“سينما الراكوبة”.. مغامرة شاب ينشر ثقافة السينما في قرى السودان النائية

لحديث السّينما عن السّينما وقعه الخاصّة، فهي تكون عادة مفتونة بموضوعها شغوفة به، كحسناء تتعشّق جمالها على صفحة مرآة. وعندها يتداخل الذاتي مع الموضوعي، والخاص مع العام، والخيال مع الواقع والمعيش.

وفيلم “سينما الراكوبة” للمخرج السوداني إبراهيم عمر الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، على بساطته كتابة وإخراجا يبدو مفتونا معنّى بحب السينما، ولأن الفتنة معدية ينتزع الفيلم المتفرّج سريعا من حياده، ويفرض عليه التعاطف مع المخرج الشاب الذي يجعل نشر السّينما في السودان -في هذه الظروف العصيبة- همّا شخصيا وقضية وعي.

لقاء مع صبي لا يعرف السينما.. السؤال الذي أنتج فيلما

يسرد المخرج إبراهيم عمر بنفسه سياق إنتاجه للفيلم، بصوته السارد الذي يأتينا من خارج الإطار، فقد كان يجلس بإحدى الاستراحات حين اكتشف أنّ الصبي الذي يمرح بجانبه لا يعرف ما معنى “سينما”. فكان هذا سؤاله العامل المحفّز الذي جعله يجوب القرى السودانية النائية، ليعرض على أطفالها وشبابها أفلاما مختلفة.

ولهذا الصبي عذره في جهل السينما، فقد اختفت من المشهد الثقافي السوداني تماما، وحتى نتمثّل الصورة أكثر يستدعي المخرج تجربته الشخصية، فقد ولد في مدينة بورتسودان، حاضرة ولاية البحر الأحمر السودانية وعاصمتها، لكنه أكبر حظا من هذا الصبي، فقد كانت في المدينة قاعتان للسينما، خولتا له أن يعيش دهشة الأطفال أمام الكائنات العملاقة على الشاشة، وأن يغوص في عالم الأحلام الخارق.

ولم يخلُ الصوت من سرد ذاتيّ يعرض علينا تجربة صاحبه عند دراسته للسينما في عالم معاد، فقد دفعه انجذابه إلى صناعة الصورة، لأن يجعل المعهد العالي للسينما في القاهرة وجهته، وحين سأله الصبي في الاستراحة أن يشرح له مهنته قرّر أن يعود إلى المعهد، فيأخذ من زملائه أفلامهم، ويستعين بلجنة من أساتذته لاختيار أكثرها جدوى، ثم يعود إلى مدينته، فينطلق منها ليتجول في القرى السودانيّة البعيدة، ويعرض الأفلام عبر الكرفان (راكوبة) على الناشئة في بوادي السّودان، ويساعد الأهالي على اكتشاف هذا الفن.

ولم يخب ظنه بأساتذته أو بزملائه، ومنهم المصريان أحمد صبحي ومينا سعيد، والسوري المغترب يامن عبد النور. وكانت الحصيلة أفلاما قصيرة مختلفة المواضيع متباينة التّجارب، تستجيب إلى تطلّعاته.

عروض الراكوبة.. إنعاش للفن في أمواج السياسة المتقلبة

كان على المخرج الشاب إبراهيم عمر أن يخوض سباق الحواجز في سبيل تحقيق أهدافه، فحالما يقفز على أحدها يجد آخر بانتظاره، فكان عليه بعد مغامرة جمع الأفلام، أن يتعاطى مع الظروف السياسية للسودان، فقد أعلن البرهان انقلابه على حكومة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ثم تراجع عن اتفاق تقاسم السلطة مع المدنيين وقيادة البلاد معهم إلى الانتخابات الحرّة.

دخلت السودان عزلتها عن العالم مرة أخرى، وانقطعت السبل إليها برا وجوا، وعمت الفوضى مدنها، وانتشرت المظاهرات وغاب الاستقرار الأمني. ومع ذلك وبعد طول انتظار يصل إبراهيم عمر إلى مدينته بورتسودان، ويشرع في الإعداد لمشروعه.

المخرج السوداني إبراهيم عمر خلال تصوير فيلمه “سينما الراكوبة”

ولم يخلُ هذا الوصول من شعور بالنصر والانتشاء، لذلك يطلق العنان لتأملاته وهو يشرح فكرة السينما لأطفال الحي، فيستعيد كلام منظري السيناريو حين يخاطبهم قائلا إنّ القصّ الذي يشتمل على بداية وتصاعد للأحداث ونهاية، يحاكي حياتنا بين ولادة وفعل وموت، وأنّ الخيال مهما بعُد يظلّ صورة أخرى منها.

ثم يأخذ في إعداد العدّة لرحلته، فلا بدّ له من راكوبة أولا لتحمله وفريقه إلى القرى النائية، ثم لا بدّ له أيضا من زاد للطريق.

عوائق الطريق.. عقبات اقتصادية وبيئية ودينية

يقرّر المخرج إبراهيم عمر أن يخصّ أترابه وزملاء الدراسة بعرضه الأول، بحثا عن شيء من الاعتراف بنجاحه، ولا شكّ أنه يمني النفس برؤية الإعجاب والامتنان وهو يرتسم على ملامحهم، فيكون له شيئا من الزاد لهذه الرحلة لاحقا.

ولكنّه يصطدم برحيلهم جميعا، بحثا عن عيش كريم في مكان آخر أكثر استقرارا. فلمَ لا يكون أبناء الحي من يحظون بهذا العرض إذن؟ فيشاركهم احتفاله بتحقيق حلمه، ونجاحه في أن يكون المخرج الذي ينشر السينما في السودان، ولكن انقطاع الكهرباء يوما كاملا أفشل العرض الأول، وحرمه من الحصول على الاعتراف الذي يبحث عنه.

ولا شك أن رحلته نحو القرى وتجمعات البدو ستكون أشد، فتتتابع الصعوبات وتتلاحق الحواجز، فالطريق إلى وجهته كان مغلقا، والكرفان الذي يفترض أن يؤدي الرحلة والعروض غير متاح. وحين يتجاوز هذه العبقة ويكتري العربة المثالية، يصطدم بحقيقة أن التجمعات السكّانية التي يقصدها ليس بها الكهرباء الضروري لعروضه، وليس بها وقود في أغلب المحطات.

ثم تتعطل العربة في الطريق، ويصطدم بعدها ببعض الطرقات المزروعة بالألغام أو الرياح العاتية التي تمنع العروض في الهواء الطلق، وحين يتغلّب على كل هذه العوائق يصطدم بشبان يرفضون هذه العروض لأسباب دينية وأخلاقية، ولكن الشغف ينتصر في النهاية.

أهالي الضواحي في السودان يتفرجون على السينما التي ابتكرها شابان سودانيان على ظهر كرفان

يعبر المخرج كلّ هذه الحواجز بسلام، فيحصل على المولّد، ويجد المحروقات في محطة بعيدة من بورتسودان، ثم يجد المساعدة من عابري الطريق لإصلاح العربة، ويقنع الشبان الرافضين للسينما، ويتفاعل الأهالي معه بإيجابية، فيضع بعضهم المحلات تحت تصرفه، لتأمين العروض، وذلك بسبب هطول الأمطار في الخارج.

دهشة السينما.. عيون ترى الشاشة الكبرى أول مرة

تجوب العربة بلدات كثيرة منها طوكر والمرافيت ودرهيب، وتذهب إلى البدو في الأقاصي البعيدة، وينخرط المخرج إبراهيم عمر ومساعدوه في تفاصيل حياة الأهالي، فيجوبون الشوارع على عربة تجرها الدواب، لدعوة الشباب إلى هذه العروض المجانية.

والمفارقة أن بعض كبار السّن كانوا قد حضروا عروضا هنا أو هناك قبل نحو 30 سنة، أما الأطفال والشباب فلم يكونوا يعرفون شيئا عنها.

وما يشدّ في هذه الرحلة دهشتان تجعلان الصّورة بناء مركّبا، ففي الواجهة نكون أمام شبان يكتشفون السينما أول مرة، فيتابعون الأفلام بشغف وذهول تكشفه الملامح والأنظار والانغماس التام في العروض والانغمار في عوالمها الخيالية.

ولا شكّ أنهم شاهدوا الأفلام على شاشة التلفاز أو الهواتف الذكية، ولكن ما يريده المخرج وهو يشير إلى هذه الحقيقة، إنما هو السينما بوصفها طقسا وفرجةً جماعية في ظلام يحف بالمكان وضوء يرسم على الشاشة الكبيرة صورا عملاقة ويبعث فيها الحياة.

وبالمقابل كانت للعدسة التي تصوّر هؤلاء دهشتها أيضا، فتتأمل الوجوه وتركز على النظرات التائهة والألباب المسحورة، وهي تكتشف هذه العوالم العجيبة.

رسم ملامح الحياة البدوية بالسودان.. وجه الفيلم الآخر

بعد عرض الأفلام، يسعى المخرج إلى تبيّن انطباعات المتفرّجين ووقع العرض في نفوسهم، فيكشف بعضهم عن الإعجاب بالحكايات العذبة، أو عن الإصابة بعدوى الشغف بالسينما والحلم بإخراج الأفلام يوما ما. ولكنّ أهم وقع يمكن أن يدركه المتفرّج هو تلك البهجة التي كانت تغمر الجميع، إذ تعكس الشعور العميق بأنهم يعاملون بوصفهم جزءا من المجتمع، وأنّ مؤسسات الدولة أو مثقفيها أو الفاعلين الاجتماعيين منهم لا يتجاهلونهم.

لقطة من عرض فيلم على ظهر سينما الكرفان

لذلك نرى المستجوبين يجتهدون كثيرا في إبراز وظيفة سينما التوعية وما تحمله حكاياتها من الرسائل للمتفرّج، وهذا مما يكشف دور مثل هذه المبادرات في تعزيز قيم المواطنة وتعميق الشعور بالانتماء.

مع ذلك، لا يمكننا أن نحصر موضوع فيلم “سينما الراكوبة” على تعريف الشبان البدو بالسينما، فليس هذا الغرض إلا تعلّة خوّلت للمخرج إبراهيم عمر أن يشد الرّحال إلى القرى البعيدة، وأن يلتقط مشاهد من حياة البدو، وصورا من عزلتهم عن العالم وتنائي المسافة بينهم وبين مظاهر المدنية، بسبب توجيه كلّ الجهود والموارد للحروب الأهلية والصّراع على السلطة.

فليست قرية المرافيت غير بيوت بدائية من طين أو من خشب، تنعدم فيها البنية التحتية كلّيا، فلا ماء ولا كهرباء ولا خدمات صحية، وأغلبها مدمّر بسبب المواجهات العنيفة. أما توغر فتحمل إلى اليوم آثار حرب 1997 التي هجّرت أغلب سكّانها، ومن بقي منهم أو عاد إليها يعيش اليوم البؤس والعطش والجفاف، والفضاء العام يقتصر على الحضور الذكوري، أما المرأة فقد أُقصيت تماما منه.

وثائقي بضمير الأنا.. أسلوب يجعل المتفرج مرافقا للفريق

جعل المخرج الكاميرا تتجوّل لتعرض مشاهد من الحياة اليومية، وجعل البوادي خلفية بصرية تأخذنا إلى الحياة في البوادي السودانية وإلى إيقاعها البطيء، وكان يتدخّل بين الحين والآخر، فيعلّق على الأحداث للربط بين مشهد وآخر، ويعرض ما واجهه في رحلته هذه، أو ينبّه المتفرّج إلى ناحية من النّواحي.. لذلك انتمى الفيلم إلى “الوثائقي بضمير الأنا”، وهو جنس فرعي أقرب إلى البحث الشخصيّ الذي يعرض فيه المخرج ورؤيته الشّخصيّة.

إلى جانب ذلك كان المخرج إبراهيم عمر يعمل على إظهار الحياة البدوية على وجه مخالف للمعهود، بتصويره من زوايا تصوير جبهية تلتصق بالأرض، أو تعتمد تقنية الإطار داخل الإطار، ممّا يكثّف اللّغة السّينمائيّة ويعمّق وظيفتها الجماليّة، ويمنح المتفرّج شعورا بكونه يرافق الفريق، ويدرك الحياة في القرى عن قرب بكل تفاصيلها.

أحد الأطفال السودانيين المتابعين لسينما الكرفان

ذلك شأن السّينما المباشرة التي تحرص على النّفاذ إلى صميم الأحداث، حتى تلتقط مادتها مباشرة من ميدان وقوعها، وغالبا ما يكون ذلك بدون تخطيط مسبّق يحدّد مواضع الكاميرا وطبيعة الإضاءة، ودون سيناريو جاهز يعد مسبقا كما في جنس الدراسة الوثائقية الكلاسيكية.

ومع ذلك لم يخلُ الفيلم من رتابة، فجميع مراحل الرحلة تتشابه، والوضعيات نفسها تتكرّر في كلّ بلدة على المنوال نفسه، إذ يصل الفريق إلى بلدة ما، ويسأل الأهالي عن مدى معرفتهم بالسينما، ثم يثبت الأجهزة ويعرض الأفلام، ثم يلتقط مشاهد الذهول التي تغمر المتفرّجين، ويجعل البؤس الذي تعيشه البلدة خلفية بصرية.

تاريخ السينما.. رثاء لماض نابض بألوان الفن السابع

كان الفيلم يتجه إلى المستقبل، ويحث الناشئة على الاطلاع على السينما، ويواجه قبح الواقع بجمال الفن، ولكنه لم يخلُ من نبرة رثاء لماضي السينما السودانية على قصره وقلّة أفلامه.

فعلى خلاف الرّاهن، عاشت السودان مرحلتين سينمائيتين مختلفتين، تتمثّل الأولى في احتضانها لأفلام أنجزت على أراضيها، وكانت الحياة فيها موضوعا لها، فقد صوّر أول فيلم عام 1910، ويدور حول افتتاح خط سكة الحديد بين الأُبيِّض والخرطوم، وقد عُرض بعد عامين بمدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان.

لقطة من فيلم سينما الراكوبة خلال عروض أحد الأفلام في السودان

وبعد الاستقلال بدأت قاعات السينما في الظّهور، حتى بلغ عددها في السبعينيات ستين قاعة، وأُنشئت مؤسسة الدولة للسينما وظهرت أفلام سودانية الهوية، ففي الفترة الفاصلة بين 1970-2009 أُنتجت سبعة أفلام.

وقد شهدت سنة 1970 ميلاد أول فيلم سوداني روائي طويل بعنوان “أحلام وآمال”، وهو من إخراج الرشيد مهدي، ولكن التدهور بدأ منذ انقلاب 1989 الذي سُمي “ثورة الإنقاذ الوطني”، وجاءت ترتيباته بعمر البشير للسلطة لاحقا.

فقد ساد موقف غير مصرّح به يعادي السينما، ويعمل على إزاحتها من المشهد الثقافي، فبدأت دور العرض تغلق أبوابها، وفي العام 1991 أُغلقت مؤسسة الدولة للسينما. ولذلك يأمل المخرج الشّاب إبراهيم عمر باستئناف النشاط السينمائي في بلاده، ويجد فيه عنوانا للاستقرار وحب الحياة، على أرض تواطأت على كره الحياة طويلا.