“الحرية جميلة”.. حلم باللجوء يكسره اضطهاد الحكومة الأسترالية

عندما نشاهد هذا الفيلم الذي يروي محنة شابين من أكراد إيران داخل معسكرات الاعتقال الجماعي في أستراليا، ندرك أن الحياة على ما فيها من المحن والشقاء الإنساني، فيها ما يستحق أن نعيش من أجله، حتى لو كان مجرد فكرة.

إننا أمام تجربة إنسانية وفنية بديعة في أول أفلام المخرج الأسترالي “أنغوس ماكدونالد”، وهو فيلم “الحرية جميلة” (Freedom is Beautiful) الذي أخرجه عام 2023، ويروي قصة تفيض بالأسى والشجن، وبالحب والتسامح والرغبة في معانقة العالم.

إنها قصة فارهاد ومصطفى، وهما اثنان من شباب الأكراد الإيرانيين، فرا من الاضطهاد والحرمان والتعقب والتصفية الجسدية من جانب السلطات في إيران، وذهبا إلى أستراليا طلبا للجوء مع آلاف اللاجئين غيرهم، ولكنهما وجدا أنفسهما في وضع لا يختلف كثيرا عن الحال في إيران، بل ربما أكثر قسوة.

تجريم اللاجئين.. قانون اجتمعت الحكومة والمعارضة عليه

تعين على مصطفى وفرهاد قضاء ما يقرب من ثماني سنوات في ما يشبه المعتقلات، وكان الحراس والضباط ينهالون عليهم بكل أنواع الإهانات والضرب والحرمان حتى من الطعام، وإرغامهم على الجلوس ساعات طويلة على الأرض، لا يستطيعان النوم أو الحركة.

يروي مصطفى أنه ضُرب بقضيب حديدي حتى فقد قدرته على النطق، واقتضى ذلك أن يتدرب عدة سنوات، لاستعادة النطق بشكل جزئي فقط كما نرى. وكان الهدف من التنكيل والتعذيب أن يقبل بالإقرار أنه يرغب في العودة إلى بلده الأصلي الذي فر منه، حيث ينتظره السجن أو الموت!

يروي الفيلم أن أستراليا غيّرت القوانين التي كانت تسمح بقبول اللاجئين الهاربين من الاضطهاد والقمع والموت، ففي 2013 صدرت قوانين جديدة تصنف كل من يطأ بقدميه أرض أستراليا بلا تأشيرة رسمية، دخيلا متطفلا يعامل مجرما، أي شخصا غير مرغوب فيه.

ويستخدم الفيلم مقاطع كثيرة لمناقشات كانت تدور في مجلس الشعب، فقد اتحدت المعارضة مع الحكومة في تطبيق تلك السياسة المتشددة، وفي ذلك الوقت أعلن رئيس الوزراء الأسترالي “كيفن رود”، أن كل من يأتي إلى هذه البلاد من دون تأشيرة لن يسمح له بالاستقرار في أستراليا.

مأساة الأكراد.. محنة من أيام الحرب العراقية الإيرانية

كان عام 2013 عام وصول مصطفى وفارهاد إلى أستراليا، ويرويان أن السلطات كانت تمارس عليهما القمع والتخويف والتعذيب، مع آلاف غيرهم من طالبي اللجوء الذين كان يكتظ بهم مركز الاحتجاز الذي أرسلوا إليه في جزيرة مانوس، باتفاق خاص مع حكومة بابوا غينيا الجديدة التي تتبعها الجزيرة.

وكان الغرض من ذلك أن لا يسمح لطالبي اللجوء الذين يصلون إلى البلاد عن طريق البحر بالقوارب، أن يبقوا على الأراضي الأسترالية، على أن تتعقب سفنُ حراس السواحل القواربَ القادمة وتطردها بعيدا، أو تعتقل من فيها وتحتجزهم في تلك الجزيرة التي لا تخضع للقوانين الأسترالية.

لكن محنة الرجلين بدأت أولا في كردستان إيران، منذ أن كانا طفلين خلال الحرب الإيرانية العراقية، فقد شهدا مقتل والديهما وكثير من أفراد عائلتيهما، فالسلطات الإيرانية كانت تمارس التنكيل البشع بكل ضراوة وعنف على أبناء الأقلية الكردية، وكانت تتهمهم بالتعاون مع العراقيين، وفي الوقت نفسه كانت تدعم أكراد العراق وتحرضهم على مناوئة النظام العراقي، وكان العراق يفعل شيئا مماثلا ولكن على مستوى عكسي.

يتضمن الفيلم وثائق كثيرة تصور الفظائع التي تعرض لها الأكراد في كردستان الإيرانية، منها لقطة صادمة لمشانق يقول مصطفى إنها كانت على أعمدة مرتفعة، ويتذكر أنه شاهد رجالا متصلبين يتدلون منها، ولم يكن يفهم وقتها أنهم موتى، ماتوا شنقا. وكلها لقطات صورت سرا.

“أدنى من معاملة المجرمين”.. تسريبات تفضح السياسة الأسترالية

ينتقل الفيلم لتصوير فظائع ارتكبت داخل مركز الاحتجاز في مانوس، من خلال تصوير خفي بالهواتف المحمولة، وهي لقطات مسربة أثارت صدى كبيرا في الصحافة وأجهزة الإعلام، ودفعت النشطاء والجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان إلى تنظيم مظاهرات احتجاج توجهت إلى الجزيرة، وأحاطت بالمركز.

يقول فرهاد إن هذه الاحتجاجات والمعلومات المسربة عن الأساليب القاسية غير الإنسانية في معاملة طالبي اللجوء معاملةً “أدنى من معاملة المجرمين”، أدت فيما بعد إلى نقل اللاجئين لمركز آخر داخل الأراضي الأسترالية، ولكن بعد أربع سنوات، وعندما جاءت قوة من الحراس لنقل اللاجئين رفضوا الانصياع لأوامر الإخلاء، وكأنه نوع من إعلان التمرد ضد السلطة التي تقهرهم.

ويروي مصطفى أن السلطات قررت تركهم وحدهم وراء الأسلاك الشائكة، بلا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا أمن، وبعد ذلك جاءت شرطة بابوا غينيا الجديدة وقواتٌ من البحرية، ودمرت كل شيء، بما في ذلك خزانات الماء، إرغاما للجميع على المغادرة. وبعد 24 يوما، جاءت قوة انهالت على الجميع بالضرب، مع أنهم كانوا جالسين مسالمين على الأرض.

الحرية جميلة.. شاعرية تكسر الأسى وتتحدى القسوة

مع كل مشاهد القسوة والعنف، فإن ما يجعل هذا الفيلم يكتسب طابعا شعريا، هو تلك اللمسة الساحرة التي تتركز على صمود مصطفى وفارهاد، فترى كيف استطاعا الصمود في وجه كل هذا التعنت والشعور بالظلم واليأس التام الذي دفع كثيرين إلى الانتحار، في حوادث وصلت أنباؤها إلى الصحف، وأثارت ضجة كبيرة في تلك الفترة.

وسنعرف أن وراء بقائهما صامدَين نوع من التسامي الروحي عن طريق الفن، فمصطفى فنان تشكيلي يجيد الرسم، وفارهاد موسيقي يجيد العزف والتلحين والغناء، ومن الجوانب البديعة في الفيلم استخدام الأشعار والأغاني الكردية، والموسيقى التي تتردد على شريط الصوت، لتصنع خلفية رائعة للصورة.

الاستلهام من الطبيعة

العامل الثاني المهم الذي ساهم في إبقاء الأمل قائما لدى الاثنين هو تلك المساعدة الروحية والمادية التي كانا يتلقيانها باستمرار من الخارج، من جانب النشطاء الأستراليين والأشخاص العاديين الذين وصلت إليهم الأنباء عن محنتهما.

ومن هؤلاء “كريغ فوستر” الناشط في مجال حقوق الإنسان، وهو يظهر في الفيلم ويتحدث عن محنة طالبي اللجوء، ويقول إن المجتمع عندما يعاملهم بطريقة إنسانية، فإنه في هذه الحالة يكتسب إنسانيته. وهناك امرأة أسترالية ظلت تتبادل الرسائل مع فارهاد، إلى أن أُطلق سراحه والتقى بها لقاء عاطفيا مثيرا كما نرى في تصوير مباشر.

مصطفى الفنان التشكيلي مع أحد الداعمين

والحقيقة أن الفن والموسيقى والشعر، كلها أدوات تعبير فنية استخدمها الاثنان من ناحية لنقل مشاعر الاحتجاج على ممارسات السلطات تجاه اللاجئين الأبرياء، ومن ناحية أخرى للتعبير عن انتمائهم للعالم وللحياة، ومد أيديهم إلى الناس خارج الأسوار، ومعانقة الجميع والتعبير عن الحب والرغبة في العيش، مع أن كل ما كان يحيط بهما من مظاهر تدعو إلى الإحباط واليأس.

من هنا فالفيلم يعد أيضا احتفاء بقيمة الفن وقوته وقدرته على تنقية الروح، والإبقاء على الأمل.

حظر اللجوء.. قوانين مريبة تسنّها الدول الكبرى

إن لحظة خروج فارهاد ومصطفى من الاحتجاز إلى الحرية، ومساهمتهما بفعالية من خلال العمل الحقيقي على الأرض الأسترالية، لَهو أجمل احتفال بقيمة الفن والحرية، ومع ذلك فقد دفعتهما التجربة المريرة إلى مواصلة النضال السلمي، بتنظيم المظاهرات التي تطالب بالعدالة لطالبي اللجوء، وبحقهم في الحياة.

تخبرنا الكتابة التي تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم أنه بعد 11 عاما، لا يزال هناك آلاف من اللاجئين وطالبي اللجوء محاصرين خارج الأراضي الأسترالية، أي في مراكز الاحتجاز، في حين لا يزال آلاف آخرون قابعين في مراكز الاحتجاز القائمة على الأراضي الأسترالية، يعيشون حالة انتظار وترقب وقلق.

وقد أصدرت الحكومة البريطانية تشريعات تحظر منح حق اللجوء للقادمين عن طريق القوارب، ثم عقدت اتفاقا مع حكومة رواندا لترحيلهم إلى هناك، ليبقوا خارج منظومة الحقوق المطبقة في بريطانيا، وهي مشكلة تواجه كثيرا من التعقيدات في الوقت الحالي، بسبب أن المحكمة البريطانية العليا رفضت السماح للحكومة بتمرير هذا التشريع رفضا متكررا.

إن فيلم “الحرية جميلة” هو صرخة احتجاج ضد أنظمة ظالمة، تمارس التفرقة والاضطهاد، واحتفال كبير بالفن والشعر والحرية.