“حراقة”.. مغامرة صبيان مغاربة يترصدون سفن الهجرة في كهوف مليلية

ينقل الوثائقي الألماني “حراقة.. هؤلاء الذين أحرقوا حياتهم” (Harraga – Those Who Burn Their Lives) مشاهد من حياة أطفال مغاربة وصلوا إلى ميناء مليلية الإسباني بطرق غير شرعية، محاولين الانتقال منه إلى أوروبا بحرا، أملا في الحصول على إقامة بإحدى دولها.

استطاع صانع الوثائقي “بنجامين روست” أن يرافق أربعة من هؤلاء الصبيان والمراهقين المغاربة، فأعطاه ذلك فكرة عن حياة هؤلاء في منطقة غريبة رافضة لهم، لكنهم مع ذلك يتحايلون على ذلك الرفض، من أجل تحقيق حلمهم في الوصول إلى بر الأمان، متحملين الخطر وقساوة الحياة في شوارعها، من دون مال ولا مأوى.

إنهم صبيان وجدوا أنفسهم في مواجهة صعاب حقيقية، ومن أجل تجاوزها عليهم التخطيط بذكاء، للصعود إلى أي سفينة ترسو في الميناء، ثم تستكمل طريقها منه إلى بر المدن الإسبانية الكبيرة.

أربعة صبيان مغاربة في كهوف مليلية.. شخصيات الفيلم

الصبيان الأربعة الذين رافقهم المخرج هم عماد ونور الدين ووليد وحمزة، وهو لا يفرد لكل واحد منهم فصلا خاصا به، بل يداخل تجاربهم ووجودهم مع بعضهم، لتتسع آفاق حكاياتهم إلى أشباه لهم يمرون بنفس الظروف.

فيغدو الفيلم بفضل ذلك وسيطا بصريا صادقا ينقل حياة مجموعة كبيرة من الأطفال المغاربة، أجبرتهم ظروف عيش عوائلهم الصعبة على الهجرة، وخوض مغامرة قد “تحترق” خلالها حياتهم فيها، وتنتهي وسط أمواج البحر، ومن هنا أطلقت تسمية “الحراقة” في اللهجات المغاربية على كل الذين يغامرون للانتقال إلى أوروبا بطرق غير شرعية عبر البحر.

يبدأ مشهد وجودهم في ميناء مليلية من كهف جبل يواجه مياه البحر، يقيمون وينامون فيه، يؤثثونه بما يجدون في القمامة ويقضون جُلّ وقتهم فيه، في الليل ينامون وسط ظلمته، وفي الصباح يتوزعون في شوارع المدينة، يعيشون بما يحصلون عليه بطرق ملتوية.

درع التضامن.. وسيلة النجاة المتوارثة في عالم خطر

يظهر من سلوك الصبية أن كثيرا منهم يتعاطى المخدرات، وبسبب وجودهم غير الشرعي في المدينة، فهم يتجنبون مواجهة رجال الشرطة. الأكبر سنا فيهم أو الذين أمضوا وقتا طويلا في انتظار الصعود إلى ظهر أي سفينة عابرة، يعرفون كيف يتجنبون المواجهة، ثم يعلمون أساليبها للأصغر سنا منهم.

السمة الأبرز في عيشهم وسلوكهم هو التضامن فيما بينهم، فهم يعرفون أنهم من دونها سوف يتوزعون ويضعفون، لهذا تراهم يعيشون جماعة يتبادلون خبراتهم المكتسبة فيما بينهم بسلاسة لافتة في بساطتها وصدقها.

تُظهر المرافقة الطويلة للوثائقي ذكاء هؤلاء الصبيان في التخطيط والتنفيذ، فهم يراقبون ليل نهار وصول سفن نقل الركاب، ويعرفونها بأسمائها، يعرفون خرائطها ومن أين يمكنهم الصعود إليها، يتدربون على طرق الصعود إلى أسطحها، وكيف يمكنهم الاختفاء في بطن شاحنات النقل المحمولة على متنها.

في انتظار الوصول إلى الجهة الأخرى من البحر

إنهم يدركون حجم الخطر الذي ينتظرهم، لكنهم لا يبالون به، يخوضون التجربة بإصرار عجيب، يتدربون عليها يوميا، ويشجع بعضهم بعضا على تجاوز حاجز الخوف والتردد، فالخوف والخطأ غير مسموح بهما حين يقرر الصبي عبور البحر إلى الجهة الأخرى.

متابعة الأوضاع.. تحليلات سياسية على مقدار الوعي البسيط

لا يحرك الإقدام على خوض المغامرة خوفا غريزيا في دواخل أبطال الفيلم الأربعة، ويظهر ذلك في اتصالهم بأهاليهم، ولا سيما بأمهاتهم، فيطلبون منهن الدعاء من الله لهم، ولا تتأخر الأمهات عن الدعاء وتقديم النصيحة بضرورة الحذر وتجنب الوقوع في المحظورات، فكل مكالمة تنتهي بحزن على حياة عائلية تركوها مبكرا، ويأملون اللقاء بها ثانية بعد وصولهم إلى وجهتهم النهائية.

ومع كل انشغالاتهم فهم لا ينفصلون عما يجري في بلدانهم، فيتابعون بهواتفهم أخبار ما يجري في فلسطين، ويبدون تعاطفهم مع شعبها، يحللون الأوضاع السياسية وفق مستوى وعيهم وثقافتهم، ومع ذلك لديهم فهمٌ للأوضاع السياسية في الوطن العربي لا بأس به.

ويتأتى ذلك في الغالب من تجربتهم وتجربة عوائلهم فيها، فالفقر المستشري في المغرب يعرفون مسبباته، ولعجز أهاليهم عن تجاوزه يبادرون -على صغر سنهم- بحل معضلته على المستوى الشخصي، من خلال السفر والاغتراب.

تقلب المزاج.. فشل ويأس وقنوط في مواجهة الأخطار

يعطي صانع الوثائقي لبعض أبطاله حيّزا خاصا من مسار الفيلم حال دخول أحدهم في وضع خاص، يمكن متابعة تطوراته، كأن ينجح أحدهم في الوصول إلى مدينة إسبانية كبيرة، من خلال دخوله إلى جوف شاحنة نقل كبيرة سرا، أو فشل محاولة أحدهم في الخلاص من وضع لا يطاق، وهذا عادة تلازمه انعكاسات سلبية، تُدخله في حالة من اليأس والقنوط، وتنعكس على سلوكه وعلى علاقته مع الآخرين.

الطفولة لا تغيب عن الصبية المغاربة رغم صعوبة الظروف

تبدل المزاج الشخصي هو المؤشر الأوضح على القلق الداخلي الذي يعيشه الصبي في وحدته، فخلال الدخول في عمق المغامرة لن يجد الصبي المغامر أحدا إلى جانبه، وعليه في تلك اللحظة أن يواجه خطر الموت أو احتمال الفشل لوحده، ويجد الراغبُ في ترك المدينة الكارهة له نفسَه وحيدا، وعليه اتخاذ القرارات الصعبة بنفسه ومن دون طول انتظار.

ينقل الصبيان الذين مروا بتجارب فاشلة متكررة ما يشعرون به من يأس وإحباط، يجعلهم يفكرون بالعودة إلى وطنهم، لكن ثمة رجاء لا ينقطع يأتي من عوائلهم، بضرورة الصبر على المحن، ما دام الإنسان قد شرع بالمخاطرة، فلا سبيل للتراجع عنها.

ملاحقة الشرطة.. هاجس ينهي المغامرة نهاية أليمة

تعطي أحاديثُ الصبيان فيما بينهم في الكهوف ليلا صورةً واضحة عما يواجهونه في الشوارع وعند الموانئ، فدوريات الشرطة لا تكل ولا تمل من مراقبتهم، وإذا ما وقع أحد منهم في قبضتهم فسيتعرض للضرب المبرح، ناهيك عن احتمال إرجاعه إلى وطنه مأسورا.

لا تنتهي مغامرة الهجرة ومشاكلها، حتى بعد الوصول إلى المدن الإسبانية الكبيرة التي يأملون في الإقامة فيها، أو الانتقال منها إلى دول أوروبية أخرى، فثمة تبعات تلاحقهم عند طلب اللجوء، منها وجود ملفات قضائية عند الشرطة الإسبانية ضد بعضهم، أو مشاكل في الوطن تورطوا فيها، وما زالت سلطات بلدهم تلاحقهم بها حتى وهم خارج حدودها.

قلق داخلي وتقلب في المزاج

كل ذلك يُعقّد وضعهم ويجعل احتمالات نجاح مشروعهم الحياتي مهددا، ناهيك عن صعوبة إيجاد عمل في مناخ تتصاعد فيه العنصرية والكراهية للأجانب، لكن في المقابل ثمة نجاحات على المستوى الشخصي، وينقل الوثائقي تجربة شاب اتجه نحو الرياضة، وطوّر نفسه في مجال رياضة كمال الأجسام التي يأمل أن يكون بطلا عالميا فيها.

ألاعيب السياسة.. ضغط يفتح فرصة الوصول إلى الحلم

يظهر الانتقال بين الشخصيات تجاوزا لمحنة البقاء في مدينة مليلية الإسبانية، لكنه يظهر في الوقت نفسه الموقف الأوروبي المتشدد من الهجرة غير الشرعية، ولا سيما في إسبانيا، فهي تبالغ في رفض المهاجرين المغاربة، حتى وإن لم يبلغوا سن الرشد، وعلى جانب ثان تلعب الظروف الطارئة والخلافات السياسية دورا في تقرير مصير المهاجر، ولا سيما الصغير السن.

يتزامن تصوير الوثائقي مع انتشار وباء كورونا الذي أدى إلى إغلاق مدن إسبانية بالكامل، وعطّل جوانب كثيرة من الحياة فيها، فأصبح الانتقال أو الوصول إليها مستحيلا.

وقد ترك ذلك الوضع أثره السيئ على الصبيان الأربعة، لكن الحظ حالفهم يوم برزت أزمة سياسية بين المغرب وإسبانيا، دفعت الحكومة المغربية لممارسة نوع من الضغط السياسي، ففتحت حدودها أمام موجات المهاجرين الذين ينتظرون الوصول إلى إسبانيا، وكانت تلك الخطوة سببا في وصول الصبيان الأربعة إلى مدن إسبانية كبيرة.

“الحراقة”.. مغامرة لا معنى لها في بلد يرفض المهاجرين

أكمل الصبيان الأربعة مغامرتهم ووصلوا إلى مهجرهم، لكن صانع الوثائقي لا يتركهم عند هذا الحد، بل يظل يتابع مصائرهم منذ اللحظة التي نالوا فيها حق الحصول على الإقامة، فكل واحد منهم يريد الاستقرار، ويحلم باليوم الذي يلتقي فيه بأهله، ويأمل أن يجمع شملهم عنده بموطنه الجديد، لكن هناك دوما عوائق كثيرة تحول دون تحقيق حلمه.

العيش في الكهوف للشبان المغاربة الذين ذهبوا إلى مليلة الإسبانية

ولتأكيد ذلك يرافق الوثائقي صبيا حصل على أوراق رسمية تؤهله للعمل في البلد، لكنه -مع بحثه الطويل- لم يجد فرصة عمل حقيقية.

يترك الوثائقي الصبيان يكملون مسار حياتهم في بلد رافض لهم، يشهد صعودا مخيفا لتيارات يمينية وعنصرية تحيل أحلام الصبيان إلى أوهام، وتبدو مغامرة “الحراقة” التي خاضوها وعرضوا حياتهم للخطر بسببها وكأنها مغامرة لا معنى لها.