“على قارب أدامان”.. علاج بالفن يحرر المرضى النفسيين من زنزانة النبذ

كثيرة هي الحواجز التي تضعها المجتمعات أمام أصحاب الأمراض النفسية والعقلية، إذ يُتعامل معهم بحيطة وحذر، ولا تُخلق لهم المسافة المناسبة لمحاولة فهمهم وإشعارهم بالدفء والاهتمام على أنهم بشر يشعرون بالأشياء، لهذا جاء الفيلم الوثائقي “على قارب أدامان” (On The Adamant) ليفكك هذه العلاقة، ويسلط الضوء عليهم بطريقة مبتكرة ومختلفة وخارجة عن السائد.

“على قارب أدامان”.. وثائقي يفوز بجائزة “الدب الذهبي”

من النادر أن يفوز فيلم وثائقي بجائزة كبرى في المهرجانات السينمائية العريقة، حتى أن الاهتمام الإعلامي والنقدي -وحتى الجماهيري- يركز على الأفلام الروائية دون الوثائقية التي تعرض فيها.

لكن مهرجان برلين السينمائي كسر تلك القاعدة، وقدّم جائزة “الدب الذهبي” للمخرج الفرنسي “نيكولا فيليبير” عن فيلمه الوثائقي الساحر والعميق “على قارب أدامان” (إنتاج فرنسي ياباني)، وذلك في الدورة الـ73 من “مهرجان برلين السينمائي” التي أقيمت في فبراير/ شباط 2023.

كما نجح مهرجان الجونة السينمائي في جلبه وعرضه في فعالياته، ومشاركته في المسابقة الرسمية للفيلم الوثائقي، خلال الدورة السادسة التي عقدت في ديسمبر/ كانون الأول 2023.

عبّر مخرج الفيلم “نيكولا فيليبير” (73 سنة) عن دهشته وفرحه بالاهتمام العالمي الذي حظي به عمله بعد طرحه، لا سيما بعد نيله جائزة “الدب الذهبي” من مهرجان برلين، وهي جائزة كبرى مهمة.

وقد قدّم وقتها تصريحا لوسائل الإعلام خلال المؤتمر الصحفي، قائلا: علمت أن الفيلم سيفوز بجائزة ما، لهذا أجلت سفري من برلين. أنا فخور وسعيد لنفسي وللسينما الوثائقية، بحصول فيلم وثائقي على “الدب الذهبي”، فهذا سيعطي دفعة للفيلم الوثائقي. توجد سوابق قليلة بالفوز بجوائز لأفلام وثائقية، وأرجو أن يكون فيلمي خطوة على الطريق.

قارب أدامان.. مركز استشفاء وفنون على نهر السين

انتصر فيلم “على قارب أدامان” للإنسان المأزوم، ذلك الذي حاصرته الأمراض النفسية والعقلية، وابتعد عنه أفراد المجتمع الذين يملكون أحكاما مسبقة، ويرون بأن كل المصابين بالأمراض النفسية والعقلية عنيفون بالضرورة، ويشكلون خطرا على المجتمع، ولا يمكن الاقتراب منهم مطلقا.

وتلك سردية تاريخية ساهمت المستشفيات والأسر في ترسيخها جيلا بعد جيل، لتجريد هؤلاء الأفراد من إنسانيتهم، والنظر لهم على أنهم أشياء، لا يستحقون التعاطف ولا النظر إليهم بأهمية واهتمام، لأنها الطريقة الوحيدة التي تجعلهم يتخلصون فيها من أقاربهم بسهولة تامة، ويرمونهم في المصحات والشوارع، بدون أن يؤنبهم ضميرهم.

فريديريك باريار، أحد المرضى يرى نفسه ممثلا كبيرا ويشبه الفنان فان غوغ في الشكل والموهبة

وفي هذه الحالة يتحول المجنون إلى عاقل والعاقل إلى مجنون، لكن المخرج “نيكولا فيليبير” وضع يده على هذا الجرح الغائر، وذهب صوبهم مباشرة، فاستمع لهم، ونظر لطريقة تفكيرهم ورؤيتهم للأشياء، وأزاح بطريقة ذكية ومبتكرة تلك الصور النمطية التي رسمت حولهم منذ الأزل.

أدامان.. قارب الاستشفاء العائم

قارب أدامان هو عبارة عن مركز استشفائي وتأهيلي عائم، يطفو على نهر السين بقلب مدينة باريس، وهو ذو طبقات عدة، وبه شبابيك خشبية كبيرة، ترسل الضوء وتضمن إطلالة باهرة على مدينة الجن والملائكة، أما من الداخل ففيه عدد من القاعات، منها مقهى.

لكن ميزة هذا القارب أنه يجمع بداخله عددا من ذوي الأمراض النفسية والعقلية، يمارسون بداخله أنشطة فنية وحرفية مهمة، من الرسم والعزف الموسيقي والخياطة والحياكة وغيرها من النشاطات الأخرى، إضافة إلى نادي السينما الذي يقيم مهرجانا سينمائيا صغيرا كل سنة على القارب، ويجتمعون فيه بشكل دوري لرسم جدول أعمال الأسبوع.

يقترح كل فرد مريض فكرة ما، فتفحصها الجماعة وتناقشها، ثم تثبّتها وتلتزم بها فيما بعد، وكل هذه النشاطات والأعمال تجري بطريقة جماعية، وهذا ما ضمن لهم طريقة حياة جديدة، بعد أن تخلى عنهم المجتمع، ورأى أنهم لا يستحقون العيش.

لكن المعادلة تختلف بشكل كلي على قارب أدامان، لأنهم يجدون كل الاهتمام، ويستمعون لبعضهم، ويأخذ كل فرد برأي الآخر، لذا نجدهم يرسم كل واحد منهم لوحة مثلا في اليوم المخصص للفن التشكيلي، ولا تهم الموهبة بقدر ما تهم الفكرة.

وبعدها يقوم ويشرحها للجميع، ويبرر الألوان التي فيها، وهكذا يفعلون مع باقي النشاطات، مثل الحديث عن الأفلام الكلاسيكية بالنسبة لنادي السينما، ولذلك يخرج قارب أدامان عن الطريقة التي تنتهجها المستشفيات الكلاسيكية للأمراض النفسية والعقلية.

وقد أثبت المنظمة المشرفة على هذا المشروع مدى نجاعته في مواجهة تلك الأمراض، لأن الاهتمام وحده مع تناول الأدوية المناسبة يُعيد الحياة لهم، ويجعلهم يفكرون ويحسون ويتمنون مثل غيرهم من الأصحاء، لأنهم وجدوا الاهتمام والرعاية المناسبة.

قارب البوح.. أحاديث عفوية تعكس دواخل المرضى

تجلت مقدرة المخرج “نيكولا فيليبير” في فيلمه “على قارب أدامان” على أكثر من مستوى، لعل من أهمها قدرته الكبيرة على ردم الهوة بين فريقه وبين المرضى، وكسب تلك الثقة التي جعلت الكاميرا وتجهيزات التصوير والتسجيل غير مرئية لديهم.

صورة خارجية لقارب أدامان على نهر السين بباريس

كان ذلك مما دفع كل فرد منهم لأن يبوح بمشاعره، ويخرج ما تراكم في قلبه، ويروي حكايته ومراحل حياته، بطريقة جلبت كثيرا من التعاطف، وفي نفس الوقت زرعت في النفس نوعا من البهجة، حتى لا أقول رسموا مقالب ضحك، لا سيما عندما يتحدثون عن أنفسهم انطلاقا من حالتهم المرضية.

فمنهم من يعاني صعوبة في النطق وطريقة الكلام، وآخر مصاب بالتوحد، كما أن هناك من هو مصاب بجنون العظمة، ويرى أنه يشبه الفنان الهولندي “فينسنت فان غوخ”، سواء من ناحية الإبداع أو من ناحية الشكل، وهناك من يرى بأنه ممثل سينمائي مشهور، لكن القدر والحسد والمؤامرات حرمته من أن يواصل مشواره الفني، كما أن هناك عددا من الأمراض الأخرى.

وقد وضع المخرج أمامهم الكاميرا ليعبروا عن أوجاعهم وأحلامهم وكوابيسهم، وفي الوقت نفسه لكي يتحدثوا عن تجاربهم مع المرض النفسي، وكل فرد منهم كان يقدم وجهة نظره بطريقته المناسبة.

لكن “نيكولا فيليبير” لم يحكم على أحد منهم، بل احترم رغبة كل فرد، وكذلك لم يرغم أو يفرض على أحد منهم أن يظهر أمام الكاميرا، بل كان الأمر اختياريا، لكن أغلبهم أرادوا الظهور وقول ما في صدورهم، لأنهم أحسوا وهم على قارب أدامان بأنهم ذوو شأن وأهمية، وأن لديهم الحق في البروز مثل غيرهم، وكذلك من حقهم الحلم بغد أفضل.

“على قارب أدامان”.. علاج بالفن المشحون بالعواطف

كان إنجاز الفيلم الوثائقي “على قارب أدامان” بمثابة مفاجأة، ليس لدى الجمهور فقط، بل عند شريحة واسعة، لأن حياة المرضى النفسيين والعقليين في كل حالاتهم، لم يوقف عليها في الأفلام الوثائقية، كما حدث في الأفلام الروائية التي تنطلق بشكل أساسي من الخيال، حتى لو انطلقت من الواقع، فهي لا تعكس الحالات الحقيقية بشكل نهائي، ليبقى الأمر نسبيا من حالة إلى أخرى.

لهذا جاء هذا الفيلم ليرسم أبعادا أخرى للحقيقة، ويقدم فئة منسية ومهمشة من المجتمع، وكأنه يقول من خلال “على قارب أدامان” إن هذه الفئة تستحق الاهتمام والتتبع والانتباه، لأن لديهم عواطف وحياة يعيشونها.

كما سيتحول هذا العمل إلى مرجع مهم، ليس لدى الفضوليين فقط، بل حتى عند الباحثين والأطباء والمهتمين بالطب العقلي، لأن طريقة المركز في التعاطي معهم أثبتت نجاعتها، وهذا من ناحية العلاج بالفن، فقد استجاب هؤلاء إلى تلك الطريقة، وتحدثوا مع بعضهم، وناقشوا أفكارهم، وتكلموا عن طريقة تعامل المجتمع معهم، والأسباب التي قادتهم إلى المرض.

حصة رقص جماعي للمرضى على أنغام بعض الأغاني

وقد أعادت كل تلك الأحاديث ثقتهم بنفسهم، وجعلتهم ينظرون للحياة بشكل مغاير تماما، لا سيما وقد عبّروا عن تلك المواجع بالفن وممارسة النشاطات المختلفة على متن القارب، ليصبح متنفسهم الوحيد الذي يزورونه بشكل دوري، ويقطعون من أجله مسافات طويلة.

هامش الحرية وشبابيك الأمل.. جماليات الفيلم الرمزية

أعطى المخرج وكاتب السيناريو والمصور والمونتير “نيكولا فيليبير” أبطاله هامش حرية كبيرا، مما ساهم في توليد جماليات الفيلم المختلفة، لأنه خلق مساحة من البوح والكشف على مساحات مخبوءة، وأعطى للموضوع قيمة كبيرة جعلته يختزل وقت الفيلم ويختصره، مع أنه طويل نسبيا (109 دقيقة)، لأن المفاجآت كانت تأتي تباعا، لهذا حوصر المشاهد بفكرة حب الاطلاع والوقوف على ما كان يجهله.

كما أنه قدّم تلك الأشياء بفنية عالية، لا سيما التصوير الذي جرى معظمه بكاميرا ثابتة في أماكن داخلية في القارب، وفي بعض الأحيان على شرفاته، باستثناء الزيارة الميدانية التي قادها الأطباء المشرفون مع بعض المرضى إلى سوق الخضراوات والفواكه، لجمع ما يرمى في الأسواق، ولا سيما الفواكه، فأخذوها ونظفوها وحولوها إلى معجنات، لبيعها في المقهى، من أجل تقليص مصاريف العجز التي تحاصرهم.

وقد ماثلت المشاهد الداخلية دواخل المرضى بشكل ما، وكأن المخرج يحاول أن ينقل لنا أحاسيسهم الداخلية، في حين كانت شبابيك القارب الكبيرة التي يدخل منها الضوء تعكس الأمل والحب والنور والاهتمام الذي يأتي من الخارج، وهو الحق الذي حرم منه هؤلاء المرضى، لأن من حقهم أيضا أن يشعروا بالحياة وبتفاصيلها المتعددة.

“نيكولا فيليبير”.. مخرج ذو مسار حافل بالفلسفة والسينما

لم يكن فيلم “على قارب أدامان” للمخرج “نيكولا فيليبير” هو الوحيد الذي أضاء مساره، فقد أنجز عددا من الأعمال المهمة، وكلها تطرح أسئلة وجودية وتثير نقاشات متعددة، وقد ساعدته دراسته للفلسفة في جامعة “غرونوبل” في تأثيث هذا المسار الحافل، منذ بدأ مسيرته في سبعينيات القرن الماضي مساعدا لعدد من المخرجين المهمين.

مخرج الفيلم نيكولا فيليبير يحمل جائزة الدب الذهبي بمهرجان برلين السينمائي

وقد انطلقت تجاربه في السينما الوثائقية سنة 1990 بفيلم “مدينة اللوفر” الذي هو أول أفلامه، ثم قدم بعده عددا من الأفلام، منها “كل شيء صغير” (1990)، وفيلم “من يعرف” (2002)، و”أن تكون وأن تملك” (2007)، و”ننيت” الذي عرض في مهرجان برلين السينمائي سنة 2010.

إضافة إلى عدد من الأعمال الأخرى التي عرضت في أكثر من 100 مهرجان سينمائي، كما خصص عدد من العروض الاستعادية لأفلامه.