“موصومون منذ البداية”.. استعباد السود “بمشيئة الرب” في الفكر والتاريخ الغربي

هل كانت التفرقة العنصرية، بين السود والبيض، قدرا مكتوبا لا نملك له دفعا، أم خضوعا للمشيئة الإلهية؟ هذا السؤال يطرحه الفيلم الوثائقي “موصومون من البداية” (Stamped from the Beginning) الذي أخرجه المخرج الأمريكي “روجر روس وليامز”، وعُرض في 2023.

الفيلم مأخوذ عن كتاب بنفس العنوان للمؤرخ والناشط المناهض للعنصرية، “أبرام إكس كندي”، وهو يظهر في الفيلم مرات عدة، وهو الرجل الوحيد بين خمس نساء هن باحثات ومؤرخات، يظهرن ويتحدثن عن الموضوع من زواياه المختلفة، وجميع هذه الشخصيات من السود الأمريكيين، ولهم تخصصاتهم العلمية والأكاديمية، أي أن ظهورهن في الفيلم هو في حد ذاته نفي للصورة التقليدية السائدة المستقرة عن المرأة السوداء، وهي في قلب موضوع الفيلم كما سنرى.

في بداية الفيلم يُطرح سؤال بصوت المؤرخ “أبرام كندي” نفسه، ألا وهو: ما هي مشكلة السود؟ وهو سؤال يرصد الفيلم رد الفعل الأوّلي عليه من جانب الشخصيات النسوية الرئيسية، فتنفجر إحداهن ضحكا عند سماع هذا السؤال الغريب الصادم، وتتساءل أخرى في استنكار: ما هي مشكلة السود؟، في حين تبتسم الثالثة وتسأل: ما الذي تقصده بذلك؟ أما الرابعة فتكرر السؤال بجدية تامة، تمهيدا للإجابة عليه.

“هي من مشيئة الرب كما يروي التاريخ”.. موصومون من البداية

يظهر الفيلم لقطات لطفل أبيض يرفع العلم الأمريكي، تشتبك مع لقطات لوجه طفل أسود يتطلع في صمت، إننا في قلب الاحتفالات بعيد الاستقلال الأمريكي. أي استقلال، ولمن؟

بعد هذا المدخل المثير، يخبرنا “أبرام كندي” أنه في عام 1860 اعترض السيناتور “جيفرسون ديفيز” -وهو نائب ولاية مسيسيبي- في قاعة مجلس الشيوخ علنا، على مشروع قانون لتمويل تعليم السود الأمريكيين.

ومن أجل تبرير اعتراضه، اختلق قصة قال إنها وردت في الكتاب المقدس، وهي أن قابيل عندما نُفي من جنة عدن إلى أرض نود، وجد الحيوانات والوحوش التي خلقت قبل آدم وحواء، وبين هذه الحيوانات مجموعة محددة سوداء البشرة، وخلاصة القصة أن دونية ذوي البشرة السوداء “هي من مشيئة الرب، كما يروي التاريخ”، على حسب قوله.

لدعم هذه القصة الموثقة تاريخيا، يستخدم المخرج الرسوم والصور، وفي نهاية المقطع تظهر صورة السيناتور “ديفيز” نفسه، ثم يقول لنا المؤرخ “كندي” إنه سيصبح فيما بعد رئيسا للولايات الكونفدرالية الأمريكية (دولة انفصالية غير معترف بها)، وأنه أخذ يبرر أفكاره بأن عدم المساواة بين العرقين الأبيض والأسود، كان “مقررا من البداية”، أي أن السود كانوا من البداية “موصومين” مقضي عليهم بأن يكونوا أدنى وأقل شانا، وأن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة، وهو عنوان الكتاب وعنوان فيلمنا هذا نفسه.

بداية العنصرية في الفكر الغربي.. مراجعة تستنطق التاريخ

من الصور واللقطات الأرشيفية ومقاطع الأفلام، ومقاطع من نشرات الأخبار، والرسوم المتحركة، والصور الثابتة، ينتقل الفيلم عبر أكثر من زاوية للموضوع، مقدما رؤية جديدة جريئة لقضية العنصرية الأمريكية خصوصا، والعنصرية في العالم عموما، من خلال شكل شديد الحيوية في طريقة السرد، مع الاستخدام المميز للصور واللقطات، واختيار المقاطع الصوتية بدقة من مقابلات أجراها المخرج مع الشخصيات الرئيسية التي انتقاها لفحص وتدقيق الحقائق التاريخية.

يروي الفيلم تاريخ العنصرية من بدايته، وتاريخ العلاقة المعقدة بين البيض والسود، في الفكر الغربي وفي السلوك والممارسة الاجتماعية والسياسية، ويسلط الأضواء على وقائع محددة من التاريخ، ويربط بينها وبين أحداث من الحاضر، في تسلسل وتداخل جدلي يدفع للتفكير ويدعو إلى مراجعة الكثير من الأفكار المستقرة المقولبة، بتركيز خاص على ما تعرضت له المرأة السوداء عبر العصور من اضطهاد واعتداء واستعباد من جانب الرجل الأبيض.

صورة تعبيرية عن موضوع الفيلم

في مقطع مؤلف من لقطات من برامج تليفزيونية وأفلام وأحداث في الأخبار، يلخص الفيلم أولا الصور النمطية للسود في الإعلام ووسائل التسلية الأمريكية، صورة الراقص، أو المهرج، أو المرأة الشهوانية المثيرة جنسيا، أو المقبوض عليه في سيارة الشرطة، أو الخادمة المخلصة للأسرة البيضاء.. إلخ.

سفن العبيد.. أعراق شتى انصهرت بعد عبور المحيط

يروي الفيلم القصة من البداية، فيعرض مقطعا صامتا من الرسوم، للسفن التي كانت تنقل العبيد أو المستعبدين، من أفريقيا إلى أمريكا، وتظهر الصور ثورة الرجال المستعبدين قسرا، ولجوءهم للعنف ضد مستعبديهم من تجار العبيد البيض وحراسهم الغلاظ القساة، ولعل هذا ما يشرح نشأة نزعة العنف عند السود، وأن لها أصلا تاريخيا يعود إلى زمن العبودية، أي أن العنف جاء رد فعل طبيعيا على أسوأ ما يمكن أن يحل بالبشر من قسوة ومهانة.

تقول البروفيسورة “أونوريه فانون جيفرز”: عندما ننظر إلى العِرق، لا بد أن ننظر إلى حقيقة أن العرق لم يكن دائما من المسلّمات. لقد عبرنا المحيط، وكان بيننا أناس من شعب الفولان وشعب الإبغيو ويوروبا والشعب الولوفي والماندينغي، لكننا أصبحنا شعبا واحدا بعد أن عبرنا المحيط إلى الجهة الأخرى.

أما د. “أنجيلا دافيز” -وهي ناشطة معروفة بمجال الحقوق المدنية منذ الستينيات- فتقول إن العرق بلا شك مرتبط بلون البشرة ونوع الشعر وما إلى ذلك، ولكنه يرتبط أساسا بالعبودية.

ويذكر المؤرخ “كندي” أن العبودية في أوروبا الغربية لم تكن في البداية للسود، أي لم يكن لون البشرة العامل الأساسي فيها، فقد كان العبيد من أوروبا الشرقية خلال عدة قرون، وتحديدا من الشعوب السلافية، وكلمة “سلاف” هي أصل كلمة “عبد” (Slave) في اللغة الإنجليزية. وهو قول صحيح تماما، والمماليك الذين حكموا مصر والشام كانوا أساسا من تلك الشعوب السلافية في أوروبا الشرقية، ولا سيما دول البقان.

ولكن لماذا أصبح السود هم العبيد؟

“وحوش لا يتصفون بسلوك العاقلين”.. كتاب يبرر العبودية

ترجع الأستاذة “جنيفر مورغان” بداية نقل العبيد عبر المحيط الأطلسي إلى عام 1444، عندما أحضر البرتغاليون عددا كبيرا من الأفارقة الذين أسروهم في “سينيغامبيا”، لبيعهم في أسواق العبيد بالبرتغال.

المؤرخ أبرام إكس كندي صاحب الكتاب المأخوذ عنه الفيلم

ويكمل “كندي” القصة، فيقول إن الأمير “هنري” البرتغالي سرعان ما أدرك قيمة العبيد الأفريقيين، فقد أصبحوا أغلى من العبيد السلافيين، فلم يكن باستطاعتهم الهرب، كما كان يصعب عليهم الاندماج مع السكان المحليين في أوروبا، ولذلك موّل بعثات جلب المزيد من العبيد من دول المصدر.

ولم يتوقف الحد عند استعباد الأفريقيين بالقوة وتكبيلهم وتكميم أفواههم بالوسائل الوحشية كما نرى من خلال الرسوم البديعة في هذا الفيلم، بل ابتكر الأمير “هنري” وسيلة ثبت أنها كانت أكثر فعالية، فقد أرسل مؤرخا ملكيا يدعى “غوميز زورارا”، كتب كتابا برر فيه الاستعباد، وقال إن الأمير “هنري” فعل ذلك لتحرير الأفارقة من حياة الوحشية التي يعيشونها، وأنهم -أي الأفارقة- كانوا وحوشا لا يتصفون بسلوك المخلوقات العاقلة.

وما يتردد هنا يأتي من صفحات الكتاب مباشرة، وهو كتاب تاريخي تظهر صفحات منه في الفيلم باللغة البرتغالية. وسرعان ما انتشر هذا الكتاب انتشارا واسعا في أوروبا، واستقرت المفاهيم التي يروج لها في الضمير الغربي عدة قرون.

“ليذهب الزنوج إلى الجحيم”

ينتقل الفيلم من التاريخ الغابر إلى الحاضر الحي، إلى جماعات البيض المهوسين المؤمنين بأن كل مشاكلهم في المجتمع الأمريكي سببها أناس لا يشبهونهم، أي المهاجرون الأجانب غير البيض عموما، وهنا نشاهد الكثير من اللقطات لهذه الجماعات العنصرية التي تردد هتافات مثل: “ليذهب الزنوج إلى الجحيم”، و”أنتم لن تحلوا محلنا”.

في فصل بعنوان “أسطورة التماثل”، يناقش الفيلم ما يريد المجتمع الأمريكي فرضه على الأمريكيين الأفارقة، أي أن يخضعوا لفكرة أن أمريكا بيضاء، أو -باختصار- أن يصبحوا بيضا، أو يفكروا مثل البيض، أي يتخلون تماما عن ثقافتهم وجذورهم وطريقتهم في العيش.

وتلك دعوة يراها الناشط الحقوقي “مالكوم إكس” دعوة إلى كراهية النفس، ونراه في مشهد من الأرشيف يلقي أحد خطاباته الجريئة.

“فيليس ويتلي”.. شاعرة سوداء تكسر بديوانها الصورة النمطية

ينتقل الفيلم إلى جانب آخر مهم في الموضوع، يتعلق بالمرأة السوداء تحديدا، فيتوقف أولا أمام قصة “فيليس ويتلي” (1753-1784) الفتاة التي جيء بها من أفريقيا واستُعبدت، لكنها تعلمت القراءة والكتابة، ثم أصبحت أول امرأة سوداء تنشر ديوان شعر في أمريكا الشمالية، وكان ذلك “صدمة” هزت المفاهيم المستقرة عن الأفارقة وقدراتهم الذهنية.

الكاتب والمؤلف الذي يظهر في الفيلم

كانت أشعار “فيليس” مليئة بالمشاعر العميقة، ولم يصدق البيض أنها هي من كتبتها حقا، واجتمع عدد من كبارهم في بوسطن، وقرروا استدعاءها للمثول أمامهم، ثم طلبوا منها أن تثبت أنها أكثر من مجرد جارية سوداء، وأنها هي التي كتبت هذا الديوان حقا، وقد أثبتت ذلك، ونالت شهادة بذلك من لجنة الحكماء تلك.

تتحدث “أنجيلا دافيز” عن ما أنجزته “فيليس ويتلي”، فتقول إنها كانت تهدد المفهوم الاقتصادي للاستعباد الذي يعتمد على العمل اليدوي لا الذهني، فالبيض بحاجة إلى العمال السود لا إلى فنون السود.

يوثق الفيلم حقيقة أخرى مهمة، وهي أن الرئيس الأول للولايات المتحدة “جورج واشنطن” استعبد نحو 670 شخصا، واستعبد الرئيس الثالث وداعية تحرير العبيد فيما بعد “توماس جيفرسون” أكثر من 600 شخص، واستعبد الرئيس الرابع “جيمس ماديسون” أكثر من 100 شخص، واستعبد الرئيس الخامس “جيمس مونرو” 178 شخصا.

“أحداث في حياة امرأة مستعبدة”.. قصة الجارية التي كسرت القيود

يناقش الفيلم في فصل من أفضل فصوله وأكثرها جمالا من ناحية الشكل، تلك الصورة النمطية التي صنعها الرجل الأبيض للمرأة الأفريقية الشهوانية المثيرة جنسيا، تبريرا لاستعبادها وجعلها أداة مشروعة للاغتصاب باستمرار.

ويروي الفيلم -من خلال التمثيل والتحريك معا- قصة موثقة تاريخيا، عن “هاريت آن جاكوبس” (1813-1897)، وهي أول امرأة ترفض الخضوع جنسيا للرجل الأبيض، وقد كتبت قصتها في العبودية في كتاب بعنوان “أحداث في حياة امرأة مستعبدة”.

تصف “هاريت” بالتفصيل ممارسات سيدها، ومحاولاته الدائمة لإذلالها وتطويعها وإرغامها على الاستجابة لشهواته، وبعد أن هددها ببيع أبنائها، استطاعت الهرب والاختباء في جحر تحت الأرض بمنزل جدتها البعيد، وتركت أبناءها الأربعة وراءها، وظلت لهذا تتألم كثيرا، وقد قضت في هذا المخبأ المظلم سبع سنوات، وانتهت قصتها بحصولها على حريتها بعد أن فرت إلى الشمال، وغالبا التحق بها أولادها بعد انتصار الشماليين في الحرب الأهلية.

الناشطة لينيه فاني كما تظهر في الفيلم

كانت شهادة “هاريت” دعوة لنساء الشمال الأمريكي، للثورة ضد ما يمارس على مليوني امرأة من السود في الجنوب، يعشن في العبودية.

“موصومون من البداية”.. قصة عميقة تكسر الرسوم والموسيقى رتابتها

نشاهد القصة كلها بالرسوم المتحركة البديعة، مع موسيقى شديدة التأثير، وهي موسيقى تنساب في الفيلم بكامله، وتقطع لحظاتٌ كثيرة من الصمت رتابةَ السرد المباشر أحيانا، إذ يجعل الفيلم يبدو مثل محاضرة يشترك في تقديمها عدد من الأكاديميات. لكن هذا هو الطابع العام للفيلم الوثائقي التعليمي، فهو يهدف إلى التنوير وفتح العقول على حقائق مجهولة في التاريخ.

ينسف الفيلم أيضا فكرة تتكرر كثيرا في السينما والإعلام عموما، وهي أن الرجل الأبيض هو من يحمل على عاتقه مهمة الدفاع عن حقوق السود، وأن تحرير السود يرجع الفضل فيه إلى الرجل الأبيض، وهي فكرة يرى الفيلم أنها تبث روح السلبية فيما بينهم، تطالبهم بالإعراب عن الامتنان لمن يسعون على تخليصهم.

وبذلك تؤكد فكرة أن هؤلاء الليبراليين البيض، ينطلقون من فكرهم الخاص، لا استجابة لدوافع من داخل مجتمع الأمريكيين الأفارقة، أي أنها تجعلهم يبدون قاصرين ينتظرون من ينتصر لهم ولقضيتهم!

“روجر روس وليامز”.. أول مخرج أسود يحصد جائزة الأوسكار

في نهاية المطاف، يعد الفيلم من أفضل الأفلام الوثائقية التي ظهرت في السنوات الماضية عن موضوع العنصرية وجذورها في الولايات المتحدة، والغرب عموما.

وكان مخرجه “روجر روس وليامز” قد أخرج فيلم “أبولو” (The Apollo) الذي عُرض عام 2019، وفيلم “موسيقى التعقل” (Music by Prudence) الذي عُرض عام 2010، وجعله يصبح أول مخرج أسود ينال جائزة الأوسكار.