“ليس بالصورة فقط”.. كفاح ما بقي من عائلة أبادها الاحتلال عام 2014

ينطوي الفيلم الوثائقي “ليس بالصورة فقط” (Not Just Your Picture) للمخرجَين “آن باك” و”درور دايان” على قصة مأساوية تركت تأثيرها المُفجع على الأخوين رمسيس (26 عامًا) وليلى (24 عامًا) إثر مقتل والدهما إبراهيم الكيلاني وزوجته الثانية وأطفاله الخمسة، إثر غارة جوية إسرائيلية على قطاع غزة في صيف عام 2014.

لم يعتمد المخرجان وكاتبا السيناريو على هذه القصة المؤلمة فقط، بل ذهبا أبعد من ذلك حينما فحصا سيرة إبراهيم الكيلاني، وتتبّعا أحلامه وطموحاته الشخصية المبكرة، فهو ينتمي إلى أسرة كادحة ادّخرت كل ما حصلت عليه بكد اليمين وعرق الجبين، لكي تبعث ابنها إلى ألمانيا، ليدرس الاختصاص الذي أحبّه وتعلّق به منذ طفولته ويفاعته الأولى.

يشيد أساتذة إبراهيم وزملاؤه في العمل بأنه تجاوز كثيرا من الصعوبات، وبذل جهدا كبيرا في تعلّم اللغة الألمانية ودراسة الهندسة المعمارية التي أحبّها وكرّس حياته الشخصية لها، ولعل قصته العاطفية لا تختلف عن كثير من الطلاب العرب الذين يسافرون بهدف الدراسة والتحصيل العلمي، ثم يجدون أنفسهم غارقين في قصص حُب قد ينجح بعضها، ويفشل البعض الآخر، كما حصل لإبراهيم الكيلاني وزوجته الألمانية التي أنجبت له رمسيس (رمزي) وليلى.

ومع ذلك فقد اختلف العاشقان المُحبّان، وذهب كل منهما في سبيله، ولم يكتفِ إبراهيم بالانفصال فقط، بل عاد إلى قطاع غزّة وتزوج معلمة فلسطينية أنجبت له خمسة أولاد، ولكن كان القدر يقف لهم جميعا بالمرصاد، فأصابتهم غارة جوية إسرائيلية قتلتهم جميعا، وقوّضت عليهم أركان المنزل الذي يعيشون فيه، ويحتمون به من عوادي الدهر ونوائبه.

“إبراهيم الكيلاني ثعلب”.. رحلة اكتشاف الجذور العائلية والثقافية

يسترجع رمسيس وليلى الأيام الأخيرة التي قضاها والدهما إبراهيم الكيلاني في مدينة زيغن الألمانية، قبل أن يعقد العزم على الرحيل ومغادرة البلد الذي درس في جامعته، وأحب فيه صديقته الألمانية، ولم يخض الفيلم في أسباب انفصالهما ودوافعه الثقافية والاجتماعية والنفسية والحضارية، وإنما اكتفيا بتسريب جملة واحدة مفادها “أنّ إبراهيم الكيلاني ثعلب، وله قدرة على توقع ما سوف يحدث لاحقًا” وتجمع كلمة “ثعلب” ما بين الحيلة والتربّص والدهاء.

لكن رأي الأم لم يترك تأثيرا سلبيا عميقا على ذهنية رمسيس وليلى، بل لعل العكس هو الصحيح، فقد قرّر الأخوان المضي في اكتشاف جذورهما العائلية والاجتماعية والثقافية، فعادت ليلى إلى قطاع غزّة، وبدأ رمسيس جولة في عدد من البلدان الأوروبية، ليشرح محنة والده وموتهم الجماعي بغارة جوية إسرائيلية محقت 11 مواطنا من عائلتي الكيلاني والدرباس، وجعلتهم أثرًا بعد عين.

وسوف يبذل رمسيس قصارى جهده، لمقاضاة الحكومة الإسرائيلية وبقية الأطراف المسؤولة عن هذه الحادثة المروّعة التي لم تغادر الذاكرة الجمعية لعائلة الكيلاني، وعلى رأسهم الأبناء والإخوة والأقرباء الذين يعرفونه عن كثب.

مأساة العائلة.. حقيقة دامغة نزلت نزول الصاعقة

تستعيد ليلى رسائل الوالد وذكرياته المصورة، فتفيدنا ببعض المعلومات عن شخصيته وطريقة تفكيره وتماهيه مع أسرتَيه الألمانية والفلسطينية، وإن اختلفت قليلا أفكارهم ورؤاهم ومقارباتهم للقضية الفلسطينية وطريقة التعاطي معها، فالذين يسكنون في قطاع غزة يتمنون السفر إلى ألمانيا، والمقيمون في ألمانيا يتطلعون بعين المحبة والتلهّف لزيارة القطاع والتعرّف على جذورهم ومنابعهم الاجتماعية والفكرية والثقافية.

صالح الكيلاني، عم رمسيس وليلى يتمنى لقاء أبناء أخيه الذي قُتل هو وعائلته

لا يتأخر المُخرجان في زج المتلقّين بالحدث الصادم، أي مقتل الأب وزوجته وأطفالهم الخمسة، وقد رأينا ليلى وهي تغالب دموعها تارة، وتنشج تارة أخرى، أثناء روايتها الطريقة التي نقلت فيها هذا الخبر الصاعق لأخيها رمسيس، وقد أصيب بالذهول، ولم يصدّق أنّ الجميع قد ماتوا، وأن عليه أن يتقبّل هذه الحقيقة الدامغة التي نزلت عليه نزول الصاعقة.

ولا شك أنّ الأصدقاء والمعارف قد بعثوا له برسائل التعزية والمواساة بهذا المُصاب الجلل، لكن غالبية الجهات كانت مقصّرة بشكل كبير، لدرجة أن الرسالة الوحيدة التي وصلته قد جاءت من موظفة في البعثة الدبلوماسية في رام الله، تعزي فيها رمسيس الكيلاني بمقتل أفراد عائلته السبعة، وتشعر بالحزن الممضّ لهذا الفقدان الكبير، وتتمنى أن يصل الطرفان إلى وقف لإطلاق النار في أسرع وقت ممكن.

مقاضاة جيش الاحتلال.. بداية معركة قضائية شاقة

تتفرّع قصة الفيلم إلى شقّين أساسيين، يدور الأول منهما في غزة، والثاني في ألمانيا، ولا ينسى المخرجان أن يقاربا بين الماضي والحاضر، مع التركيز على رغبة العائلة في لمّ الشمل، ومعاقبة المتورطين في جريمة القتل الجماعي التي ارتكبها طيّار إسرائيلي بدم بارد، ولا يجد ضيرا في أن يضرب بالقوانين والأعراف الدولية عرض الحائط.

لم يسبق لرمسيس أن درس الكيفية التي يمكن أن يقاضي بها دولة مُحتلة ومارقة مثل إسرائيل، ولكنه توصّل -من خلال نصائح المختصين في الشؤون القانونية- إلى مقاضاة الجيش الإسرائيلي، مع أن الحكومة الإسرائيلية لا تسمح حتى للدول الكبرى أن تتدخل في القضايا الأمنية والعسكرية، وتراها شأنا إسرائيليا محضا تغلّفه على الدوام بالسريّة والكتمان.

ولا تملك ألمانيا إلا أن تتبع القنوات الرسمية المتشددة في الأعمّ الأغلب، ولا تسمح بوجود ثغرة يمكن أن يتسلل من خلالها المحامي لإدانة طيّار، حتى وإن أباد قرية أو حيا كاملا في مدينة فلسطينية، بحجة القضاء على الإرهاب، أو الدفاع عن النفس، أو ما إلى ذلك من أعذار وحجج واهية. كما أنّ كثيرا من القضايا يأخذ في العادة وقتا طويلا، ويستغرق بعضها عقودا من السنوات.

رحلة الضفة.. فلسطينية تشد الرحال إلى الوطن الأم

لم تبنِ ليلى صورة فلسطين في ذهنها برأي العين، بل من القصص التي سمعتها من أبيها، فكان ضروريا أن تذهب إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وترى بنفسها رأي العين، لأنّ الخبر ليس كالمعاينة، وقد صادف أن تشارك في برنامج متبادل بين جامعتي زيغن وبيرزيت، وجرّبت الحياة الفلسطينية بنفسها، فمشت في الشوارع وتبضّعت من محلاتها، وسمعت أصوات اليهود المتطرفين فيها.

العم صالح يتصل بابن أخيه رمسيس ويدعوه لزيارة غزة

ولا شكّ في أنّ مقتل والدها بهذه الطريقة البشعة مع أفراد أسرته قد غيّرها كثيرا وحفّزها لأن تتعاطى أكثر مع الجانب السياسي، بل إنها أصبحت مُولعة بالسياسة، وقد بدأت تأخذ حيّزًا أكبر من اهتمامها.

وفي أحد الأيام زارت شارع الشهداء مع مجموعة طلابية، وهو شارع يعج بالمحلات التجارية، وتسكن فيه عائلات من المستوطنين، وقد أراد الشباب أن يروا الجامع، لكن الجنود منعوهم ولم يسمحوا لهم بالدخول، في حين كان شخص إسرائيلي متطرف يطالب بطردهم من المكان لأنهم “مثيرون للشغب” من وجهة نظره المتطرفة.

كان بإمكان ليلى المولودة في زيغن أن تدخل إلى هذا المكان، لكنها عزفت عن فكرة الدخول، طالما أنّ الجنود لا يسمحون لأصدقائها بالتجوال في الشارع أو دخول المسجد.

عائلة الكيلاني.. ذكريات تنطق بالألم والمحنة

يتوقف المخرجان عند عائلة صالح الكيلاني، شقيق إبراهيم الذي كان يتمنى أن يصبح مهندسا معماريا، وحقق بفضل كفاح أسرته هذا الحلم، ويأخذ الفيلم منحى الاستذكارات، حين يسترجع صالح ذكريات أخيه الذي قرر الانتقال إلى غزة، لكونها منطقة آمنة، لكنه لقي حتفه فيها.

الملصق الخاص بالفيلم

وكان قد اشترى قطعة أرض زراعية مجاورة لمنزله وقريبة من البحر، لأنه كان يفكر بسعادة أبنائه المقيمين في ألمانيا والموجودين في غزة على حد سواء، لكنه ترك الجمل بما حمل، وغادر إلى دار الأبدية بكفن لا جيوب فيه.

لم يقتصر الأمر على صالح فقط، فثمة أخت لإبراهيم عزفت عن المجيء إلى المزرعة، لأنها تُذكِّرها بأخيها الراحل، لكنها بعد سنتين من المحنة وجدت نفسها تجني غِلّة الأشجار المثمرة.

قراءة الأسماء السبعة.. إحياء مأساة عائلة قُتلت غيلةً في غزة

يتواصل صالح مع أبناء أخيه عبر الإنترنت، ويتجاذب معهم أطراف أحاديث متنوعة عن الصحة والأحوال والدراسة وفرص العمل، ويشجعهم على تعلّم اللغة العربية قدر المستطاع، ويتمنى اللقاء بهم حتى لو اضطر للذهاب مشيا على الأقدام، وهو لا يلوم إسرائيل على ما تفعله بالفلسطينيين، وإنما يلوم العالم الغربي، ويتمنى من الله أن يجمع شملهم من جديد، مثلما كان يلتقي أخاه بين آونة وأخرى، أو كلّما سمحت ظروف العمل والغربة.

يقوم رمزي بقراءة الأسماء السبعة لأفراد عائلته الذين قُتلوا غيلةً في مدينة غزة، وهو جزء من نشاطه المتعلّق بحقوق الإنسان، ومقاضاة الحكومة الإسرائيلية، ومعاقبة القتلة والمجرمين الذين يقتلون الأبرياء بدم بارد.

ولكي يرسّخ المُخرجان أسماء الشهداء السبعة في ذاكرة المتلقين، يقوم رمسيس بقراءتها تباعا، وهم: (إبراهيم الكيلاني 54 سنة – تغريد الكيلاني 45 سنة – ريم الكيلاني 12 سنة – سوسن الكيلاني 11 سنة – ياسين الكيلاني 9 سنوات – ياسر الكيلاني 8 سنوات – إلياس الكيلاني 4 سنوات).

لقد روى رمسيس هذه القصة في عدة تجمعات ومحافل إنسانية، حتى بدت كأنها قصة موضوعية ابتعدت عن إطارها الذاتي وتماهت في ذاكرة الناس الجمعية، وهو لا يبتغي أكثر من معاقبة المجرمين، وتحقيق العدالة للفلسطينيين، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو إسرائيل نفسها أو في بلدان الشتات.

وبالمقابل فإن عمّه صالح الذي رسم شجرة العائلة بنفسه وبعثها لهم في ألمانيا، يذّكرهم بجذورهم العربية وتاريخهم الذي يستباح بين الآونة والأخرى على يد شذّاذ الآفاق الإسرائيليين، ويحثهم على التواصل وتعلّم لغة الآباء والأجداد، بجانب لغتهم الألمانية التي فُطروا عليها، لكي يعمِّقوا لغة التواصل التي تردم الهوّة بين الطرفين.

“أنا فلسطينية”.. ملامح ونفوس ممزقة بين حضارتين

لا تخبئ ليلى معاناتها فيما يتعلق بالهوية، فهي تنتمي إلى لغتين وثقافتين وحضارتين، وقد حملت ملامح والدها العربي، وتقاطيع وجهه السمراء، وشعره المجعّد الذي يحيلها إلى فلسطين أو الشرق الأوسط في أبعد تقدير، مع أنّ والدتها ألمانية.

كانت ليلى تتردد في القول إنها فلسطينية، ولكي تتفادى النقاشات المحتدمة كانت تقول: “أنا عربية” لكنها أدركت في داخلها أنّ من حقها أن تقول: “أنا فلسطينية” حينما يسأل البعض عن البلد الذي تنتمي إليه.

أمّا أخوها رمسيس ذو الميول اليساري، فقد كان ناشطا في الدفاع عن حقوق الإنسان، وانخرط في العمل السياسي إلى حد ما، وبذل جهدا كبيرا في مقاضاة الحكومة الإسرائيلية، لكن السلطات الإسرائيلية أغلقت القضية في عام 2015، كما رُفض الاستئناف في عام 2019.

لم تفتح ألمانيا تحقيقا في القضية بعد ذلك، وأمّا رمسيس وليلى فلم يستطيعا زيارة عائلتهم المفجوعة، أو حتى النظر إلى قبور أحبائهم في قطاع غزة المحاصر منذ سنوات كثيرة.

“آن باك”.. مخرجة تعمقت في جراح فلسطين

ولدت “آن باك” عام 1976، وهي مخرجة ومنتجة ومصورة فيديو حائزة على جوائز، وقد عاشت وعملت في فلسطين لأكثر من عقد من الزمن، وعُرضت أعمالها في جميع أنحاء العالم، ونشرت في وسائل الإعلام الدولية المختلفة.

شاركت “آن باك” في إخراج الفيلم القصير “حاجز بيت لحم، الساعة 4 صباحًا” (Bethlehem Checkpoint, 4am) عام 2007، وشاركت في إخراج وتصوير جزء من الفيلم القصير “العودة إلى سيفا” (Return to Seifa) عام 2015. ومن أفلامها أيضا “غزة جرح غائر” (Gaza: A Gaping Wound) عام 2016، و “العائلات المطموسة” (Obliterated Families) عام 2016.

أما “درور دايان” فهو مخرج أفلام وثائقية ومصور سينمائي ومونتير، وقد درس التصوير السينمائي في جامعة “كونراد وولف” للسينما في ألمانيا، وعمل في عدد من الإنتاجات المتنوعة بأدوار مختلفة، معظمها في قسم الكاميرا.