“زهرة بوريتي”.. صرخة في وجه الطغيان وحفظ للتقاليد العريقة في البرازيل

مع كل مغريات الحضارة وبريقها، وتعدد طرق العيش الجديدة، ما تزال هناك فئة كبيرة من السكان الأصليين في البرازيل تعيش وسط الغابات والأحراش، على نفس نمط الحياة التي ورثوها من أجدادهم منذ آلاف السنين.

ما يزال هؤلاء السكان متمسكين بأرضهم، حتى بعد كل مجازر الإبادة التي ارتكبت في حقهم، وتحرش رجال المال والأعمال وأصحاب الأطماع المختلفة بمحمياتهم إلى غاية اليوم، وهي مشاكل أخرى يسلّط عليها الضوء هذا الفيلم الوثائقي “زهرة بوريتي” (The Buriti Flower)، مجيبا على السؤال الجوهري: كيف بدأت القصة؟

“الكراهو”.. مجتمع الأقليات في الغابات البرازيلية

استطاع المخرجان “جواو سالافيزا” و”رينيه نادر ميسورا” أن يقدما فيلما وثائقيا مشتركا بعنوان “زهرة بوريتي” (The Buriti Flower)، وهو من إنتاج 2023، ويبلغ طوله ساعتين وثلاث دقائق، وقد تتبعا من خلال هذا العمل المميز والعميق نمط عيش مجتمع “الكراهو” في الغابات البرازيلية.

وهم من السكان الأصليين ممن يعيشون في الأدغال إلى غاية اليوم، بنفس الطريقة التي عاش بها أجدادهم في بيوت من القش، ويتحدثون لغتهم الأصلية، كما يمارسون نفس الطقوس التي توارثوها جيلا بعد جيل.

لكن هذه العزلة الاختيارية وبُعدهم عن المجتمعات والمدن الكبيرة لم تحمهم من الاضطهاد المستمر والمتواصل عبر الزمن، وقد نقل الفيلم عن طريق عيني الطفلة “إيلدا باتبرو كراهو” تاريخ أجدادها الأصليين في قلب الغابات البرازيلية، بأسلوب الراوي والعودة التدريجية بالزمن للوراء.

ويروي الفيلم (حسب ما جاء في ملخصه) “قصتهم مع الاضطهاد المتواصل، لكنهم تابعوا مسيرتهم النضالية، وابتكروا أساليب مقاومة جديدة، بالتمسك بطقوس أجدادهم وحبّهم للطبيعة”.

وقد فاز الفيلم بجائزة نجمة الجونة الخضراء بعد مشاركته في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية بمهرجان الجونة السينمائي في دورته السادسة في ديسمبر/ كانون الأول عام 2023.

السكان الأصليون.. أسلوب حياة عريق يقاوم جشع البيض

تشكّلت أهمية فيلم “زهرة بوريتي” من خلال الموضوع الهام الذي طرح فيه، ويتعلق بشكل أساسي بالاضطهاد المبرمج والممارس من طرف البيض ضد الأقليات العرقية، وهي مسألة موروثة جيلا بعد جيل، لم تسطع إنهاءها القوانين الدولية الرادعة، ونشاط جمعيات حقوق الإنسان.

فكل ذلك لم يعد كافيا في ظل تركيبة بعض العقول التي ترفض الآخر بشكل مطلق تقريبا، وتنظر له على أساس أنه لا ينتمي لجنس الإنسان، أي أن تربيته وتنشئته تحثه على رفض الآخر بشكل مطلق.

من هنا يتحول الأمر إلى معضلة حقيقية يستعصي حلها بالقوانين التي تبقى دائما ناقصة، لا سيما إن لم تطبّق على أرض الميدان، لتكون رادعة بشكل كبير، وهذا هو ما حدث بالضبط مع أقلية “الكراهو”، وهم من السكان الأصليين للبرازيل.

اجتماع للكراهو لمناقشة كيفية حماية أنفسهم من المهربين والمنقبين واللصوص

وقد توارث هؤلاء القوم الظلم والإبادة والاضطهاد، حتى وصل بهم الأمر لقطع مئات الأميال من أجل المشاركة في مظاهرات حاشدة تُطالب الحكومة البرازيلية بسن قوانين جادة، تحميهم من الجرائم التي تمارس ضدهم من طرف المهربين واللصوص والمنقبين وتجار الخشب، وحماية المساحات والأراضي والمحميات التي خُصصت لهم، لممارسة الحياة التي اختاروها وتوارثوها من القدامى، لكن هؤلاء البيض الجشعين لا يقرّون بهذا، لهذا يرتكبون ضدهم كل أنواع الجرائم، من أجل دفعهم لمغادرة أراضيهم وتركها لهم.

لكن مجتمع “الكراهو” متمسك بأرضه، لهذا اتفقوا مع معظم السكان الأصليين المنتشرين في البرازيل، ونظموا عددا من الاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات، كي يجدوا من يسمعهم ويلبي نداءهم البسيط، من أجل العيش على أرضهم في سلام.

بقرة الغدر الأبيض.. جريمة إبادة ما يزال جرحها حيا

استند المخرجان في فيلمهما “زهرة بوريتي” على معاناة عقود من الزمن، لا سيما في أربعينيات القرن الماضي، وهي الفترة الزمنية التي شهد فيها مجتمع “الكراهو” جريمة لا ينسونها مطلقا، لا تزال آثارها وجراحها منقوشة في ذاكرة كل فرد.

فقد أقدم مجموعة من الرجال البيض، من ذوي المواشي الكثيرة، على نصب كمين دموي لهم، بعد أن جرت عدة مناوشات بينهم، بسبب محاولة مربي المواشي السيطرة على معظم أراضيهم، لاستعمالها للرعي.

لهذا خدعوهم وأهدوهم بقرة، وأخبروهم بأنها دليل حسن نية، من أجل بداية صفحة بيضاء بينهم بدون ضغائن، على أن يعيشوا وفقا للحدود المرسومة بينهم، وهو ما كان يبحث عنه مجتمع “الكراهو” المسالم، لأنهم سئموا من مشاهد الدم والقتل والانتقام، وقد تزامن تقديم الهدية مع عيدهم السنوي الذي تقام فيه احتفالات وطقوس مختلفة، كما قدموا لهم مسحوقا أبيض على أنه ملح، لوضعه على لحم البقر أثناء الشواء.

وبعد أن أكلوا جميعا شعروا بنعاس شديد حتى غلبهم النوم، فهجم عليهم البيض ببنادقهم الحاقدة، ولم يفرقوا بين الكبير والشاب والرضيع، فكل هؤلاء سواء أمام بنادق الحقد والكره والجشع، ولم ينجُ منهم سوى قلة قليلة، من بينهم من روى أحداث هذه الإبادة التي حدثت لهم، لتكون تلك الذكرى السوداء من أكثر ذكرياتهم سوادا ألما.

أطفال يقضون أوقاتهم في الغابات لمراقبة وحماية الحيوانات والطيور النادرة

كانت تلك الجريمة محاولة من الرجال البيض لإبادتهم وقتلهم جميعا، حتى يستحوذوا على أراضيهم ومحمياتهم، لكن حب البقاء والتجدد كان أقوى لدى السكان الأصليين، لهذا أعادوا بناء حياتهم من جديد، وأصبح لديهم ما يخافون من أجله كعادتهم، ليعيد التاريخ نفسه، وتلبس فيه العنصرية ثوبا جديدا، انطلاقا من تفوق العرق الأبيض.

مزاوجة الأزمنة.. حكايات من جحيم الأمس ومآسي اليوم

أبان المخرجان “جواو سالافيزا” و “رينيه نادر ميسورا”، عن وعيهما السينمائي والإنساني، فقد قدّما قصة في غاية الألم، سردا من خلالها مآسي الأقليات مع القهر المتوارث، وأثّثا هذه السردية التاريخية الموثّقة بجمالية نادرة، مزجا من خلالها بين الماضي والحاضر، بين صور الأبيض والأسود التي توثق طريقة عيش مجتمع “الكراهو” في الغابات البرازيلية.

وقد استعان صناع الفيلم بالأرشيف السمعي البصري، وبعض صور ومشاهد الجلادين والقتلة، ثم مزجوها عن طريق راوٍ من العصر الحالي، يحكي فيها قصص أجداده، من هؤلاء الذين قتلهم البيض بكل برودة، كأنهم ماشية من مواشيهم، ثم مرت جرائهم من دون عقاب، وقد مُزج جحيم الماضي بمآسي اليوم.

وبعد مرور كل تلك العقود الزمنية، ما زال هؤلاء السكان يعيشون في خوف شديد، بسبب مشاعر الكره التي يكنها لهم المهربون واللصوص، ممن لا يحترمون مواثيق ولا تعليمات حكومتهم، فيسرقون الطيور النادرة، ويخربون المحمية، ويقطعون الأشجار، ويعرّون الغطاء النباتي، ويلوثون المياه، من أجل حفنة من المال، وفي المقابل يحطمون حياة وطريقة عيش مجتمع كامل.

كما أظهر الفيلم طريقة نضال السكان الدائم لدعم نمط عيشهم، بسن قوانين جديدة، وردع كل من يحاول القفز عليها، ومحاسبة هؤلاء الذين لوثوا أوديتهم وبحيراتهم، واقتلعوا أشجار غاباتهم المقدسة، دون أن تتحرك منهم شعرة واحدة، لأن همهم الأول هو الربح وجمع المال، في حين أن هناك طريقة عيش تنهار أمام مجتمع حافظ على نمط حياته منذ مئات السنين.

معايشة الشخصيات.. بُعد إنساني يمنح الفيلم مصداقيته

تتجلى قوة ومصداقية الفيلم الوثائقي “زهرة بوريتي”، في أبعاد الحقيقة التي أظهرها، وفي تكوينه صورة شاملة، على مآسٍ وأوجاع عاشها السكان الأصليون في البرازيل، وما زالوا يعيشونها حتى اليوم، مع أن الأرض أرضهم، والغابات غاباتهم، ورثوها جيلا بعد جيل منذ قرون من الزمن.

المخرجان “جواو سالافيزا” و “رينيه نادر ميسورا”

وقد طبعت هذه الحقيقة، بمسايرة ومعايشة فريق الفيلم لبعض اللحظات المهمة في حياة ذلك المجتمع، وقد نقلوا تلك الحقيقة إلى المتلقي، حتى عرف تقاليدهم وطقوسهم وأعيادهم وطريقة تعاملهم مع الأشياء، ناهيك عن خوفهم المستمر من الآخر الذي يحاول أن يؤذيهم.

كما ظهرت تلك المعايشة من خلال التنقل مع بعضهم، من أجل المشاركة في المظاهرات الحقوقية، وكلها معطيات ساهمت في خلق مصداقية الفيلم، ومن جهة ثانية أعطته بُعدا إنسانيا، ليكوّن شحنة كبيرة من التعاطف مع قضيتهم، انطلاقا مما طُرح من حقائق واضحة لا لبس فيها، وهذه هي العناصر التي تعطي للفيلم الوثائقية أهميته وقوته، كما أنها تعطيه قيمته الفنية التي تأسس من أجلها.

“زهرة بوريتي”.. صرخة قوية في وجه الطغيان

فيلم “زهرة بوريتي” هو صرخة قوية في وجه الطغيان والإمبريالية، وتنبيه واضح لحماية الأقليات من جرائم التصفيات والإبادة والعنصرية المقيتة، لا في البرازيل فقط، بل في العالم أجمل.

وقد قُدمت تلك الصرخات والاستغاثات في قوالب جمالية متعددة أظهرتها زوايا التصوير، بالتقاطها تلك المناظر البديعة التي تعكس الخضرة وسحر الطبيعة، وهو المعطى الأساسي الذي تستنبط منه مجتمعات “الكراهو” حياتها ومنطلقاتها الروحية.

يذكر أيضا أن الفيلم حصد الجائزة الكبرى في قسم “نظرة ما” في الدورة الماضية من مهرجان كان السينمائي (2023).