“الحياة حلوة”.. مُخرج من غزة رفضه المهجر وأُغلق دونه باب الوطن

“توقف العالم كله، وغزة الوحيدة ما زالت تنبض، أنتم هناك، وأنا هنا، أعيش بين عالمين، محصورا بحجم الشاشة”.

بهذه الكلمات المُنسابة برقة مغلفة بمسحة شفيفة من الحنين، يُسهب المخرج الفلسطيني محمد جبالي في التعبير عن مشاعره المُقيدة، بين منفاه الاختياري في مدينة ترمسو الواقعة في شمال النرويج، وموطن ولادته ومحل ذكرياته مدينة غزة الفلسطينية، تُرى ما الذي جعل هذا الشاب الفلسطيني الذي احترف صناعة الأفلام حبيس جدران وحدته في تلك المدينة الشمالية البعيدة؟

حتى نُدرك معالم هذه الحكاية، يُرافقنا بطلها المُخرج محمد جبالي في ثاني أفلامه الوثائقية الطويلة “الحياة حلوة” (2023)، وهو إنتاج مشترك بين قناة الجزيرة الوثائقية وفلسطين والنرويج، وحصد مخرجه جائزة الإخراج، أو ما يُعرف بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في الدورة الـ36 من مهرجان إدفا للأفلام الوثائقية بهولندا.

رحلة النرويج.. رؤية تتوغل في تلابيب الذات

هنالك خطوات أخرى من حياة مخرجنا محمد جبالي لا تقل أهمية عن لحظة التتويج الكبيرة، وكل منها مُرتبط بالآخر في مصفوفة زمنية تتعاقب فصولها الواحد تلو الآخر، وهذه المراحل تُشكل الطبقة الأولى من مضمون هذا الفيلم الذي يبدو في ظاهره معنيا بتكثيف بؤرة الضوء على المُعاناة الدورية والمُزمنة للشعب الفلسطيني المُحاصر، بين مطرقة سماء مُلبدة على الدوام بروائح القصف الإسرائيلي، وسندان انتهاكات متواصلة مُطبِقة الخناق.

وفي السياق المتوالي لحياة المخرج تعبير ودلالة عن ما هو أعمق من رصد اللحظة الآنية، فإرادة الحياة والإصرار والعِناد في مواجهة نتوءات الواقع الوعرة، تُمثل الطبقة الباطنية من هوية الفيلم الفكرية، فقد تعددت زوايا تناول هذه الطائفة من الأفلام، أو التي تطرق بزاوية أو بأخرى ما يجري في رحاب الأراضي الفلسطينية.

لكن الرؤية هنا -مع كونها مطعّمة بالشجن والعذوبة- تتوغل في تلابيب الذات الداخلية، وتنهل من معية فائضة من المشاعر الإنسانية المُدججة بالصدق والعفوية، وبذلك أضفت قبسات منها على الإحساس بالشكل العام للفيلم.

تُرى ما هو الإحساس المُسيطر عليك -عزيزي القارئ- إذا بوغتَّ باستحالة مكوثك في مكانك؟ وتحوّل هذا الحيز المألوف إلى بُقعة مؤقتة، ليس هذا فحسب، بل تُصبح الرغبة في الرحيل إلى محطة مُغايرة كفيلة بالوجود في المجهول، فقد أغلقت الأمكنة أبوابها المواربة. وهذا بالتحديد ما لاقاه محمد جبالي، بعد أن خرج في رحلة عمل إلى النرويج لا تستغرق أكثر من شهر، لكنها امتدت إلى 7 سنوات مؤرقة بالحنين.

المذكرات الفيلمية.. رحلة البحث عن مُستقر في مدائن العالم

طريق ثلجي ملتوٍ كمسارات الحياة المُتشعبة الدروب، تُمطر فيه السماء تلك النُدف الجليدية البيضاء، ثم يلي هذه اللقطات المبدئية مشهد آخر، ترتكز فيه الكاميرا على العمق الأسفل لشخص ما، أثناء امتطائه الزلاجات الثلجية، ثم ترتفع زاوية التصوير نحو الأعلى، فنرى وجه المخرج محمد جبالي بين رُكام الغابات الثلجية في الشمال النرويجي.

هكذا يبدأ الفيلم بهذه المقدمة الموحية التي يُعبر من خلالها محمد جبالي عن رغبته في تصوير كل ما يفعله، لكن الخوف من السقوط المُحتمل على الثلوج المُدببة الحادة يُعيقه عن أداء مهمته التي وهب لها نفسه.

فقد اعتمد نسيج الفيلم على تلك المشاهد اليومية الموثقة لحياة البطل المخرج، التي تراوحت ما بين أمكنة عدة، منها غزة الفلسطينية وترمسو النرويجية، ثم العاصمة البريطانية لندن وغيرها من المُدن، وهكذا في رحلة مكوكية، تبحث عن مُستقر راسخ لصاحبها.

يستعير الفيلم في بنائه أسلوب المُذكرات اليومية، فإذا كان الكتّاب يُمارسون الرواية والسرد اليومي بالكتابة، فهنا يعمد الأسلوب الإخراجي إلى التصوير، وهو يُعادل قوة القلم في الوسائط الأخرى، فالفيلم ما هو إلا رسالة طويلة من المخرج إلى والدته الراحلة، التي قابلت المولى عز وجل، قبل الانتهاء من تجهيز نسخته الأولى.

محمد جبالي مع صديقه هيرمان في النرويج، أثناء دراسة في إحدى البرامج الخاصة بمهرجان الأفل

وبناء على ما سبق، لجأ الفيلم إلى أسلوب الشذرات، مشهد من هنا مع آخر من هناك، لقطات للحياة اليومية في النرويج، وما يُقابلها من لقطات سابقة وحالية للوضع المُعاصر في غزة، في بعض المشاهد نرى جبالي برفقة أصدقائه الجُدد في النرويج، يعمل على مشروع فيلم وثائقي جديد، ثم تعود مشاهد غزة إلى الصعود مرة أخرى على رقعة الفيلم، وهكذا في متوالية سردية مُحكمة البناء والصياغة، وفي تطبيق لمفهوم التداعي الحر، حيث يتوالى المشهد تلو الآخر، وفق ما تيسر سرده على لسان المخرج الراوي.

فالمعيار هنا لا يرجع إلى الالتزام بحكي فترة زمنية مُحددة المُدة، بل إن الزمن ذاته ينصهر في وحدة أكبر، تنطوي في أعماقها على وحدات زمنية مُصغرة، لكنها تحوي بداخلها امتدادا شاسع المحتوى السردي، فلكل فترة زمنية مغزاها ودلالتها، وهي في تلاقيها المُتشابك تُدعم المعنى والإحساس المُراد بثه بين طيات للفيلم.

تشابك الماضي والحاضر.. نحت زمني يبني جسد السرد

“ما في عندنا مدرسة للأفلام في غزة”. بهذه الجملة يبدأ مخرج الفيلم سرده لوقائع حياته، وقد ارتكزت البداية هنا على العودة إلى الماضي التي تظهر تجلياته على الشاشة، وفيها نرى محمد جبالي أثناء إعداده لتصوير أحد أفلامه، ويستمر هذا المشهد عدة دقائق مُنضغطة المُدة، لكنها تصلح مدخلا لفهم مسار حياة البطل.

خلال زيارة وفد ثقافي نرويجي إلى غزة، التقى جبالي بصديقه “هيرمان”، وهو مدير مهرجان الأفلام القصيرة بمدينة ترمسو بالنرويج، وعند هذه النقطة، ينتقل الفيلم إلى المستوى التالي من السرد، حيث الزمن المُعاصر، أو الأكثر حداثة بالمعيار الزمني، فيصحبنا فيه صوت البطل المألوف، وهو يروي ذكر ما جرى في الرحلة الأولى إلى أوروبا.

تم تمتزج المشاهد الأرشيفية مع شريط الصوت، ويظهر أمامنا محمد جبالي أثناء حضوره مهرجان ترمسو السينمائي، ومن ثم بدا بناء الفيلم -خلال إطاره الزمني البالغ 90 دقيقة- مزيجاً بين الأزمنة المُتدفقة، ويُمكن حصرها مجازيا بين ذكريات الماضي ووقائع الحاضر.

وسواء استند السرد إلى هذا الزمن أو ذاك، فهو يحوي بين طياته طبقات أكثر تعقيدا، فكل زمن ذو تراتبية ما تبدأ من الأقدم، ثم تتصاعد تدريجيا نحو الأحدث، وكأننا أمام مُجسم يتخذ الزمن مادة لإبداعه، في استلهام لمقولة المخرج الروسي “آندريه تاركوفسكي” عن الزمن، إذ يقول “السينمائي ينحت في الزمن، كما ينحت النحات في الصخر”.

أثناء عرض فيلم اسعاف لمحمد جبالي في الدانمارك

نُتابع عبر المشاهد المتواصلة مراحل مُتعاقبة لحياة هذا المخرج الشاب الذي اتخذ الهواية السينمائية وسيلة للبوح والتعبير، يعود بنا إلى غزة الماضي، كيف كانت قبل بدء الهجوم البربري للقوات الإسرائيلية على مُقدرات حياتها، وكيف تبدلت من مدينة اعتيادية تُمارس نمطها المعيشي المُعتاد بأريحية الآمن المُطمئن، إلى مدينة تُصارع الموت المُتسارع وتيرته؟

ثم ننتقل على المسار الزمني إلى فترة أحدث قليلا، فيُباغتنا الزمن المُعاصر بصعوده إلى الواجهة السردية، يُطالعنا خلالها جبالي في صراعه من أجل الاستقرار المؤقت في النرويج، بعد إغلاق معبر رفح الحدودي، حينها يختار القدر للحياة مصائر مُتباينة عن المتوقع.

ذروة الصراع.. معارك إثبات الهوية في النرويج

يُباغَت بطلنا بالإغلاق المفاجئ لمعبر رفح البري مع مصر، وقد تمتد فترة الإغلاق وقتا طويلا لا يُعلم مداه، عندها يُصبح البقاء في النرويج مُحاطا بالتعقيدات القانونية، ومن ثم يُدخلنا الفيلم مُباشرة في لب الصراع وجوهره، فنُتابع جبالي -خلال ما بقي من زمن الفيلم- في صراعه الدائم والمستمر، من أجل تقنين وضعه في هذا البلد المؤقت.

وهنا يصحبنا السرد في جولة حرة بالكاميرا لاستكشاف الأوضاع داخل المَعبر الحدودي، وأجوائه المتعسرة المُكدسة بأفواج مُتراكمة من البشر، سواء العابر منهم للداخل، أو الباحث عن فرصة للانطلاق نحو الخارج، ثم تتقاطع هذه المشاهد مع الزمن المُعاصر المُحمل بحرب من نوع آخر.

نرى في الفيلم سجالات دائمة مع إدارة الهجرة النرويجية، من أجل السماح بالوجود الاستثنائي للمخرج جبالي داخل حدودها، وقد اكتشف صدفة أن الهوية الفلسطينية لا يُعتد بها في طلبات الهجرة أو اللجوء، ومن ثم لم يعد الصراع من أجل المكوث المعيشي فحسب، بل أصبح يحمل رمزية الصراع الوجودي، أو بالأحرى الصراع من أجل ضمان استمرار الحياة وتدفق إيقاعها.

وقد استغرق هذا الصراع المشروع نحو ثلثي الفيلم، أو الفصل الثاني والثالث من السرد على لغة البناء الأرسطي، فإذا كان حدود الفصل الأول -القائم على التمهيد والتعريف بحياة البطل- تقف عند بدء نشوء نقطة الصراع أو الحبكة التي يتمثل جوهرها في الإغلاق المفاجئ للحدود، وما تبعه من وجود غير قانوني في النرويج، فإن بناء فصلي الحكاية التاليين تدور أجواؤه في ظلال البحث عن حل لأزمة البطل، فلا يُسمح بوجوده لا في في النرويج التي تُطالب بترحيله القسري عنها، ولا في وطنه المغلقة أبوابه في وجهه، والذي لا يزال يتعاظم وجوده في داخله، في تناسب عكسي مع المسافة الشاسعة التي تفصل تلاقيهما التواق.

“مصور الشلة”.. ذكريات من عمق المدينة الغائبة الحاضرة

يتنقل الفيلم بين طبقات سردية متنوعة الاتجاهات والأساليب، لكن الحضور المُكثف للوطن يُطعم السرد السينمائي بطائفة غير محدودة من المشاعر المُختلطة، تكشف بالحكي المُتشعب عن تقدير ومحبة مُتجذرة الأعماق لمدينته الأثيرة غزة.

نُتابع التفاصيل الحياتية اليومية لهذا الشاب المُهاجر بالإكراه، فمع أنه متناهي الانشغال في الغربة، سواء في العمل أو في طقوس الأيام المُندفعة، فإن غزة تطفو على سطح المَشاهد، أحيانا في النشرات الإخبارية المُنددة بما يحدث، وفي أحيان أخرى على شاشات الهاتف التي تحمل حميمية اللقاءات الأسرية مع أمه وأشقائه، ويحتل الظلام حيزا كبيرا فيها، فالكهرباء لا تزور المنازل إلا 6 ساعات يوميا.

هذا في الزمن الحاضر الكاشف عن حجم مُتزايد من المُعاناة المعيشية الخانقة، في ظل أوضاع مأساوية، تُلاحقنا مشاهد يقتنصها المخرج بعدسته المُفصحة عن الشوارع والأزقة والبشر، فيُعبر في سياقها عن رغبته في إيصال جمال غزة إلى العالم، هذا الجمال المُستتر الذي ينتمي شق منه إلى فترة زمنية سابقة.

تُطالعنا المشاهد القديمة للمدينة بشاطئها المُلامس للبحر المتوسط، فنرى البطل في صباه برفقة أصدقائه على الشاطئ ذي الرمال الكثيفة، وفي مشاهد أخرى يصحبنا المُخرج في سرده الهادئ المُتأمل إلى أيام الدراسة واللحظات الأولى لاكتشاف لذة التصوير الفوتوغرافي بعدسة الهاتف وهو لا يزال ابن 14 عاما، فقد استولت عليه موهبة السينما والتصوير، وأصبح “مصور الشلة” كما يصف نفسه.

يتوالى الحكي المُدجج بالصور الفوتوغرافية من ناحية، والمشاهد الأرشيفية المصورة قديما من ناحية أخرى، فتتشابك هذه المواد معا في وحدة عضوية واحدة، ينصهر فيها الزمن الآني بالسابق، ولا يبقى منه سوى قطرات الحنين المشفوع بالحب الطاغي للوطن على ما عداه.

ولا يتوقف هذا الحب على التعبير البصري فقط، بل يمتد إلى الإفصاح والبوح المُباشر، فالرغبة الجلية في العودة إلى غزة تُشكل محورا أساسيا في صلب الحكاية، بل ترقى إلى درجة الهدف والسبيل الأوحد لاستكمال مسار الحياة المُتشعبة الدروب والمنافذ، كما يقول في أحد المشاهد، أثناء سيره بين الثلوج المُتراكمة في الشارع، “الغريب بالموضوع أنني أمشي وأمشي، لن أخسر شيئا، فأنا موجود هنا بسبب غزة”.

“جئت يا محمد إلى الدنيا، وكسرت الطوق المفروض علينا”

ينشغل الفيلم بطرح عدد من الأفكار على رقعته السردية، ومن بين أمواج الحكي المُتلاطمة يطرأ سؤال يدور مضمونه عن ماهية هذا الشاب؟ تُرى من يكون؟

فقد نسج الفيلم سرديته الخاصة عن هذا الشاب، ابن حي الشجاعية الواقع شمال مدينة غزة، فهو المحور والمركز، تتضافر من حوله الخيوط الدرامية لمسارات حياته الموسومة بالانطلاق والتحرر، فيُخبرنا باستحياء عن تفاصيل هبوطه إلى الدنيا في مطلع التسعينيات، أثناء فترة الحصار المُكبل للمدينة.

حينها انطلقت أمه غير عابئة بالدوريات الإسرائيلية الكثيفة الانتشار، باحثة عن مشفى الولادة، وعندها انحلت أواصر الحصار، كما تقول والدته: “جئت يا محمد إلى الدنيا، وكسرت الطوق المفروض علينا”.

“الحياة حلوة”.. قطعة فنية بالغة الرقة والشاعرية

إذا كان لكل اسم من صاحبه نصيب، فالأقدار كذلك تصبغ حياة أصحابها ببعض منها، فنحن أمام ما يُعرف في المناهج الدرامية بالبطل الضد (Anti-Hero)، مخرج شاب يسعى لدراسة السينما، في حين تُساهم الأوضاع المُحيطة به بدفع مسار حياته في الاتجاه المُغاير، لكن الإصرار والرغبة في استكمال الحلم، يدفعان المصير للاتجاه الصحيح.

وهذا ما حدث على صفحات الواقع، فقد استطاع بطلنا الحصول على تأشيرة إقامة طالب، ثم أنجز فيلمه الأول “إسعاف”، لكن هذه النجاحات المُتتالية تظل ناقصة، طالما أنها تحققت في الغربة، وهنا تُصبح العودة حتمية.

وبذلك يكتمل قوس الحكاية، وهي تعتمد في سردها البصري على المونتاج الذي يختار المُلائم من هذا الكم الهائل من اللقطات المصورة، ثم يمزجها ويولّفها معا في سياق متصل مشدود الإيقاع، بدرجة تكشف عن موهبة وحرفية إخراجية، وعن ذكاء وحساسية مُفرطة في معالجة الموضوع وبلورته.

وقد انعكس ذلك تلقائيا على أسلوبية السرد المُدثر بلمسة حانية من الصدق والعذوبة، جعلت الفيلم قطعة فنية بالغة الرقة والشاعرية، سيحل أثرها ضيفا طويل المدة في الذاكرة، وباعثة على إلقاء نظرة مُتأملة، لا في هذه القصة المُلهمة فحسب، بل في القوة الكامنة للحلم، وما جاورها من إرادة وإصرار يُمثلان الوقود الدائم للحياة، وما الحياة إلا حلقة مُتجددة من الصراعات الوجودية.