“الثالث”.. ورشة سيارات تصبح عيادة لرصد أزمات لبنان

أصبحت المشاكل المتتالية التي تعصف بلبنان منذ سنوات موضوعا دسِما لدى كثير من المخرجين، فانعكست خيوطها السياسية والاقتصادية والمجتمعية في كثير من الأفلام الوثائقية، لا سيما أن تلك الأزمات قد مسّت كل فئات المجتمع، ويأتي فيلم “الثالث” ليسلط الضوء على جزء منها، بطريقة مبتكرة وغير مكرسة، فما الذي فعله المخرج ليكون فيلمه مختلفا؟

يأتي الفيلم الوثائقي اللبناني “الثالث” (Thiiird) -الذي أُنتج عام 2023- ضمن ثلاثية بيروت التي بدأها المخرج كريم قاسم بفيلم “فقط للرياح” (2020)، وبعدها “أخطبوط” (2021)، وكلها أفلام وثائقية هجينة تمزج بين التجسيد والتسجيل، للوصول إلى جراح لبنان المتعددة، وهي المشاكل التي أنتجت القهر والكبت والظلم والخوف والأمراض النفسية المتعددة، وخنقت الأفراد بشدة.

تلك هي المنطلقات التي عمل عليها كريم قاسم في ثلاثيته، وقد تحدث فيها عن إفرازات الانهيارات الاقتصادية وتبعات فيروس كورونا ومخلفات تفجير مرفأ بيروت، وغيرها من العقبات العميقة التي ساهمت في إيصال بيروت لما هي عليه حاليا.

وقد جاء فيلم “الثالث” ليؤكد من خلاله كريم قاسم ما رصده في “فقط للرياح” و”أخطبوط”، وكأنه يقول بصوت مرتفع إن أزمات بيروت لا تنتهي، تتراكم كل مرة لتصبح مثل كرة الثلج التي تسقط على المجتمع من أعلى الجبل، وفي كل مرة تكبر وتكبر حتى تصبح بالحجم الذي هي فيه الآن.

ورشة فؤاد.. عيادة تصلح السيارات وتسمع الأوجاع

رصد المخرج في فيلمه الوثائقي “الثالث” (94 دقيقة) أوجاع اللبنانيين المتعددة، ولم يكن هذا الرصد أو التوثيق عن طريق الحوارات أو ترك المجال للضيوف والشخصيات ليواجهوا الكاميرا، بل ذهب مباشرة لتلك القلوب المحطمة والموجوعة، عن طريق الميكانيكي فؤاد محولي الذي لديه ورشة متواضعة في أحد ضواحي بيروت.

وقد أصبحت الورشة بمثابة عيادة نفسية، يأتيها الأفراد من كل جهة، للبوح وإخراج ما في قلوبهم من جراح لا تنتهي، لا سيما أن المعلّم فؤاد يصلح سياراتهم المعطوبة، وفي نفس الوقت يستمع لهم ولتفاصيل حياتهم، لكنه لا يعلق عليها، ونادرا ما يتحدث، وإنما يصدر من حين لآخر بضع كلمات أو جمل، يقولها في سياق معين ومحدود.

وكأنه بهذه الطريقة يضاعف وجعه، خاصة أنه هو أيضا يعيش عدة انهيارات شخصية، منها ابتعاده عن أولاده وأسرته، وعيشه في الورشة التي يعمل بها، وبيع سيارته، وتحذيرات الجهات المسؤولة من أجل إخلاء المكان.

ناهيك عن قائمة لا تنتهي من التراكمات الموجهة التي تضغط عليه، وتحول حياته إلى جحيم لا يطاق، لكنه لا يبوح بها، بل يحاول أن يخفف عن نفسه بشرب الكثير من القهوة في كل وقت، فربما يمتص من خلالها بعض آلامه أوجاعه.

أوجاع بيروت الناطقة.. حوارات تعكس الحالة المزرية

قدّم فيلم “الثالث” عدة نماذج بشرية تضررت كثيرا من مشاكل بيروت، منها المرأة التي كانت تتكلم في الهاتف وهي منهارة تماما، وتقول إن البنوك سرقوا أموالها، وقد كانت مخصصة لدراسة أبنائها.

السيارة التي حملها عليها فؤاد الأبواب التي نصبها في الطبيعة، كي تُفتح على المجهول

وهناك مشاكل أخرى، ربما تبدو صغيرة بالنسبة لدى البعض، لكنها محورية لدى الفرد اللبناني الذي يعاني من التضخم والارتفاع الجنوني للأسعار، منها مثلا ندرة البنزين وغلاؤه وحتى غيابه في كثير من الأحيان، ومنها رداءة زيت الطبخ المحلي الذي لم يعد يصلح للقلي سوى مرة واحدة، وارتفاع سعر الخبز ارتفاعا جنونيا، ومنها أقساط الدراسة التي حرمت كثيرا من التلاميذ من حقهم في التعليم.

كما تتنوع المشاكل والأحاديث التي بات يسمعها فؤاد بشكل يومي، ومنها حديث شاب لم يعد يقدر على النوم كما ينام الآخرون، وقد بلغ الأمر مبلغ المرض لديه.

ناهيك عن نقاشات أخرى رمزية، من بينها حوار حدث بين شابين عن استعمال كلمة “راجعون” أو “عائدون” عند حديثهما عن المهاجرين، وكل فرد قدّم بُعده الفلسفي والفكري والمجتمعي، لكنها تؤدي في المجمل إلى جراح بيروت التي توصل لها دائما.

لبنان بالأبيض والأسود.. عين تعميها المآسي عن جمال الوطن

صاغ المخرج كريم قاسم في فيلمه “الثالث” مقاربة جمالية مهمة، وفي نفس الوقت جاءت بمثابة المغامرة، بعد أن جرّد عدسات كاميراته من رؤية الألوان الزاهية والمنعشة والحيوية والطبيعية التي تراها العين الطبيعية عادة، ووظف مكانها اللونين الأبيض والأسود.

وكأنه يقول إن عين اللبناني لم تعد ترى سوى ذين اللونين، فقد أصابه عمى في الألوان، ولّده البؤس والشقاء والحزن والوجع والأحزان والمآسي الكثيرة التي خلقتها الأحزان المتواترة، فلم تعد عينه تبصر غير الرمادي الحزين الذي لا ينتج شوى الوهن، ولا ينتج شيئا من المستقبل، مع كل ما يحيط به من طبيعة ساحرة وتاريخ كبير يرتكز عليه.

كان هذا الخيار من المخرج كريم قاسم بمثابة المغامرة، لأن عين المشاهد تعودت على الألوان، لا سيما في الأفلام الوثائقية، وأما حجبها فعادة ما يكون في الأفلام الروائية، لكن كريم كسر تلك القاعدة، لأنه يتعامل مع أفلامه بمقاربة مختلفة، ويرى الفيلم الوثائقي مشروعا سينمائيا وجماليا، وركيزة مهمة لنحت صيغة مختلفة في هذا اللون السينمائي.

رمزية الأبواب لها عدد من المعاني في الفيلم، أهمها بأن اللبناني بحاجة إلى أبواب مفتوحة

وقد نجح في هذا الرهان، لأن الأبيض والأسود ساعدا المتلقي على فهم الوضع اللبناني بطريقة جيدة، وأحس بما يحس به المواطن اللبناني انطلاقا من جراحه المتعددة، لهذا خدم هذا الخيار الجمالي موضوع الفيلم بشكل متعدد، وساهم في تثبيت مرتكزاته.

رمزيات الفيلم.. لمسات خفيفة ذات دلالات عميقة

تعددت الرمزيات التي وُظّفت في الفيلم وأعطته بُعدا فلسفيا، وقدّمت للمتلقي فرصة التفكير والاستنباط والتأويل وتنشيط العقل، من أجل بلورة أفكار العمل ووضعها في سياقها الصحيح. أي أن المخرج لم يركز على الجانب الجمالي والموضوعي فقط، بل ذهب لرسم إشارات مهمة، لتأويلها وفق سياقها الصحيح بعد الانتهاء من مشاهدة العمل، أي ترسيخها وإبقائها مادة حية.

مع أن الفيلم خالٍ من الألوان، فإن الأبيض والأسود خلقا جماليات متعددة

فمثلا عندما كان الميكانيكي فؤاد يضع أبوابا في مناطق في الطبيعة، منها أبواب على تلة مطلة على مدينة شاسعة، هي على أغلب الظن بيروت، فقد وضع الباب وفتحه عليها، وهي إشارة إلى الفراغ الكبير الذي تعيشه هذه المدينة.

إضافة إلى طريقة فؤاد في فتح باب القفص، وخروج الدجاج منه، ويبدو أنه ينتظر تلك اللحظة ليخرج من المساحة التي كان فيها، وكأنه يقول إن اللبناني بحاجة ليتنفس أكثر، ليخرج من المساحة التي حُبس فيها.

كما ظهر محمد -وهو صديق فؤاد في الورشة- يحفر قبرا لا يعرف لمن، بمعنى بأن الموت أصبح حاضرا بقوة في حياتهم، إضافة إلى الزبون الذي كان ينتظر فؤاد في الورشة ليصلح سيارته، وقد كان جالسا على سقفها، وهي صورة عبثية ومراوغة لها عدة تفسيرات، وكل هذه المعطيات ساهمت في تقوية الفيلم من نَواحٍ عدة، وضاعفت أهميته وفنيته.

ولم يكن المخرج ذا نزعة تشاؤمية مطلقة، لأنه قدّم أملا للبنانيين، حين أدخل بطله الميكانيكي فؤاد في دهليز مظلم، ثم خرج منه وقد ملأ النور وجهه، بسبب زرقة البحر وجماله الممتد، في تلك اللحظة فقط أطلق المخرج العنان للألوان، وتخلى عن الأبيض والأسود.

تحولت ورشة فؤاد إلى عيادة نفسية تعالج القلوب المعطوبة وتستمع إلى الأصوات المكتومة

لغة الفيلم السينمائية.. مزج بين الجماليات وعمق الموضوع

استطاع المخرج الشاب كريم قاسم في “الثالث” أن يقدم فيلما وثائقيا مهما، راعى فيه جوانب متعددة تصنع العمل الجيد الذي سيبقى ويعمر طويلا، لأنه مزج بين الموضوع المهم الذي تطرق فيه إلى الراهن ومتغيراته (سيناريو كريم قاسم ونادية حسّان)، وبين الجماليات المتعددة التي خلقها التصوير (طلال خوري)، إضافة إلى التوليف (ألكس باكري) الذي خلق بُعدا مختلفا وقويا منح العمل تميزا واضحا.

أما أهم المرتكزات الجمالية التي جاء بها، فهي اللغة السينمائية القوية التي استطاع أن يقدمها كريم قاسم، وهو جانب أظهر موهبة المخرج القوية، لأن الحوارات والكلمات في العمل كانت قليلة ونادرة جدا، وهذا ما حدث أيضا مع البطل الرئيس وهو الميكانيكي فؤاد.

وفي المقابل قدم كما هائلا من المعلومات والمعطيات، واستطاع أن يُفهم المتلقي ما يحدث في لبنان، ومدى تأثير تلك الأشياء على حياة الفرد، ومن هنا تكمل قوة الفيلم وموهبة المخرج الذي فهم جيدا ماهية الفيلم السينمائي.

ناهيك عن اللغة البصرية العميقة والجميلة، فقد انعكست في إطارات جاء معظمها من كاميرات ثابتة، إضافة إلى اختياره فصل الشتاء ليكون عنصرا زمنيا في الفيلم، وكلها معطيات أظهرت رؤى المخرج ونظرته للسينما وأهليته ليكون واحدا من صانعيها.