أسرى فلسطين المحررون.. سجناء خارج القضبان

محررة فلسطينية

لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بقتل الفلسطينيين ونفيهم وتشريدهم، ومصادرة الأرض وهدم المنازل، بل إنه يسعى بكل الوسائل حتى لمُصادرَةِ الفرح في القلوب، واغتيال البسمة على الشفاه، ويستكثر كل ذلك على الفلسطينيين، فتراه يتلذذ بإبعاد الأم عن ابنها والزوج عن زوجته، وكأن الكيان الغاصب كلّه، بسياسته وجيشه ومواطنيه، يسيطر عليه مرض الحسد، وتنهشه أعراض السادِيَّة والتلذذ بآلام الآخرين.

في فيلم “السجن خارج القضبان” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها، يُسلّط الضوء على مجموعة من الأسرى الفلسطينيين المحررين في صفقة وفاء الأحرار عام 2011، فقد استكثرت عليهم سلطات الاحتلال الفرحَ بحريتهم واجتماع شملهم مع ذويهم وأقاربهم، فأبعدتهم من أرضهم، وفرّقت بينهم وبين من يحبون، ولاحقت آخرين منهم حتى قتلتهم أو زجّتهم وراء القضبان من جديد.

صفقة شاليط.. فرحة الحرية التي صادرها الاحتلال

في العام 2011 أبرمت صفقة تبادل الأسرى بين حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وإسرائيل، أفرجت بموجبها حماس عن المحتجز الإسرائيلي “جلعاد شاليط”، الذي بقي في حوزة المقاومة 5 سنوات، شنت خلالها إسرائيل حربين شرستين على قطاع غزة بُغية تحريره، ولكنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا، فأرغمها ذلك على خوض مفاوضات معقدة من أجل الإفراج عنه.

خالد مشعل يشيد بإنجاز “حماس” في تحرير حوالي 1000 أسير فلسطيني

أما حماس فقد نجحت في فرض شروطها، وألزمت قوات الاحتلال بالإفراج عن 1000 أسير فلسطيني، من مختلف الفصائيل الفلسطينية، بعضهم من ذوي الأحكام العالية، ومنهم مجموعة من النساء الفلسطينيات، على رأسهنّ أحلام التميمي التي اعتُقلت في 2001، وحُكم عليها بـ16 مؤبدا، ثم أُبعدت إلى الأردن فور الإفراج عنها.

وقد شملت الصفقة أيضا نزار التميمي، وكان قد اعتُقل عام 1993، وحُكم عليه بمؤبد واحد، بتهمة قتله مستوطنا صهيونيا، وقد عاد إلى بيته في قرية النبي صالح قرب رام الله. وجدير بالذكر أن نزار كان تزوج أحلام التميمي أثناء قضاء فترة محكوميتهما، ولم تسمح لهما إدارة سجون الاحتلال قط أن يلتقيا بشكل مباشر.

أحلام التميمي، أسيرة محررة كان الاحتلال الصهيوني حكم عليها بـ16 مؤبدا

وفي عمّان، كان الجميع ينتظرون على أحر من الجمر، خبر وصول ابنتهم أحلام التميمي، ولكنهم لا يعلمون على وجه التحديد هل الطائرة التي تقلّها من القاهرة ستهبط في عمان أو العقبة، وكان خالد مشعل -وهو رئيس المكتب السياسي لحركة حماس- على رأس مودِّعي أحلام في القاهرة، مصرحا بأن صفقة التبادل هي صفحة مضيئة في تاريخ الأمة وفلسطين، وأن إخفاء “شاليط” في غزة 6 سنوات هو إعجاز، وأن صبر شعبنا وصموده هو الذي أتى بهذا الإنجاز.

“أخبروني أنها مسجونة لدى الاحتلال”.. أوكرانية في الزنزانة

نالت الأسيرة الأوكرانية إيرينا سراحنة -وهي زوجة الأسير إبراهيم سراحنة- حريَّتها ضمن صفقة التبادل، وكانت معتقلة منذ 2002، وقد عادت إلى منزلها في مخيم الدهيشة قرب بيت لحم، في حين كانت ابنتها ياسمين سراحنة تشتري الهدايا التذكارية من كييف بأوكرانيا، لتحتفل بتحرير أمها، ورؤية أختها غزالة التي لم ترها منذ ولدت.

تقول “فلنتيا سافا باكوتا” والدة إيرينا: بحثت عن ابنتي 8 سنوات عبر الإنتربول ووزارة الخارجية والسفارة، ولم أجدها، حتى أخبروني أنها مسجونة لدى الاحتلال الإسرائيلي. لقد تركتْ ابنتها ياسمين عندي منذ كانت في شهرها الثالث، فقمتُ بتربيتها. وأنا اليوم سعيدة جدّا بعدما سمعت بنبأ الإفراج عن إيرينا وعودتها لبيتها وأطفالها.

إيرينا سراحنة.. أسيرة محررة من أصول أوكرانية

أقيم في بيت لحم استقبال حافل لوالدة إيرينا ولابنتها ياسمين، ثم استقبل الجميع الأسيرة المحررة إيرينا. وهناك في مخيم الدهيشة اختلطت دموع الفرح وأهازيج الجدّة الفلسطينية أم إبراهيم، بالقبلات والعناق الحارّ بين الأم إيرينا وابنتيها ياسمين وغزالة، ووالدتها فلنتينا.

الاستشهادي المجهول.. جريمة تمزق العائلة بين السجون والدول

تتحدث إيرينا عن حادثة اعتقالها، فتروي أنها وزوجها نقلا بسيارتهما أحد استشهاديا فلسطينيا وهما لا يعلمان، وكان ذلك الاستشهادي هو من نفّذ عملية “ريشون لتسيون” الاستشهادية، وقد حُكم على زوجها إبراهيم سراحنة بـ6 مؤبدات، في حين حكم عليها هي بالسجن 20 عاما.

والدة إيرينا تستقبل ابنتها المحررة من سجون الاحتلال الصهيوني

كانت إيرينا قد تزوجت في أوكرانيا وسافرت مع زوجها إلى فلسطين، ثم عادت إلى أوكرانيا ووضعت مولودتها الأولى هناك، ثم تركتها عند جدتها الأوكرانية وعادت لفلسطين ثانية. وفي مخيم الدهيشة وضعت مولودتها الثانية، فتربّت في كنف جدتها الفلسطينية بعد اعتقال أمها إيرينا.

وهكذا عاشت العائلة مشتتة، ولم تسلم إيرينا من وصمها بالإرهاب في صحف وطنها الأم، فترك ذلك آثارا نفسية سيئة على ابنتها ياسمين في أوكرانيا، مع أنها كانت -على صغرها- تؤمن ببراءة والديها وعدالة قضيتهما.

“ها أنا أتنفس الهواء النقي في الصباح”.. حياة الأحرار

تتحدث إيرينا عن حياتها خارج السجن قائلة: تغيرت حياتي كثيرا بعد السجن، ولكنني تأقلمت بسرعة مع العائلة والجيران وابنتي، وها أنا أتنفس الهواء النقي في الصباح، وأشاهد نجوم الليل دون حواجز، وأنا الآن في طريقي إلى السوق لأشتري لوالدتي بعض المأكولات الفلسطينية، كالزعتر والتوابل العربية، لتأخذها معها إلى أوكرانيا.

صورة تجمع إيرينا مع ابنتيها العربية غزالة والأوكرانية ياسمين

وحين كانت والدة إيرينا تجهز أمتعتها للسفر، كانت ياسمين تشعر بالحزن لفراق والدتها وأختها غزالة، فقد تعلقت بها كثيرا في الأيام القليلة التي عاشتاها معا، وقالت: سأشتاق لعائلتي كثيرا، فكل العائلات تحب العيش معا، ولكن إسرائيل لا تسمح لنا بذلك، فهي لم تُفرّق عائلتي فحسب، بل تفعل ذلك لجميع الفلسطينيين، فتحطم أحلامهم وآمالهم. وسأنسج جوربا لأختي غزالة، ثم أهديه لها عندما أعود إلى فلسطين في عطلة الصيف.

إيرينا تودع ابنتها الأوكرانية ياسمين التي ستعود مع جدتها إلى أوكرانيا

وقد تأقلمت إيرينا سريعا مع ابنتها الصغيرة غزالة، مع أن الزنزانة فرّقت بينهما عشر سنوات، وتقول إن ابنتها كانت تخبر تحدّث زميلاتها في المدرسة عن أمها وأختها ياسمين، وتتفاخر بهما على بنات الجيران، لكنّ قلب الأم الحنون مشتت بين ابنتها التي في فلسطين، وابنتها الأخرى في أوكرانيا، وتحاول جاهدة أن تتعايش مع هذا الوضع المؤلم، ولا يخفف من وطأة هذا الألم إلا وسائل التواصل الحديث عبر الإنترنت.

“لن تحلم بالوصول إلى الجسر”.. حرية تقيدها الأحقاد

اختلطت لدى الأسير المحرر نزار التميمي مشاعر الفرح بالتحرر ولقاء والده وأقاربه، ومشاعر الحسرة والغصة بسبب إبعاد زوجته أحلام إلى الأردن وحرمانه من لقائها، وكذلك بسبب فقدانه والدته، وكانت قد أصيبت بضربة من أخمص سلاح إحدى مجنّدات الاحتلال، فاستُشهدت بعد أيام. وكان نزار يقضي حكما بالسجن المؤبد، لقتله مستوطنا صهيونيا في قرية بيت إيل بالضفة الغربية.

نزار التميمي، اعتقل سنة 1993، وحكم عليه بمؤبد واحد، بتهمة قتله مستوطنا صهيونيا

وتحدثت أحلام التميمي عن ملابسات اعتقالها، فقالت: كنت مجندة في كتائب القسّام لمهمات استكشافية، وقدَّمتُ تقريرا عن مطعم “سبارو” الذي يرتاده عدد كبير من الصهاينة في وقت الظهيرة، وقد نفّذت الكتائب عملية كبيرة في المطعم، قُتل خلالها 15 صهيونيا، وجُرح 122 آخرون، وذلك ردّا على اغتيال قادة من حماس في نابلس. وقد حُكِم عليَّ بـ15 مؤبدا، بسبب مقتل 15 صهيوني، أما المؤبد الـ16 فذلك لأنني لم أحاول إقناع منفذ العملية عز الدين بالتراجع، وأصبحت أنا المسؤولة عن تنفيذها بالكامل.

وفي السجن، كانت أحلام تتبادل الرسائل مع نزار بعد زواجهما الاستثنائي، وكانا يحاولان أن يصنعا حياتهما بطريقتهما من وراء القضبان، وصنعت أحلام أنواع الأطعمة والحلوى لزميلاتها في السجن، احتفاءً بعقد قرانها مع نزار، مع وقف التنفيذ.

حفل استقبال الأسير المحرر نزار التميمي

وبعد الإفراج عنهما، تكررت محاولات نزار للسفر إلى الأردن للقاء زوجته، ولكن باءت كل محاولاته بالفشل، حتى في المرّة الأخيرة، حين حصل على تأشيرة حجّ، وحاول السفر عن طريق جسر الشيخ حسين، فأوقفه الضابط الصهيوني وهو يهمّ بركوب الحافلة، وقال له باستفزاز: “لن تحلم بالوصول إلى الجسر”، وهكذا حرم الاحتلال نزار مرة أخرى من لقاء أحلام، وتحطمت أحلامهما على صخرة الاحتلال البغيض.

“السجن خارج القضبان”.. عائلات تحرمها الأسوار لذة اللقاء

تتحدث أحلام التميمي عن الفجوة التي خلّفها السجن في حياتها، فتقول: يمتلك الكل أحدث الأجهزة، والكل يتحدث عن تطبيق الفيسبوك، ويريدون مني أن أتعامل مع هذا بأريحية، فهم لا يستوعبون أنني لم أعاصر كل هذه التطورات لوجودي في السجن، لكنني بدأت أستخدم التكنولوجيا للتواصل مع نزار، وهذا شيء إيجابي من جهة، ولكنه سلبي من جهة أخرى، إذ نشعر أن اتصالنا مبتور وليست فيه حياة.

زفاف الأسيرين أحلام ونزار التميمي

ومن جهته، يحاول نزار أن يكون مستقرا من الناحية الأكاديمية والوظيفية، فيتابع تحصيله العلمي، ويفوز بفرصة عمل، ويحلم أن تستقر حياته العاطفية مع زوجته أحلام في الأردن، بعد أن تحطمت أحلامها هي بالعودة إلى فلسطين، بسبب تعنّت الاحتلال، وحرمانها من العيش في وطنها.

وبسبب تقدم التكنولوجيا أصبحت الحياة متطورة جدا، فصارت غزالة قادرة على التحدث مع أختها بالصوت والصورة عبر تطبيقات الإنترنت، لكن ياسمين لا تكفيها محادثات الفيديو، بل تريد أن تجلس كل وقتها بمواجهة أختها، لتلعبا معا وتتحدثا عن قرب، وتتعانقا على الحقيقة.

الجدة الأوكرانية تتحدث مع ابنتها الأسيرة المحررة إيرينا وحفيدتها غزالة

أما الجدة الأوكرانية، فتتحدث عن تعلقها بياسمين، فقد أصبحت أقرب إلى قلبها من أولادها، ولا تتخيل أن تعيش بعيدة عنها يوما واحدا، وتقول إن البيئة التي تربت فيها ياسمين تختلف كليا عن البيئة الفلسطينية، ولكن القرار في المستقبل سيكون لياسمين، أما ياسمين فلم تحسم بعد أمرها في المكوث بوطنها الأم أوكرانيا، أو الرحيل إلى وطن والديها في فلسطين.