم جوبهوا بالتهديد والتخويف بالطرد من البلد، وإلى كل هذا يشير مسار الوثائقي، حين يعطي بعض أبطاله الذين عادوا إلى بلدهم مساحة كافية، تتيح لهم نقل تفاصيل المشهد الذي عايشوه، ووجدوا أنفسهم بعد تقدمهم في العمر من دون ضمانات، ويعانون من صعوبة التأقلم مع الواقع الجديد.

أما الذين بقوا هناك وتُركوا وحدهم يعانون من الفقر والمرض، فيتوقف الوثائقي عندهم طويلا، لينقل للمُشاهد بؤس عيشهم، ويسمعه نصوص رسائلهم الموجهة لزوجاتهم اللواتي انتظرن عودتهم طويلا، ولم يجدن في نهاية المطاف إلا القبول بمآلات رحلتهم الحزينة التي طالت كثيرا، ولم تُبقِ أمامهن خيارا سوى مواجهة صعوبات الحياة من دونهم.

أهالي العمال.. نساء صبورات يواجهن الحياة وحيدات

من دون ادعاء بانحياز للأنثوية، يعطي الوثائقي للمرأة المتروكة لوحدها -أُما كانت أو زوجة- حيزا للتعبير عن مشاعرها وعن قساوة ما فعلته بهن هجرة رجال القرى الفقيرة.

أمهات صبورات لن يغفرن لمورا ما فعله بأولادهن

نساء صبورات نظرن إلى “مورا” على أنه رمز لبشاعة “تجار العبيد” الفرنسيين الذين لم يهتموا بما ستؤول إليه حياتهن من دون معيل، نساء متسامحات، لكنهن لن يغفرن لـ”مورا” ما فعل من خداع واستغلال لرجال بسطاء ذهبوا إلى الجهة الأخرى من البحر، على أمل أن يعودوا بمال قليل يحقق لهم ولأهليهم حياة أحسن من تلك التي كانوا يعيشونها في قراهم الفقيرة.

هذا الجمع الواسع لحيوات وتجارب مختلفة وانتقالات جغرافية متباينة المساحات جعل فيلم “مورا هنا” وثائقيا كاشفا للفظائع، يستقصي عميقا تاريخا من الظلم، بأسلوب سينمائي يجمع بين قوة الحضور الشخصي لأبطاله، وبين الاشتغال السينمائي الذي يعطي للجمال فسحته المطلوبة.