“أمانات”.. فيلم روسي ينصف كفاح شعوب القوقاز وقيمها الإنسانية

ينقل الفيلم الروسي “أمانات” (Amanat) المستند على قصة حقيقية، جانبا من الصراع التاريخي بين قبائل القوقاز المسلمة والإمبراطورية الروسية خلال النصف الأول من القرن الـ19، وبروز اسم الإمام شامل زعيما شجاعا رفض الخضوع لإدارة الجيوش الروسية، فأعلن عصيانه عليها وقاومها.

وفي آخر معاركه معها، اضطر لإيقافها حفاظا على أرواح المدنيين من أبناء شعبه، مقابل أن يُسَلم ولده جمال الدين -وهو ابن 13 عاما- رهينةً إلى القيصر الروسي، ليقتله في حال إعلان الإمام الحرب ثانية عليه.

تتشعب قصة الرهينة، فقد صار ضابطا في الجيش القيصري، وتأخذ الحكاية دروبا متعرجة يقترح المخرجان “رؤوف كوباييف” و”أنتون سيفيرس” تجسيدها بأسلوب سينمائي كلاسيكي، يجمع بين متعة المُشاهدة وبين عرض جوانب من سيرة حياة بطله الذي صار داعية للسلام ومناهضا للحروب، من دون أن يتنازل عن حق شعبه في التخلص من الهيمنة الروسية.

ابن الإمام المقاتل.. من جبال القوقاز إلى روسيا القيصرية

يدخل الفيلم في أجواء الحرب مباشرة، فيبدأ بنقل مشاهد المعارك الجارية بين الجيش الإمبراطوري الروسي وبين مقاتلي الإمام شامل، إمام الشيشان وداغستان ودفاعهم عن قلعتهم المحاصرة.

من داخل القلعة يظهر صبي شجاع على صغر سنه، يحمل سيفه ليدافع به عن وطنه، وبعد انتهاء المعركة يتبيّن أن الصبي هو جمال الدين ابن الإمام، فيطلب الضابط الروسي منه تسليمه لهم “أمانةً” يضمن بها القيصر الروسي عدم خروجه مرة ثانية على جيشه.

يقبل الإمام (الممثل أرسلان مورزابيكوف) بالعرض، مدفوعا بالإحساس العالي بالمسؤولية إزاء شعبه الذي كان مهددا لحظتها بالدمار، ثم يُنقل الصبي إلى الأكاديمية العسكرية في روسيا، ومنها يعرض النص السينمائي جوانب من القيَم الإسلامية التي تربى عليها الصبي في كنف والده، حتى مع عيشه بين الروس.

يكرس التلميذ الأجنبي وقته للمطالعة والانكباب على دراسة العلوم العسكرية، وفي الأكاديمية يتعرف على زميل له يدعى “ألكسي أولينين”، ويصبح لاحقا صديقه الأقرب، وخلال زيارة عائلته له في الأكاديمية يلتقي جمال الدين بأخته الطفلة اللطيفة، فتهديه كتابا باللغة الروسية يقرؤه مرات عدة ويحتفظ به هديةً غالية.

ابنة الجنرال الروسي.. قصة حب غير مفروشة بالورود

يمضي الزمن ويتخرج جمال الدين (الممثل أمين خوراتوف) من الأكاديمية العسكرية ضابطا، ثم يلتقي صدفةً بالطفلة وقد أصبحت الآن شابة جميلة يقع في حبها.

الغريم الذي أراد إشعال الحرب رغبة في الانتقام

قصة الحب التي تجمع جمال الدين مع “إليزابيث أولينينا” (الممثلة فارفارا كومارفا) ابنة الجنرال “أولينين” وأخت “ألكسي” ستكون سببا في تقلبات حياتية دراماتيكية، من بينها العداوة الشديدة التي تنشأ بين خطيبها السابق الضابط “ديمتري مانونوف” وبينه، ويكاد بسببها يفقد حياته.

في تلك المرحلة تظهر اهتمامات هذا الضابط بالعلوم ولا سيما علم الفلك، فيكرس كثيرا من وقته لدراسته، وفي أثناء ذلك كان والده في جبال القوقاز العصية يخطط لاسترجاعه إلى موطنه الأصلي، بمهاجمته للقوات الروسية الموجودة هناك، وباتخاذ عدد منهم أسرى يتفاوض لإطلاق سراحهم مقابل تحرير ولده.

إيجاد الحل السلمي العادل بين الشعوب.. عودة إلى القوقاز

بين خطط الأب وبين وجود الابن في روسيا، تتداخل القصص وتتعقد مساراتها، وتنضج -بحكم معرفته بواقع روسيا- رغبةٌ عند الابن بإيجاد حل سلمي، يضمن إنهاء الصراع بين الطرفين، وتتوافق تلك الرغبة مع إرادة القيصر “نيقولا الأول” الذي كان يريد وضع حد لحرب القوقاز لكن بشروطه، ولتحقيقها يطلب منه أن يكون وسيطا بينه وبين قبيلته.

يرفض الضابط الشجاع جمال الدين هذا العرض، لأنه لا يريد أن يكون وسيطا متخاذلا في صفقة تسيء إلى شعبه، وتبقيه خاضعا لإرادة الأجنبي، بل كان يريد سلاما حقيقيا ينهي به كل أشكال الوجود العسكري الروسي في القوقاز.

بعدها تتعرض العلاقة العاطفية بين الشاب والفتاة الجميلة إلى شرخ كبير، بسبب ما يجري في القوقاز، حين يُقتل أخوها الضابط “أليكسي” هناك، وعليه تطلب العائلة منها قطع علاقتها بهذا القوقازي الغريب المنحدر من قبائل “متوحشة”!

ومع أن قرار العائلة وحكمها الظالم عليه وعلى شعبه يترك في نفسه جرحا غائرا، فإن علاقته العاطفية بحبيبته الروسية لم تنقطع، بل ظلا متمسكين بحبهما النزيه، حتى مع دخول الخطيب السابق على خط الأزمة الحاصلة.

الشابة الجميلة التي أحبها الضابط الغريب

وبعد موت صديقه يدفعه ذلك لإعادة النظر في موقفه السابق من التفاوض بين القيصر وشعبه، فيقرر العودة إلى موطنه لإقناع والده بأهمية السلام لشعوب القوقاز، وحينها يسعده وجوده بين أهله، ويأخذ تدريجيا بالتأقلم مع أجوائه بعد طول ابتعاده عنه.

مبارزة الغريم.. استشهاد من أجل الوطن والسلام

يقرر والد جمال الدين تزويجه بفتاة من قبيلته، وقد قبِل بذلك كما تقر الأعراف، لكنه صارح زوجته بحقيقة حبه لـ”أولينينا”. وفي تلك الأثناء يُكلف غريمه الضابط “مانونوف” بمهمة في القوقاز، وعلى الخط يظهر “ميرزا”، وهو شخصية متآمرة تعمل على تخريب مساعي السلام، لأغراض منفعية مرتبطة بإرادة الحاكم العثماني.

مجيء “أولينينا” إلى القوقاز بصحبة والدها لحضور مراسيم دفن أخيها يعقّد المشهد، إذ يأسرها “ميرزا” المتواطئ مع خطيبها السابق، حتى تكون سببا في إشعال الحرب بين الطرفين، وبذلك تفشل مساعي القوقازي العائد بأحلام السلام.

يخيرها “ميرزا” بين العمل مع الطرف الرافض للسلام أو إرسالها إلى القصر العثماني سبيةً، لكن خطته لم يكتب لها النجاح لأن أخا جمال الدين الأصغر يكشف ما يجري، فيحضر حبيبها ويطلق سراحها.

ومع أن الخطة قد فشلت، فإن غريمه يستغل الحادث ويشن هجوما على القلعة، مما يدفع جمال الدين للدفاع عنها، والدخول في مبارزة معه، تنتهي بمقتل الضابط وبإصابة جمال الدين بجرح عميق، وقبل وفاته يطلب من والده التفكير بحل عادل ينهي به القتال.

لا يستسلم الأب للعدو، لكنه بعد وفاة ولده يذهب للتفاوض مع القيصر على مشروع ينهي به الوجود الروسي في القوقاز، فيحصل على ما يريد، ويعلن القيصر قراره بإنهاء الهيمنة الروسية هناك، وبموته في ساحة القتال يصبح الابن رمزا للمقاتل الشجاع الذي أرسى سلاما خدم به شعبه، وصار بفضله صانعا لتاريخ جديد أنهى حربا طالت عقودا طويلة.

“أمانات”.. اشتغال سينمائي ينصف الشعب القوقازي

ينصف فيلم “أمانات” الشعب القوقازي وقبائل الشيشان وداغستان الملتزمة بقِيمها الدينية والإنسانية، فمع أنه يتناول جانبا تاريخيا يتعلق بالوجود الروسي في القوقاز، فإنه لم ينحز لطرف دون غيره.

فقد أخذ الفيلم قصة جمال الدين الحقيقية، وبنى عليها نصا سينمائيا جميلا محمّلا بأفكار منفتحة على الثقافات والديانات المختلفة، من دون تشويه متعمد كالذي يسقط فيه أحيانا صناع أفلام غربيون عند تناولهم قضايا تاريخية إشكالية.

ملصق فيلم أمانات

وعلى مستوى الاشتغال السينمائي، يعد الفيلم من بين الأفلام التاريخية الجيدة الصنعة تمثيلا وإخراجا وكتابة، فتتنوع جغرافيات مساراته الدرامية، وتظل مرتبطة بالحدث الأساسي وبالشخصية المركزية التي يستند جزء كبير من بنيان الفيلم الروائي التاريخي عليها.

القيم النبيلة توحد كل الثقافات.. رسالة الفيلم

يقدم النص شخصية جمال الدين بكل أطيافها الثقافية والدينية، ليُظهر أجمل ما فيها من قيَم إنسانية نبيلة، فمع أن جمال الدين وصل إلى روسيا صبيا، فقد ظل متمسكا بقيمه الدينية من دون نفور من المحيط الجديد الذي وجد نفسه فيه، بل إنه -على العكس من ذلك- أراد أخذ أفضل ما في ثقافته وعلومه، وكان يريد نقلها إلى موطنه ليستفيد منها شعبه.

وتشي خاتمة الفيلم بهذه الروح المتفتحة القابلة بالآخر بشروطها من دون تنازلات، حين يظهر الإمام شامل في مشهد متأخر، وهو يزور الأكاديمية التي درس فيها ولده، ويشاهد المناطق التي عاش فيها مع ضباط روس استقبلوه بالترحاب.

وحتى لا ينسى النص الجانب الرومانسي فيه، فإنه يعود إلى بيت حبيبته، وهذه المرة عن طريق زوجته القوقازية التي تسلمها كل رسالة كتبها لها ولم تصل إليها، من دون ضغينة أو كراهية، فما رسخه زوجها من قيم نبيلة ترفض تلك الصفات، وتستبدلها بأخرى تنشد الحب والتمسك بالقيم الدينية، وباحترام بقية الثقافات، والأهم وضع حرية الشعوب وكرامتها فوق كل اعتبار.