رمضان في باريس.. شعائر وطقوس إسلامية

رمضان في باريس

عندما ينتقل المهاجرون عن أوطانهم ويحطون رحالهم في بلاد الغربة، فإنهم لا يحملون أمتعتهم وأشياءهم المادية فقط، بل ستجد في ثنايا حقائب سفرهم بعض موروثاتهم وتقاليدهم وذكرياتهم، وحنينهم إلى الوطن الذي غادروه بصعوبة. وهكذا الفكر والعقيدة والمبادئ والأخلاق، فإنها تنتقل مع صاحبها أينما حلّ وارتحل.

وفي ذات القالب يمكن أن نضع عبارة “تختلف البلدان ورمضان واحد”، فهي المقولة التي يرددها من يرحلون عن أوطانهم ويدركهم الصيام في بلدان أخرى لا تعرف عن رمضان شيئا. وهذا ما نلمسه عند مشاهدة فيلم “رمضان في باريس” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية على شاشتها، ضمن سلسلة “رمضان ومدينة”.

مركز الزيتونة.. منارة تجمع المسلمين في قلب باريس

يقول الشيخ عبد القادر الونيسي، مدير مركز الزيتونة الإسلامي في باريس: أصبح رمضان خلال السنوات الماضية حدثا وطنيا في باريس، كما في تجمعات المسلمين في عموم فرنسا، وهذا لم يكن موجودا في العهود السابقة، فقد كان يمر رمضان ولا ينتبه له أحد، فأنا أذكر في بداية الألفية أن كثيرا من شباب المسلمين هنا كانوا يجاهرون بالإفطار.

مركز الزيتونة الإسلامي في باريس، يكتظ بالمسلمين في شهر رمضان

ويتحدث عن أجواء احتفالات مشابهة لأجواء البلاد الإسلامية، قائلا: أما اليوم -بحمد الله- فقلّما تجد أحدا يجرؤ على الإفطار في رمضان، بل إنك تحس بنفس النفحات الإيمانية والروحية التي يمكن أن تعيشها في البلاد الإسلامية، ونفس الأجواء الاحتفالية والألوان التي تصطبغ بها حواضر المسلمين.

تحتضن باريس وضواحيها حوالي 3 ملايين مسلم من شتى بقاع العالم، غالبيتهم من دول المغرب العربي، حيث حطّ الأجداد الرحال في هذه المدينة منذ الحرب العالمية الثانية. ويعد مركز الزيتونة الإسلامي في باريس ثمرةً لجهود امتدت على مدار عشرات السنين، حتى أصبح منارة علمية وثقافية ودينية.

الشيخ عبد القادر الونيسي، مدير مركز الزيتونة الإسلامي في باريس

يقول الشيخ الونيسي: المسلمون في باريس هم جزء من الجسد المسلم في العالم، وتعاطيهم مع المشهد الرمضاني في معظم تفاصيله شبيه بتعامل المسلمين مع هذا الشهر العظيم، سواء كان بالسلب كالنمط الاستهلاكي والسهر المبالغ فيه، أو بالإيجاب كالإقبال على المساجد والدعوة والصدقات وقراءة القرآن، وهذا من بركة الشهر العظيم، فرمضان لم يولد هنا أصلا، بل جاء في حقائب المهاجرين الأوائل.

لمّ شمل العائلة.. طقوس رمضانية تصنع الدفء الاجتماعي

مع أن عجلة الحياة تدور في الغرب بسرعة، ولا تعطي فرصة لالتقاط الأنفاس، فإن كثيرا من المسلمين الباريسيين -ومنهم الشيخ عبد القادر- يحرصون على تناول الإفطار مع عائلاتهم في البيوت، وهذا قد يتسنى له مرة واحدة في الأسبوع فقط، بسبب شدة الزحام وبُعد مكان العمل عن بيته، ومع ذلك يحرص الشيخ الونيسي على مشاركة أولاده وزوجته فرحة الإفطار.

الكسكسي، طبق الإفطار الرئيس في بيوت المغاربة المغتربين في فرنسا

يعد لمّ شمل العائلة على مائدة الإفطار وتبادل الزيارات والأكلات مع الجيران من أهم الثمار التي تقطفها المجتمعات الإسلامية في رمضان، لكنها تكون ذات دلالات نفسية وأبعاد ثقافية أعمق وأشمل عنما تكون في بلاد المهجر.

تقول أم أسعد، زوجة الشيخ عبد القادر الونيسي: سيكون إفطارنا اليوم الشوربة التونسية والبريك التونسي، وأما الطبق الرئيسي فهو الكسكسي، وهناك السلطة المشوية والسلطة العادية. وبعد التراويح يجتمع شمل العائلة ثانية في البيت، فنسهر معا ثم نتناول طعام السحور، وأقدم لهم الكريمة التونسية، وهي نوع من الحلوى، وكذلك مقروض القيروان والزلابية، ويكون طعام السحور من الكسكسي المسفوف المزين بالزبدة والزبيب واللوز.

“هذا أول صومي منذ أعلنت إسلامي”.. مشاعر المسلمين الجدد

في رمضان ترق القلوب وتسمو الأرواح، ويرافق هذا السمو شغفٌ في الذهاب إلى المكتبات، والاطلاع على آخر الإصدارات والكتب الإسلامية. يقول عبد الله السالمي، وهو صاحب مكتبة: رمضان شهر البركة، ويتزايد فيه الإقبال على المكتبة وشراء الكتب والدوريات، من الصغار والكبار، من المسلمين الأصليين أو الذين أسلموا حديثا، ومن غير المسلمين الذين يأتون للاطلاع على قضايا معينة، لرؤية تعامل الإسلام معها، وبعضهم يأتي للتعمق في القضايا الفقهية التي تهم المسلمين، وأكثرهم يأتون للبحث في ماهية الإسلام ومبادئه.

أسماء أليسما، متطوعة في جمعية “أَمَة الله”

وتتحدث للفيلم أسماء أليسما، وهي متطوعة في جمعية “أَمَة الله”، فتقول: هذا أول صومي منذ أعلنت إسلامي، وهذا رائع بفضل الله، فأنا من عائلة مسيحية كاثوليكية، إلا اثنين من إخوتي بروتستانت، ومع أن عائلتي متدينة، فإنني أعيش رمضان بشكل جيد.

وتقول “مارينا آن غونغ”، رئيسة جمعية “أمة الله”: أسلمت منذ 7 سنوات، وبمرور الوقت يزداد فهمي للإسلام، وكلما تقربت إلى الله أكثر أصبحت العبادات أيسر وأسهل. ففي البداية كنت المسلمة الوحيدة في عائلتي، ثم انضمت إليّ أختي، ثم الثانية، والآن أختي ذات الـ16 عاما مهتمة بالإسلام أيضا.

صيام الشهر الكريم.. قيم ينشرها أطفال المسلمين في المدارس

تكثر العادات والموروثات التقليدية في هذا الشهر، وقد انتقلت إلى باريس بانتقال المهاجرين من موطنهم الأصلي، فترى الأسواق تعج بالمنتوجات التراثية التي تشتهر في هذا الشهر من أنواع المأكولات والحلوى والمرطبات، وترى المسلمين يحرصون على التواصل والعطاء في هذا الشهر بما لا يحصل في غيره، ويحرصون على السحور والإفطار معا، وأداء الصلوات في المساجد.

يقول أسعد الونيسي، وهو ابن الشيخ عبد القادر: نقل الأطفال بعض هذه العادات من خلال مدارسهم إلى الفرنسيين، فترى الطفل الفرنسي تصيبه الدهشة والعجب عندما يرى المسلم الصغير صائما، حتى بدأ بعضهم يقلدون المسلمين ويصومون معهم. وكان رمضان يبدو لنا -نحن الأطفال- احتفالا موسميا، ومع الوقت أدركنا أن رمضان مسؤولية وعبادة وشهر مخصص للمزيد من الالتزام والطاعة.

وجود تلاميذ مسلمين صائمين في مدارس فرنسا، يسهل على الصغار صيام شهر رمضان

أما أخوه إحسان، وهو طالب في الإعدادية فيخلط بين العربية والفرنسية وهو يحدثنا عن بدايات تجربته مع رمضان، فكان يصوم يوما ويفطر يوما، واليوم بعدما كبر صار يحافظ على الصيام يوميا، ويصحب والده إلى صلاة الصبح والقيام، وفي المدرسة يمضي وقت الصيام سهلا وسريعا، لا سيما أنه يجد من زملائه العرب من يشاركه الصيام.

طالبات الجامعة.. ضرورات تفسد متعة المشاعر الدينية

تقول سيدة الونيسي، وهي طالبة جامعية: عدد الطلاب العرب والمسلمين قليل في جامعتي، ولذلك لا نحس بأجواء رمضان، ناهيك عن كثرة الواجبات الدراسية التي تجعل الاستمتاع بالعبادة والروحانيات الرمضانية صعبا.

ويتقلب رمضان باريس بين قديم موروث وجديد مطروح، ويحاول جيل الشباب أن يعيشوا تجاربهم من خلال واقع لم يألفه آباؤهم. يقول وقّاص، وهو متطوع في جمعية “أمة الإسلام”: لا نشعر كثيرا بأجواء رمضان في باريس، وليس الحال هنا كما في البلاد الإسلامية، ولكن واجبنا -نحن المسلمين على الأقل- أن نخلق أجواء رمضان في بيئتنا، وأن نقوم بمسؤولياتنا خير قيام.

سيّدة الونيسي، طالبة جامعية تتحدث عن العدد القليل لطلاب الجامعة المسلمين

أما الطالبات والعاملات المسلمات فيلقين مشقة كبيرة في الصيام، سواء في الجامعات أو في أماكن عملهنّ، فهن يضطررن إلى خلع الحجاب أثناء وجودهن في الجامعة أو العمل، ونادرا ما يسمح لهن بأداء الصلوات على وقتها، وينتظرن عودتهن إلى البيوت مساء ليقضين ما فاتهن من الصلوات، ثم يساعدن العائلة في إعداد طعام الإفطار.

ويستغرب الفرنسيون كثيرا، وتصيبهم الدهشة عندما يرون الشباب والشابات المسلمين يمتنعون عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من الفجر إلى المغرب، فأكثر الفرنسيين يربطون بين رمضان وبين عادات وتقاليد الشعوب المسلمة، ويظنونه احتفالا فلكلوريا، ولا يربطونه بطريقة أو بأخرى بعقيدة المسلمين ودينهم.

رمضان باريس.. أنشطة خيرية تحمل روح الصيام

وهب المتطوعون في جمعية أمة الله الخيرية أنفسهم للبذل والعطاء في ضاحية بانيولي بشرقي باريس، ويحاولون الوصول بخدماتها وعطائها إلى الذين تقطعت بهم سبل العيش في باريس، وهي نموذج جميل صاغه شباب وشابات مسلمون لإسعاد غيرهم، وتمتد خدماتها لغير المسلمين كذلك، من العاطلين عن العمل والمشردين.

وئام أوراء، طالبة متطوعة في جمعية “أمة الله” بباريس

ويقول أحد العاملين في الجمعية: تقتضي تعاليم ديننا مد يد العون وإيصال الخير إلى المحتاجين، من المسلمين وغير المسلمين، ونبتغي من وراء ذلك رضوان الله فقط، والفوز يوم القيامة، والتوفيق في حياتنا، وأن نرى البسمة والفرحة على وجوه المحتاجين، من النساء والأطفال والرجال.

وتتوسط مائدة إفطار جماعية كبيرة قاعة مركز الزيتونة الإسلامي في بانيولي، في صورة من أجمل صور التكافل والتراحم التي تعمّ المجتمع الإسلامي في باريس خلال شهر الرحمة والبركة، ويحرص أغلب المسلمين هناك على المشاركة في هذه المائدة المباركة، في حين ترفرف أجنحة السكينة والطمأنينة على الشباب العاملين في جمعية أمة الله، وهم يخدمون جموع الصائمين.

مائدة إفطار يومية تتكفل بها جمعيات خيرية ومتطوعون من الشباب المسلم في باريس

وبعد صلاة التراويح يجتمع المصلون في قاعة الشاي بجوار المصلى، يتجاذبون أطراف الحديث، في مشهد قلما يتكرر في غير رمضان، ويعقدون صفقات رابحة؛ من علاقات مصاهرة ونسب، إلى صفقات تجارية، وحتى مجرد صداقات وعلاقات أخوة تزداد ترابطا مع الأيام.

تعليم العربية وتعاليم الإسلام.. أنشطة رمضان الثقافية

ينعكس أثر الصفاء الروحي إيجابيا على الحياة اليومية للأفراد. يقول السيد “مارك إيفارديك”، رئيس بلدية بانيولي: أنا شخصيا ألاحظ أن الشباب يكونون أكثر هدوءا وأقل تجوالا في ليالي رمضان، وبذلك تقل المشاكل، وأسمع أن الفرد يبذل جهدا ليكون منضبطا في رمضان، ونافعا للمجتمع والجالية، وهذا ما أراه بعيني اليوم.

السيد “مارك إيفارديك”، رئيس بلدية بانيولي

ومن أبرز ما تهتم به الجالية العربية في المهجر تعليم أبنائها اللغة العربية، وهو ما يحرص مركز الزيتونة الإسلامي على تقديمه، وقد بدأ المشروع بـ140 تلميذا، وخلال سنتين ارتفع العدد إلى 240، ويسعى المركز لفتح صفوف للكبار، سواء من العرب أو من غير الناطقين بالعربية.

ويستنفر العاملون في مركز الزيتونة خلال شهر رمضان، إذ يستقبل المركز كل ليلة ما لا يقل عن 1000 مسلم، وتشاركهم بعض الجمعيات والأفراد من غير المسلمين، ويتوافد إليه زوار رسميون منهم العمدة ورئيس البلدية، يشاركون في هذا الحدث الموسمي، فقد أصبح رمضان بحق حدثا وطنيا فرنسيا.

موائد الإفطار في باريس تعم بخيرها غير المسلمين من المارة والمحتاجين

وتتعدد السهرات الرمضانية في أماكن مختلفة، حاملةً في طياتها مزيدا من التآلف والتقارب بين العرب والمسلمين، ممن فرّقت بينهم الحدود الجغرافية والسياسية وألّفت بينهم بلاد الغربة، تجمعهم الأطباق والحلويات التقليدية التي جاؤوا بها من بلدانهم الأصلية، فتجد المقروض والزلابية والحلويات التي تشتهر بها تونس، وبقية دول المغرب.

حصالة المنزل.. صدقات تجمعها العائلات لفلسطين

تبقى فلسطين حاضرة في المشهد العربي والإسلامي أينما كان، فيبادر الصغار إلى جمع النقود بحصّالات يضعونها في بيوتهم، ويحثون العائلة جميعها على التبرع كل يوم، ولو بمبلغ بسيط، ثم يجمعون الحصالات في آخر الشهر المبارك ويرسلونها إلى أشقائهم في فلسطين.

حلويات مغربية تملأ أسواق باريس في شهر رمضان

وفي نهاية رمضان يحرص المركز الإسلامي على جمع زكاة الفطر من المسلمين وتوزيعها على المحتاجين، ويستمر في ذلك حتى صبيحة يوم العيد، وقبيل صلاة العيد التي تؤمها جموع غفيرة من المسلمين في باريس، تضيق بهم جنبات مسجد المركز.

فتيات من الجالية المسلمة يغنين للعيد في حفل العيد بباريس

وتكون أعظم فرحة عندما يجتمع المسلمون، من عرب وأفارقة وفرنسيين من المسلمين الجدد في صلاة العيد، ويزين هذه الفرحة الأطفال بأناشيدهم الشجية وأصواتهم الندية، ويحرص الأهالي على إشراك أطفالهم في مظاهر الفرحة بهذا اليوم، وتبادل الهدايا بين أفراد العائلة والجيران، وغالبها من الملابس التقليدية في البلدان المختلفة، وتقدم الحلويات للجيران غير المسلمين في يوم العيد. ويكون لسان حال الجميع يود لو يكون العام كله رمضان.