“رمضان في دكار”.. أطعمة شهية وطقوس روحانية تجمع ألوان السنغال

يعد السنغال بلدا استثنائيا إلى حد كبير، فموقعه الجغرافي جعله بلدا لتلاقي الحضارات من جهة، كما أن سكانه لهم علاقات ضاربة في القدم مع العالم الخارجي. فهو بوابة أفريقيا إلى الأمريكيتين عبر الأطلسي، وله علاقات متميزة مع محيطه العربي والإسلامي، وارتبط في فترة حالكة السواد مع أوروبا، ولا سيما فرنسا بالتحديد أثناء حقبة الاحتلال.

وكانت كاميرا الجزيرة الوثائقية قد زارت العاصمة دكار في شهر رمضان المبارك، وأنتجت فيلما ضمن سلسلة “رمضان ومدينة”، سجلت فيه يوميات أهل دكار مع الشهر الكريم، وعاداتهم وتقاليدهم في استقبال هذا الشهر المقدس، في العبادة والروحانيات، كما في العمل والطعام. وعرضت الفيلم على شاشتها بعنوان “رمضان في دكار”.

السنغال.. بلد ذو جذور ضاربة في الإسلام

يدين غالبية أهل السنغال بالدين الإسلامي، ولشهر رمضان عندهم مكانة متميزة وطقوس خاصة. يقول “ماسيك ديوب الحدجي”، وهو مسؤول العلاقات الخارجية في أحد الفنادق: يعلم الجميع أن السنغال هي أرض الإسلام، فنحن ملتزمون بالدين الإسلامي، حيث يبدأ الناس في الاستيقاظ في الساعة الثالثة تقريبا، وتُعد النساء السحور، وبعد أداء صلاة الفجر نعود إلى البيت.

مسلمو السنغال يؤدون صلاة التراويح في المسجد

ثم يقول: في الصباح يتوجه الناس إلى مقرات عملهم، أما أنا فأتوجه إلى العمل بحافلة النقل العام، فمقر عملي عبارة عن فندق أتابع فيه مهامي مسؤولا عن العلاقات الخارجية، ويمكنني القول إنني سفير الفندق، ومهمتي هي التواصل مع الزبائن، وأحمد الله على هذا العمل، فأنا في هذه المهمة منذ 27 سنة.

مسلمات سنغاليات يحضرن صلاة التراويح في رمضان

وتقول “بيندا مبو”، وهي مؤرخة وأستاذة بكلية الآداب في دكار: السنغال بلد جذوره ضاربة في الإسلام، ويحرص أهله على أداء شعائر الإسلام بصدق، أما شهر رمضان فهو من جهةٍ شهرٌ مقدس لأداء الشعائر الدينية، وهو أيضا شهر تعم فيه الألفة بشكل كبير، وهو تقليد ديني متميز، ولكن بلمسة سنغالية خاصة.

“تيبو جين”.. طعام الصائمين الشهي في ليالي رمضان

تحرص “عايدة مبوب” زوجة “ماسيك” على الذهاب إلى السوق لشراء حاجات العائلة من الطعام. وتقول: خلال شهر رمضان لا أقصد السوق يوميا، بل أشتري الخضراوات لعشرة أيام، وأشتري السمك وأقطعه لأحفظه في الثلاجة.

السنغال، دولة أفريقية ملسمة

ففي شهر رمضان يصبح الطلب على الأسماك أقوى من العرض، فالناس في السنغال يحبون تناول وجبة الأرز مع السمك بعد يوم طويل من الصيام، ويفضلون السمك ذا الحجم الكبير.

تعد زوجة “ماسيك” “تيبو جين” للعشاء، وهي وجبة الأرز والسمك، فتتوجه إلى السوق لجلب سمك اليايبوي والأرز، وتشتري الخضار كالكرنب والجزر والباذنجان والطماطم، وأيضا الحلزون والسمك المبخر وأوراق البيسابي والزيت من سوق غول تابي.

تجارة الأسماك.. طلب متزايد في رمضان يرفع الأسعار

يبدأ صيادو الأسماك عملهم في السادسة صباحا، ثم يعودون حوالي التاسعة مساء، أما في شهر رمضان فيعودون قبل السادسة مساء، ويعاني الباعة المحليون من غلاء أسعار الأسماك ذات الحجم الكبير، إذ يزداد الطلب عليها في شهر رمضان، وتتوقف حركة السوق عند الخامسة والنصف أو السادسة مساء في رمضان.

سوق السمك يزدهر في شهر رمضان لرغبة الناس بوجبة السمك على الإفطار

ويفضل أكثر الناس شراء الأسماك المحلية، وهناك أسماك تصدر إلى إيطاليا واليونان وتركيا وفرنسا ولبنان، وهي الأسماك التي تقتنيها المصانع لتعليبها وإعادة بيعها، وتكون أسعارها مرتفعة جدا، حيث يباع الكيلوغرام الواحد من سمك “الراسكاس” بسعر 5500 فرنك سنغالي (حوالي 9 دولارات أمريكية)، ويباع سمك “سان مارون” بسعر 1500 فرنك للكيلوغرام.

عايدة مبوب تحضر الـ”تبوديين”، وهي وجبة الأرز والسمك

ويقع سوق كارمل في قلب دكار، وهو مختلف عن الأسواق الأخرى، ويطلق عليه “سوق الميسورين”، إذ يكثر فيه الزبائن من النواب وأصحاب المصالح، ويأتيه الناس للتسوق صباحا ومساء، وترتفع الأسعار بشكل ملحوظ في رمضان بسبب نشاط حركة السوق.

جزيرة غوري.. اسم عريق ارتبط بجرائم العبودية

ينحدر سكان السنغال من أعراق متعددة شتى. تقول “بيندا مبو” وهي مؤرخة وأستاذة بكلية الآداب في دكار: يشكل الولوفيون 40% على الأقل من سكان السنغال، ويليهم عرق السيرير، وهي الأصل الذي ينتمي إليه “ليوبارد سنغور” أول رئيس للسنغال، وتصل نسبتهم إلى حوالي 17%، أما الهالوبولار فيشكلون 10% من السكان، وهم أول المعتنقين للإسلام.

ويتوزع باقي السكان إلى أعراق في الجنوب منها “ديولا” و”بالانت” و”ماندين” ومنها أيضا “السوننكي” الذين يشكلون مجموعة مهمة. أما ما يجعل الأمور أكثر سهولة فهي تلك الوحدة التي تأخذ منطلقها من الدين الإسلامي، فـ94% من السكان مسلمون، وتجمع معظمهم اللهجة الولوفية التي يتواصلون بها، وهذا أيضا ما يشكل خصوصية السنغال.

سكان السنغال ينحدرون من إثنيات عرقية متعددة، ويتحدث أكثرهم اللهجة الولوفية

وتتحدث “بيندا مبو” عن جزيرة “غوري”، وهي ذات بُعد رمزي في الذهنية السنغالية، فتقول: جزيرة غوري هي أرض مهمة، وتردد اسمها كثيرا في أحداث التاريخ، فهي رمز للتقاطع التجاري بين أوروبا وأفريقيا وأمريكا. وتعني جزيرة غوري بالهولندية الجولة الجميلة، حيث يتزود المسافرون بالماء والمؤونة قبل المغادرة.

ويكثر الجدل حول ما إذا كانت الجزيرة منطلقا لتجارة العبيد، وكان البابا “جون بول الثاني” قد زارها خلال ولايته، فطلب العفو عن خطيئة تجارة العبيد. أما اليوم “فعلينا استخدام اسم الجزيرة لتذكير الإنسانية أن تجارة العبيد جريمة إنسانية، وأن الأفارقة قد دفعوا ثمنا باهظا خلال زمن العبودية، واليوم جعلناها أرضا للمصالحة مع بقية العالم” على حد تعبير “بيندا مبو”.

نصب المقاتلين.. تذكير للمستعمِر بدور الجندي السنغالي

في دكار أسس الفرنسيون المعهد الفرنسي لأفريقيا السوداء، فكان مركزا للبحث وللحصول على معرفة جيدة لأفريقيا، وأنجزوا كثيرا من الأبحاث، واستثمروا القطع الأثرية التي جمعوها في تأسيس متحف الفن الأفريقي، وهو متحف تاريخي وإثنولوجي بنفس الوقت.

نصب تذكاري لجندي فرنسي وآخر أفريقي يجسد الأخوّة بين المقاتلين الأفارقة ورفاقهم الفرنسيين

وفي وسط دكار يرتفع نصب تذكاري، يمثل تجسيدا لجندي فرنسي وآخر أفريقي، وقد وضع للاحتفال بالأخوّة بين المقاتلين الأفارقة ورفاقهم الفرنسيين، وقد اقتلع هذا النصب بعض الوقت، لأنه يذكر السنغاليين بمرحلة تاريخية أرادوا نسيانها، ثم أعيد لتذكير فرنسا بالدور الذي لعبه الأفارقة لتحريرها، لا سيما خلال الحربين العالميتين، وللمساواة بين محاربي السنغال القدامى وزملائهم الذين بقوا في فرنسا.

تقول “بيندا مبو”: السنغال الذي ترونه اليوم نتاج المؤسسة الاستعمارية الفرنسية، والمباني الهندسية الحديثة تدل على الثقافة الاستعمارية وليست السنغالية الأفريقية، ولكن مع تلك الواجهة العصرية فإن السنغالي متشبث بثقافته.

رمضان في دكار.. شهر الموعظة والذكر وقراءة القراءة

رمضان في دكار هو شهر الموعظة والتعليم. يقول “باباكار هام”، إمام مسجد كامبرين: نقوم بالوعظ والإرشاد وتفسير القرآن وشرح الأحاديث النبوية الشريفة في مساجد عدة في داكار، وفي هذا المسجد نفتح باب النقاش، كما نقوم بالوعظ والإرشاد قبل أداء الصلاة، وشرح ما يجب القيام به في الشهر العظيم لأداء الشعائر الدينية على أحسن وجه.

المسلمون في السنغال يتزينون بالملابس البيضاء الزاهية لحضور خطبة وصلاة الجمعة

ويقول: نهدف إلى تجنيب الصائم الوقوع في المعصية، ونفضل إعطاء الدروس الدينية قبل الصلاة، لتقريب وإرشاد المصلين إلى الله تعالى ونهيهم عن المنكر وبعدها نقيم الصلاة، وفي شهر رمضان تقام عشرات الندوات، منها ما يكون في داكار، ويكون موضوعها الرئيس شهر رمضان.

وغالبا ما يتزين المسلمون بالملابس البيضاء الزاهية في يوم الجمعة تعظيما له، ويحرصون على الذكر والقراءة الجماعية للقرآن، حتى تمتلئ المساجد بالمصلين في جميع الأوقات.

ألوان السنغال.. تنوع الأعراق والمدارس الصوفية والجاليات

تتحدث الأستاذة الجامعية “بيندا مبو” عن الأعراق في المجتمع السنغالي، فتقول: لم يشهد السنغال مشاكل الأعراق التي شهدتها دول أخرى، وكان للإسلام دور مهم في ذلك، لأنه يصنع هوية مجتمعية مشتركة، كما اعتمد السنغاليون لغة الولوف لمزيد من التوحد، فنحن نتحدث اليوم عن ثقافة إسلامية ولوفية، حيث اعتمد الناس نمط التنظيم التقليدي كما في الزوايا والجمعيات الدينية.

أحمد لحلو، مغربي مقيم في السنغال

وعن الطرق الصوفية تقول “بيندا”: يوجد عدد مهم من التيجانيين الذين أتوا من الشمال، ولكن الأقدم هم القادرية الذين جاءوا من تمبوكتو في القرن الـ18، وهم أقلية من بينهم الموريتانيون المندمجون في السنغال بشكل أساسي، ثم هناك “الموريديون” في القرى، وهم الأكثر ديناميكية على المستوى الاقتصادي، ونجدهم اليوم في الهجرة والقطاع غير المنظم. أما “سان لوي” فهي المدينة الأقرب لمدينة فاس في المغرب، فأغلب المغاربة القادمين منها كوّنوا قطبا للجالية المغربية في السنغال.

يقول أحمد لحلو، وهو مغربي مقيم في السنغال: أقيم بالسنغال منذ 15 سنة، ونحن المغاربة نقوم بطقوس رمضان في السنغال كما نقوم بها تماما في المغرب، ولدينا علاقة طيبة مع السنغاليين والحمد لله، ويطلبون منا في كثير من الأحيان أن نؤمهم في الصلاة في الزوايا والمساجد.

سليمان جفال، لبناني مقيم في السنغال

ويقول سليمان جفال، وهو لبناني مقيم بدكار: أقيم هنا منذ 7 سنوات، وقد جاء جدّي إلى هنا في 1924، ولا تشبه تقاليد السنغاليين تقاليدنا في رمضان، ولكن تربطنا بهم علاقات جيدة، فنقدم وجبات “تيبو جين” و”تيبو جين باب”، وهي أكلات سنغالية معروفة ويأتي السياح لتناولها، وقد عانينا -نحن الجالية اللبنانية- في البداية، أما اليوم فتتوفر المدارس العربية. وأما إفطارنا فهو مثل لبنان، فنتناول الحساء والفتوش والتبولة والبطاطا وغيرها من الأطعمة اللبنانية الرئيسية.

أصناف الطعام.. مطبخ يعج بالأطعمة الشهية في رمضان

نعود إلى “عايدة مبوب” التي تحضر لنا وجبة الأرز بالسمك، فتقول: أجهز السمك لطبخه، وأضعه في مرق مغلي من الماء والطماطم والبصل والحلزون، ثم أضيف أوراق البيساب وأطهو المزيج لمدة ساعة، ثم أضع إناء الكسكس المملوء بالأرز على بخار السمك والخضار ليمتص النكهة، ثم أطهوه في المرق وأضيف خليط البهارات.

على مائدة الإفطار، تجلس العائلة في السنغال حول وجبة الـ”تبوديين”

وتتحدث عايدة عن أصناف أخرى، فتقول: أعد وجبات متنوعة في رمضان، منها الأرز والسمك والياسا بالدجاج، أو السمك والأرز بالدجاج أو تيودوبام، أو صلصة المكعبات أو الصلصة بالمقرونة الصينية، فطهي الطعام من مهام النساء في السنغال، أما الرجال فيعملون لجلب المال وإحضار لوازم الطعام لزوجاتهم.

وعادة ما نكسر صيامنا بالتمر، ثم نحضر القهوة والحليب والخبز بالزبدة، ونصلي المغرب، ثم نتوجه إلى المسجد لنصلي نافلة التراويح، ثم نعود بعدها لتناول الوجبة الرئيسية.

بلد التعايش.. نموذج متوازن تتداخل فيه السياسة والدين

تتحدث الأستاذة الجامعية “بيندا مبو” عن التعايش في المجتمع السنغالي قائلة: من مميزات السنغال التعايش بين الأديان، ومع أن الرئيس “سنغور” كان مسيحيّا، فإنه يستمد سلطته من رجال الدين المسلمين، ومن الزوايا التي تتمتع بقوة حقيقية في السنغال، ونحن بلد مسلم ديمقراطي يدير تقاليده وعلاقاته الخارجية بشكل ممتاز، وعلينا المحافظة على هذا النموذج المتوازن بين الدين والسياسة.

في السنغال، تعقد حلقات ذكر في جميع الأوقات في شهر رمضان

ويتحدث الإعلامي سيدي الأمين عن البرامج الإذاعية في الشهر المبارك، فيقول: رمضان شهر مقدس في السنغال، فنحضّر البرامج الإذاعية الدينية والروحانية لبثها في شهر رمضان، مع تكثيف ما كنا نقوم به في غير رمضان، ونحن نتحدث عن فجر إسلامي جديد ينقل أفريقيا المتخلفة إلى التحضر والثقافة، وقد أقسم الله تعالى بالفجر دلالةً على أن هذا الفجر قادم لا محالة.

ويقول “ماسيك ديوب”، وهو مسؤول العلاقات الخارجية في أحد الفنادق: يحترم السنغاليون شهر رمضان، ويأملون فيه أن يستجيب الله لدعواتهم ويثبتهم على الطريق المستقيم، ويشكرون الله كثيرا، ويصلون على النبي ﷺ الذي جاء بالإسلام العظيم، ورمضان هو شهر التعاون بين السنغاليين، فالجميع يتوادون ويتعاونون على البر والدعوة إلى الطاعات والنهي عن المنكرات، والتذكير بأن الدعوات مستجابة في هذا الشهر العظيم.