رمضان ومدينة.. طقوس الصوم في دمشق

كل حاضرة من حواضر العالم الاسلامي لها قصة خاصة مع رمضان، وحكاية ترويها عن يوميات هذا الشهر الكريم، فما بالك إذا كانت هذه الحاضرة هي دمشق؟ إحدى أقدم مدن الأرض وعاصمة الخلافة الإسلامية لعقود مشرقة، وملتقى الحضارات وقنطرة الشمال بالجنوب والشرق بالغرب.

فضمن سلسلة “رمضان ومدينة” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية وعرضتها على شاشتها، نقدم هذه الحلقة عن رمضان في دمشق، ونسلط فيها الضوء على يوميات المدينة العتيقة في رمضان، وطقوس أهلها في استقبال ووداع الشهر الكريم، وعاداتهم وتقاليدهم وأطباقهم المشهورة المخصصة لهذا الشهر.

رمضان.. أفراح الروح الموسمية في عاصمة الأمويين

من مآذن جامع بني أمية العريق، يتردد صدى صوت المنشد دياب السكري، وهو يتغني بقدوم رمضان، شهر البر والاحسان:

روِّح فؤادك قد أتى رمضان.. في التقى البر والإحسان

قال النبي فيما روى عن ربه.. فيما رواه السادة الأعيان

الصوم لي وأنا الذي أجزي به.. فأفض علينا الجود يا حنّان

وفي صباح أول يوم من رمضان ينطلق الناس مبكرين إلى أعمالهم بجد ونشاط، فأجواء العمل تتحسن خلال رمضان، والعاملون يقبلون على إنجاز أعمالهم، فلا وقت يضيعونه في شرب الشاي والقهوة أو تناول الأطعمة، وبالتالي يزيد وقت العمل ويزيد معه الإنتاج.

وتبدو حارات دمشق القديمة وأسواقها العتيقة هادئة وساكنة في الصباح، فالمتسوقون لم ينتشروا فيها بعد، وهي مزدانة بالكهارب والأعلام وزينة رمضان المختلفة، وفيها ما لذ وطاب من أنواع المأكولات والحلويات الشامية العريقة، تنتظر المساء، حينما تعج أزقتها بالمواطنين الذين يحرصون على العودة لبيوتهم وأيديهم محملة بأنواع الطعام والشراب والحلوى والعصائر.

وبيوت الشام التقليدية تنبض بالحياة منذ الصباح الباكر، نافورة المياه المتدفقة تروي الأزهار المتفتحة والنباتات الخضراء، فيما تنهمك ربة البيت وبناتها بإعداد الحلويات التقليدية لرمضان، وسيدتها “القطايف”، ويغادر الرجال إلى أعمالهم محفوفين بدعوات نسائهم وأطفالهم، بأن يرزقهم الله رزقا حلالا طيبا، ويعودون إلى بيوتهم في المساء سالمين.

ربات البيوت في رمضان دمشق يحضرن أصنافا منوعة من الطعام استقبالا لموعد الإفطار

ويحدثنا الأب إلياس الزحلاوي، وهو رجل دين مسيحي من دمشق: “في شهر رمضان هنالك عادت وطقوس تذكرنا بضرورة العودة إلى الله، بدءا من المسحراتي، الذي يقرع طبله سَحرا، ليقول للناس: قوموا صلوا، قوموا تسحروا، أتذكر هذه العبارات مذ كنت صغيرا، وكنا نحن الأطفال المسيحيين نفرح بقدوم رمضان كما يفرح المسلمون، ونفرح بسماع المسحراتي”.

صيام درجات المئذنة.. تدريب الأطفال على الصوم في رمضان

وفي رمضان يحرص أهل الشام على كثرة العطاء والزكوات، فيزورون الفقراء والمساكين، ويقصدون الجمعيات الخيرية من أجل التصدق بأموالهم في هذا الشهر الكريم الذي تتضاعف فيه الحسنات. ويحرصون كذلك على إطعام الطعام للمحتاجين، فتكثر الساحات التي يتجمع فيها الناس لتناول الطعام على موائد المحسنين، ومن أشهر هذه الساحات ساحة المسجد الأموي في قلب دمشق.

أطفال في سوريا يقدمون الصدقات لجيرانهم الفقراء في شهر رمضان

ولا يقتصر العطاء على المشاريع الآنية قصيرة المدى مثل الكسوة والإطعام، بل يتعداها إلى مشاريع خيرية طويلة المدى، تقوم عليها جمعيات متخصصة، وتهدف إلى تزويج الشباب، وإنشاء المدارس النموذجية بمراحلها التعليمية المختلفة، وإقامة مراكز التدريب والتأهيل للشباب العاطل عن العمل، لإمدادهم بالوسائل والخبرات التي تعينهم على العمل وكسب الرزق.

في كل رمضان، تمتلئ أسواق دمشق بأصناف الطعام والحلويات

ولأطفال دمشق قصة أخرى مع رمضان، ففي هذا الشهر المبارك يحرص الآباء على تدريب أطفالهم على الصيام تدريجيا، ويقنعونهم أن صيام أول يوم وآخر يوم بمثابة صيام الشهر كله.

وهناك وسيلة أخرى للتدريب على الصيام تسمى “صيام درجات المئذنة”، فكان الأطفال يتسحرون ويصومون إلى وقت الظهر، ويطعمهم الأهل وجبة خفيفة، ثم يتمون الصيام إلى المغرب، وقد يتناولون بعض الماء وقت العصر إذا كان نهار رمضان طويلا.

ورمضان دورة إيمانية روحية موسمية، يتقرب فيها أهل دمشق إلى خالقهم بشتى أنواع القربات، من قراءة القرآن إلى أداء جميع الصلوات على وقتها جماعة في المساجد، وكذا صلة الأرحام والصدقات والزكوات، والتواصل مع الجيران والأصدقاء وذوي الحاجات، وصلوات النوافل وعلى رأسها التراويح، وكذلك تجهيز وجبات الطعام المنزلية وتوزيعها على الجيران.

دمشق.. قبلة التعايش الإسلامي المسيحي

وبعد العصر تشرع النساء الدمشقيات في إعداد وجبة الإفطار وتحضير ما لذ وطاب من الأطباق الشامية مثل الشيشبرك والسلطات بأنواعها، والكبّة الشامية والسمبوسة وأنواع الحلوى المختلفة كالقطايف والكنافة والبقلاوة والعوّامة، والعصائر والمرطبات كالعرقسوس والتمر هندي وقمر الدين.

وقبيل المغرب تكتظ ساحة الجامع الأموي بآلاف الصائمين، ينتظرون موعد إطلاق مدفع رمضان، وصوت المؤذن الندي وجوقة المنشدين التي تردد خلفه مقاطع الأذان كاملة، ليكون ذلك إيذانا بانتهاء صيام اليوم والشروع بالإفطار، فيما تتحلق الأسر الدمشقية حول مائدة الإفطار يدعون الله ويبتهلون إليه بالأدعية المأثورة أن يتقبل منهم صيامهم.

المنشد عدنان حلاق يترنم بصوته وكلماته ترحيبا بشهر رمضان

يقول المحامي بديع السيوفي: في الماضي، قبل السماعات والكهرباء، وقبل أن تتوسع دمشق كما نراها اليوم، كان يوقد في المسجد الأموي سراج أحمر لتراه بقية المآذن ويرفعون أذانهم سويا، ثم صار يطلق مدفع رمضان فيبتهج الكبار والصغار لسماع صوته، واليوم اختفى المدفع وحلت مكانه الألعاب النارية، لا لشيء إلا لجلب البهجة والتذكير بعظمة شهر الصوم، فالإذاعة والتلفزيون ووسائل التواصل أخذت على عاتقها الإعلان الدقيق عن موعد الإفطار.

ويقول المنشد عدنان حلاق: رمضان شهر التجلي الروحي، والموشحات في رمضان لها طعم آخر، وهي على الأذن أوقع منها في الأيام العادية:

إليه به سبحانه أتوسل.. وأرجو الذي يرجى لديه وأسأل

فرقة دينية مشتركة بين المسلمين والمسيحيين ينشدون في ميلاد السيد المسيح

ويقول الأب زحلاوي: هذا التعايش المسيحي الإسلامي في دمشق يظهر جليا في رمضان، وأحد أهمّ ثمار هذا التعايش ما قمت به أنا والأخ الأستاذ حمزة شكّور في الإنشاد المشترك لله، واستطعنا تدشين أول حفل مشترك بين جوقة الفرح ورابطة منشدي مسجد بني أمية، وحضر قسما منها يومذاك وفد الترويكا الأوروبية مع “خافيير سولانا”، وتملكتهم الدهشة أن ينشد مسيحيون ومسلمون لله بجوار الكنيسة:

يا يوم ميلاد المسيح تفتحت.. أزهار خيرات وفاح شذاها

التسلية في رمضان

كان من عادة أهل دمشق التسلي بألعاب تقليدية مثل ورق اللعب “الشدة” للنساء وطاولة النرد للرجال، ولكن في رمضان يهجرون هذه الألعاب ويتفرغون للعبادة وقراءة القرآن وصلاة التراويح.

يقول الدكتور محمد راتب النابلسي: رمضان في هذه المدينة عرس حقيقي، يقبل الناس على أداء صلواتهم في المساجد، ويصلون التراويح 20 ركعة، ويحرصون عل ختم جزء من القرآن في كل ليلة، بحيث يختمون المصحف كاملا مع نهاية رمضان.

صلاة التراويح، أحد طقوس شهر رمضان المبارك في سوريا كما عند جميع المسلمين

وتتحدث ناديا خوست، وهي روائية وباحثة، عن رمضان في دمشق القديمة: في أحياء دمشق القديمة كالشاغور والميدان وسوق ساروجا والصالحية، ما زال رونق الاحتفال برمضان له ألق مختلف، وتظهر هذه الأجواء الاحتفالية في كيفية عرض أنواع الحلوى الرمضانية والبضائع الأخرى والزينة والأضواء

“الحكواتي”، أحد أعمدة تراث دمشق الرمضاني، قبل ظهور التلفزيون والمسلسلات الرمضانية

ويقول الأديب عادل أبو شنب: قديما ظهر فنانون متميزون في الإذاعة كانوا يقدمون تمثيليات اجتماعية وفكاهية في رمضان، برز منهم “إم كامل” و”أبو فهمي” وتيسير السعدي، واليوم ومع انتشار التلفزيون والقنوات الفضائية انشغل الناس كثيرا بالدراما السورية من مسلسلات وتمثيليات، وقبل هذا كله كان “الحكواتي” في المقاهي الشعبية يملأ أوقات الناس بحكاياته التراثية والفلكلورية.

المسحراتي.. بهجة رمضان التي ينتظرها الصغار والكبار

أما المسحراتي الدمشقي فله حكاية أخرى، فقد كان الناس ينتظرونه بلهفة، وخصوصا الصغار منهم، بل كان أكثرهم يحرصون على السحور من أجل سماع صوت المسحراتي الشجي وطبلته المشدودة، ويصومون من أجل أنهم تسحروا:

إصحى يا نايم.. وحّد الدايم

قوموا على سحوركن.. أجا رمضان يزوركن

“إصحى يا نايم.. وحّد الدايم”.. نداء المسحراتي الخالد في حارات دمشق

بعد السحور يحرص الدمشقيون على أداء صلاة الفجر جماعة في المسجد، وبعضهم يصليها في البيت مع عائلته، ثم يتفرغون لقراءة القرآن حتى الشروق، بحيث يختمون جزءا من القرآن يوميا، حتى يتسنى لهم ختمة المصحف كاملا خلال شهر رمضان الكريم.

وفي العشر الأواخر من رمضان ينشط المنشدون في تقديم الموشحات التوديعية، التي يودعون فيها الشهر الكريم، ويظهر فيها الحزن والتأثر على وداع موسم الرحمة والبركات:

فودعوه ثم قولوا يا شهرنا.. هذا عليك السلام

بالله يا شهر الصيام مودع.. أما لقلبك مستهام موجع

أتراه يرجع مثل حلم في الكرى.. أو نظرة فيها الحبيب مودع

في العشر الأواخر ينشط المنشدون في تقديم الموشحات الدينية التي يودعون فيها الشهر الكريم

رمضان مهلا يا حبيب قلوبنا.. بالله لا تهجر فهجرك موجع

وفي الختام، يروي الدكتور النابلسي حديثا عن النبي صلى الله عليه ويسلم، يقول فيه عن مناقب الشام: “رأيت عمود الإيمان قد سُلّ من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو بالشام”.