“شرف الكشافة”.. ملفات سرية تكشف جرائم استغلال الأطفال في أمريكا

ترتبط الكشافة أساسا بقيمة الشرف، لكنها في الولايات المتحدة الأمريكية ترتبط بقصص صادمة تجعلها بعيدة كل البعد عما يُراد لها، وهذه المفارقة كانت موضوعا انطلق منه المخرج “براين نابينبرغر” لينجز الفيلم “شرف الكشافة: الملفات السرية للكشافة الأمريكية” (Scouts Honor: The Secret Files of the Boy Scouts of America)، فيبرز أن المنظمة قد تحولت من جمعية تساعد الشباب على تشكيل هوياتهم وعلى تحقيقهم لذواتهم، ليكونوا أفرادا فاعلين في المجتمع، إلى ناد لاستقطاب المتحرشين بالأطفال وتحميل فيديوهاتهم الإباحية على النت.

يعرض الفيلم نماذج من هذه التجاوزات، ويبحث في تبعاتها النفسية المدمرة للضحايا، فجاء هذا الوثائقي بنكهة العمل الاستقصائي الذي يتجاوز سطوح الأشياء وظواهرها، ليفضح ما يجري في الكواليس والمخيمات البعيدة.

تاريخ المنظمة الكشفية الأمريكية.. قيم ومبادئ وفضائح

أسست المنظمة الكشفية الأمريكية تلك الجمعية الشبابية الكبرى في العالم سنة 1910، أي بعد 3 سنوات فقط من تأسيس أول منظمة كشفية في إنجلترا، وضبطت أهدافها التربوية، فنصت على ضرورة إقامة المخيمات لإكساب الشّبان الأخلاق الحميدة والدربة على الحياة، بأنشطة تقوي ثقتهم بأنفسهم، وتجعلهم مفيدين للغير، محبين للطبيعة، وتمكنهم من معارف أساسية كالإسعافات الأولية، وطهي الطعام، والتمييز بين مختلف النباتات، وكل ذلك في إطار مرح يعج بالألعاب التربوية، فيقطع الشاب منهم الوعد الكشفي، ويتعهد بأن يكون صادقا ومخلصا في الحق، يساعد الآخرين دون تردد، ودودا رفيقا بالحيوان، مطيعا لأوامر قادته.

والسمة المميزة للحركة الكشفية المعترف بها عالميا هي زيّ سكاوت الرسمي، وهو زيّ بسيط وموحّد يهدف إلى إخفاء الاختلافات الاجتماعية بين المشاركين، ويتضمن -فضلا عن شعار الحركة- شارات الاستحقاق التي تمثّل أمارة على الشرف، وعلى التفاني في خدمة الناشئة، وفي خدمة الوطن.

وبعد قرن وعشر سنوات (2020) أصبحت هذه المنظّمة العريقة تضمّ نحو 2,2 مليون عضو، تتراوح أعمارهم بين 5-21 سنة، وتمثل فخر الولايات المتّحدة، وهي ذات أهمية كبيرة، وقد دأب رؤساء الولايات المتحدة على حضور مخيماتها الكشفية الوطنية، وإلقاء كلمات في تجمع شبابها.

لكن خلف هذه القيم النبيلة والصور البراقة، كانت ترتكب فظاعات في كواليسها ومخيماتها، وكان المشرفون على هذه المنظّمة يضعونها في العلبة السوداء، فيخفونها عن الرأي العام، حفاظا على سمعة ستكشف الأيام أنها كانت ملطّخة بالعار.

“مايكل جونسن”.. عميل مختص بالتحقيق في جرائم الأطفال

يبدأ الفيلم بشهادة “مايكل جونسن”، وهو عميل سابق في قسم شرطة بلانو بتكساس، كما أنها اسم لامع مختص في التحقيق بجرائم الأطفال، فقد وُظّف في المنظمة سنة 2010 مديرَ قسم حماية الشباب، ويتمثّل دوره في العمل على إبقاء الأطفال بعيدين عن أي خطر أو انتهاك. وفضلا عن حِرفيته فهو كشفي سابق، لذلك كان متحمسا لوظيفته الجديدة، ويتنزّل تعيينه في سياق بدأت فيه الأصوات ترتفع هنا وهناك، مشيرة إلى انتهاكات يتعرّض لها الأطفال في المنظمة التي أسست لرعايتهم.

يحدثنا العميل “جونسن” عن تجربته في المنظمة الكشفية، وخبرته الطويلة في التحقيق مع المعتدين ومع الأطفال وأوليائهم، فقد كان يوفّر الظروف المريحة للأطفال الضحايا، ويأخذ إصابتهم بالصدمة بعين الاعتبار، حتى ينخرطوا في عمليات كشف لما يخفونه خشية العار، وينتهي إلى قناعة مدارها على أنهم قد مروا بأسوأ التجارب في حياتهم. لكن المسؤولين في المنظمة كانوا يؤكدون دائما أن الأمور تسير على أحسن ما يرام.

مايكل جونسن أرادوه واجهة لتلميع صورة المنظمة الغارقة في الوحل

وقد اكتشف “جونسن” أن الإدارة كانت ممانعة، ولا تريد أن تتعاون معه، فقد كانت تحجب عنه الملفات المهمة، وحين يصرّ تقدم له الوثائق في شكل ركام لن ينتهي من فرزها مطلقا، والحال أنه يطلب وثائق دقيقة حول معايير الرعاية، إلى أن اكتشف أن المشارك في ضبط شبكة معايير الرعاية هذه هو “دوغلاس سميث” المسجون في قضية تداول مواد إباحية للأطفال، ومثل هذا السّر كان يُخفى عنه.

هذه عينة من ممارسات كثيرة أثبتت للمحقق أنه انتدب، ليمثّل واجهة تلمّع صورة المنظمة حتى تكون فوق الشبهات، وأن المشرفين يتلاعبون به لإخفاء الانتهاكات لا لكشفها.

ضعف الحالة المادية.. أرملة تفسد حياة ابنها وهي لا تعلم

تجرأ أعضاء من المنظمة الكشفية على كسر حاجز الصمت عن انتهاكات جنسية، تعرضوا لها أثناء نشاطهم الكشفي، ومنذ ذلك الحين تتابعت الدعاوى القضائية حتى بلغ عددها نحو مئة ألف، يؤكّد أصحابها جميعا أنهم كانوا ضحية لانتهاكات جنسية ارتكبها القادة الكشفيون، فأشهرت المنظّمة إفلاسها نتيجة لذلك، وكان ذلك حيلة قانونية تجمّد طلبات التعويض الموجّهة إليها، وتحيلها إلى صندوق للتعويضات.

ويعرض الفيلم مجملا من شهادات أصحاب هذه الدعاوى القضائية الباحثين عن العدالة والرّاغبين في كشف ما كان يقع في هذه المنظمة، ومن بينهم “مارك أيتون”، فقد كان القائد “توماس هاكر” يظهر له اللطف، ثم يستغل الفرص للاختلاء به، ولكنه لم يكن يجد الجرأة ليخبر والديه، وهو يعيش اليوم مرارة ما تعرض له زمانا، والشعور بأنّ ذلك المتحرش قد سلبه طفولته، وبما أنه يدرك أنه لم يكن مخطئا، فقد أصبح لزاما عليه أن يتكلّم ويكشف ما تعرّض له، حتى يتجاوز محنته.

أما “دوغلاس كينيدي”، فقد توفي والده بسبب السرطان، وتركه وأخاه في كفالة أمه، وهو لم يتجاوز 13 شهرا من العمر حينها، فوجدت الأم الأرملة صعوبات جمة في إعالتهما، وكانت تستغل عطلة الصيف، فتأخذه إلى جمعية الشّبان المسيحيين وإلى حركتها الكشفية، لتوفر له رفاهية يفتقدها في رفقتها، عساها تعوض له بعض حرمانه.

ستيف ماكغوا لا شيء يدعو القلق فالأمور تحت السيطرة

ولكن مدير المخيم كان يعلم حاجته إلى العيش هناك، فيستغل خوفه وعدم خبرته، ويعوّل على سلطته عليه وعجزه عن المقاومة، فيقتحم عليه خيمته. وما يؤلمه أكثر -وقد غدا الآن كهلا- أنه لم يستطع أن يخبر أمه قبل وفاتها بشيء، لأنها كانت تعاني من السرطان، ففضّل عدم إيذائها، مع شدة حاجته إلى البوح إليها، ليخفّف من ألمه.

تبعات المحنة.. نهاية مأساوية للطفل والعائلة

تبدو قصة “ريتشارد شولنز” أكثر تراجيدية من غيرها، فهو يعيش مأساة تأنيب ضمير، لأنه لم يستطع حماية أخيه “كريستوفر شولنز” من محنة الاغتصاب، فقد أخذتهما العائلة سنة 1977 إلى المدرسة الكاثوليكية في كنيسة أسامبشن، وكان الأخ “إيدموند” قيّما عليها، فأخذ يتقرب من العائلة لكسب ثقتها، وأخذ ابنيها إلى معسكر كشفي محلي يشرف عليه، ليستدرج “كريستوفر” هناك.

لم يتحمّل الصبي الوضع طويلا، فبعد أزمات نفسية ونوبات هلوسة وصرع أنهى حياته ذات يوم من 1978، وبعد أن هرب القس من الولاية إلى أخرى، نُبذت العائلة من قبل مرتادي الكنيسة، واتُّهمت بالإساءة إلى ممثلي الإيمان وإلى المنظّمة الكشفية.

يعرض الفيلم تبعات التّحرش، ويفصّل وجوها من معاناة ضحاياه، كالصدمة النفسية الشديدة التي تجعلهم ينكرون أجسادهم، والشعور بالعجز وبالظلم وفقدان الثقة في النفس، والعيش في حالة من الرعب والتوتر والإحباط، وغالبا ما يكون الضحايا عاجزين عن البوح بالسّر، وفي الآن نفسه لا يستطيعون تجاوز تلك المرحلة من حياتهم، وهذا ما حوّل الكشافة من عنصر بناء للذّات إلى عامل تدمير له، في تحالف غير معلن بين الانحراف الجنسي وشهوة المال.

“قائمة المتطوّعين غير المؤهلين”.. مظلة تحمي المتحرشين

يتمثّل الإجراء الوقائي في الكشافة ألا تقبل في عضويتها أي قائد محظور مرة أخرى، ففضلا عن التبعات العدلية، يسجل المتحرّش في قائمة سوداء تسمى “قائمة المحذّر منهم”، ولكن المشرفين على المنظّمة تلاعبوا بالإجراء والتسمية، فكانوا يسجلون المتحرّشين في قائمة ذات تسمية محايدة هي “قائمة المتطوّعين غير المؤهلين”، ويظل الملفّ داخليا سريا لا يطّلع عليه الجميع.

ريشارد شولنز انتحر شقيقه المغتصب ونبذت عائلته بتهمة الإساءة إلى ممثلي الإيمان

ومن المتحرشين بهؤلاء الأطفال القائد “توماس هاكر”، فبعد افتضاح أمره قُضي بسجنه وبدفع كفالة 500 ألف دولار بتهمة الاعتداء على ثلاثة أطفال من فرقته، ولكن الفضيحة ستكون مضاعفة، عندما نعلم أنّ اسم هذا المتحرش كان مدرجا ضمن قائمة المتطوّعين غير المؤهلين، فقد أثبتت التحقيقات لاحقا أنه كان متحرشا متسلسلا، وأنّ ضحاياه يعدّون بالمئات، ومن بينهم “مارك أيتون” الذي ذكرناه آنفا.

كان “توماس هاكر” يعتدي على الكشفيين الصغار، وحين يلقى عليه القبض ويسجل في هذه القوائم، يتعهّد بالخضوع للعلاج النفسي، وكان المسؤولون المسكونون بالمحافظة على سمعة المنظّمة يغضون عنه الطرف، فينتقل إلى بلدة أخرى، وينتسب إلى المنظّمة من جديد، وهكذا..

“باتريك بويل”.. بحث صحفي يفضح انحرافات صادمة

بدأ الانتباه الجدّي إلى انحرافات المنظّمة حين نشر الصحفي “باتريك بويل” كتابه “شرف الكشافة”، فقد حثّه البحث في بعض الاتهامات الموجهة للمنظّمة على الوصول إلى الأرشيف المحفوظ بعيدا بوسائله الخاصّة، وحينها اكتشف أنها تتضمّن معطيات أخطر كثيرا ممّا كان يظن.

ومع أن وسائل الإعلام اتهمته بالمبالغة في تقدير الأمور، وبالعمل على تشويه سمعة المنظمة، لشدة ثقتهم بها، فإنّ إصراره يكشف عيوبا وتجاوزات تصدم الرأي العام الأمريكي.

وبعد إفلاس المنظمة، نعلم أن “هاكر” كان واحدا من العشرات الذين حمتهم المنظمة، فقد كان المسؤولون حريصين على أن يتوفّر الاطمئنان الكافي لدى أولياء الأمور حين يرسلون أبناءهم إلى المنظّمة، ومسح كل شائبة قد تؤثر على سمعتها وعلى مواردها المالية خاصّة، فهي في نهاية المطاف مؤسسة اقتصادية تبيع منتجا مدرّا للمال.

شعار المنظّمة الكشفية الأمريكية

وبتواطؤ المنظمة مع المتحرّشين، تحولت إلى عنصر استقطاب وإلى ملاذ لهؤلاء المنحرفين، فباتوا يعلمون أنهم سينجون من العقاب بسبب نظام التستر هذا، وحين سأل القاضي المتحرش “توماس هاكر” عن سبب اختيار منتسبي المنظّمة دون غيرهم، أجاب بأنهم يسهّلون عليه الأمر، فهناك يكون في مأمن من التبعات العدلية.

إغواء المنحرفين.. سلوك متجذر في تاريخ المنظمة

صحيح أنّ الأمر يتعلّق بطبيعة الكشّافة نفسها، فقد اتضح منذ نشأتها في إنجلترا أنها تغري الذين ينجذبون جنسيا للأطفال، وأنّ هيكلتها سبب في صعوبة التفطّن إليهم وطردهم من تنظيمها، ولكن هذه التجاوزات تعود أيضا إلى شهوة المال، فهي تجعل المشرفين يدوسون على كل قيم الكشافة، لربح المزيد من الإيرادات.

ينكر “ستيف ماكغوا” -وهو مستشار بالرتبة الأعلى بالمنظمة، وهي نسر- كلّ الاتهامات الموجّهة إلى المنظّمة، ويأمل أن تستأنف عملها من جديد، من دون توفير معايير أمان استثنائية. وبعد نحو 100 ألف شكاية ممن يزعمون تعرّضهم لانتهاكات جنسية، وبعد كل القرائن التي عرضت في الفيلم، يعبّر “ستيف” عن صدمته مما يروج، فلا شيء خطير يستحقّ القلق لديه.

يكشف الفيلم معطيات شديدة التعقيد، أولها أن الشذوذ والإجرام أمر واقع في مختلف المجتمعات، وثانيها أنّ المجتمعات التي تحترم علوية القانون قادرة على مواجهة هؤلاء المنحرفين وحماية الضحايا منهم، ولكن ثالثها -وهو الأخطر- أنّ تحويل المال إلى القيمة الأبرز في المجتمعات يدفع كثيرين إلى الدوس على كل القيم النبيلة للوصول إليه، وفضيحة المنظّمة الكشفية في الولايات المتحدة الأمريكية هي خير مثال على ذلك.