“بعد حادثة الجسر”.. صراع بين ماضي وحاضر امرأة إيطالية ثكلى

في الثالث من يونيو/ حزيران 2017، طالعتنا وسائل الإعلام العالمية بأنباء تُفيد بوقوع حادث دهس في منتصف لندن، خبر قد يبدو اعتياديا ومُكررا، لكن الأخبار الواردة تباعا، أوضحت الصورة الضبابية شيئا فشيئا، فأعداد الضحايا المُتزايدة تُفصح عن ما هو أكبر، وهنا أصبحت المُصارحة شرا لا بد منه، وقد كشفت أن الحادثة هجوم مُسبق الرصد والتدبير.

وعلى أثر هذا الحادث، أعلنت الشرطة البريطانية مقتل المُنفذين الثلاثة أثناء الاشتباك معهم، فيا تُرى من هؤلاء؟

من هذا الخيط، ينطلق الفيلم الوثائقي الإيطالي “بعد حادثة الجسر” (After the Bridge)، الذي أُنتج عام 2023، بمُشاركة إنتاجية من قناة الجزيرة الوثائقية، وكان عرضه العالمي الأول في مهرجان “شيفيلد” للأفلام الوثائقية، وهو ثاني تعاون إخراجي بين الإيطاليين “دافيد ريتزو” و”مارتسيا توسكانو”، وهما مهمومان في موضوعات أفلامهما بالتقاط النماذج الإنسانية ذات الأبعاد المُركبة، مما يسمح بتقديم رؤية أكثر اتساعا، لما يدور في وشائج النفس البشرية.

“بعد حادثة الجسر”.. رحلة إنسانية للبحث في الشاطئ الآخر

أثبتت التحقيقات بعد الحادث تورط ثلاثة شبان بريطانيين ذوي أصول عربية وإسلامية في التخطيط والتنفيذ، ويكشف ذلك عن أزمة مُستترة في المُجتمع الإنجليزي، لكن ما استدعى النظر بروية وإمعان، هو صعود اسم يوسف زغبة، وهو المُنفذ الثالث للعملية، فقد كشفت التحريات الأولية أنه يحمل الجنسيتين المغربية والإيطالية، نظرا لانتمائه إلى أب مغربي وأم إيطالية اعتنقت الإسلام فور زواجها.

فالزاوية المألوفة في تناول هذه النوعية من الأفلام، تنحصر في إبراز الصورة النمطية للقتلى والضحايا، لكن نادرا ما تنتقل النظرة إلى الجانب الآخر، أي الفاعل لا المفعول به، وتُشكل هذه الرؤية المُغايرة جوهر الفيلم ومضمون هويته الفكرية، فالفيلم يُعنى بالتعبير الصريح عن المشاعر المُختلطة لأقارب المُنفذ، فإذا كان أهالي الضحايا يُعانون آلام الفقد والرحيل، فأولئك على الشاطئ المُقابل تفيض صدورهم بالحزن الراكد الباحث عن سبيل للتدفق بعيدا.

من هذه الأرضية الشائكة والحساسة، يُقدم الفيلم سرديته الخاصة عن “فاليريا رفائيل” أو خديجة والدة يوسف المغربي، فيتوغل في حياتها المعاصرة والماضية، باعثا من بين طيات هذه الأزمنة المُتلاحقة أسئلة شتى، تنوعت اتجاهات أفكارها ما بين المُباشر اليسير التلقي، والأعمق الذي يستدعي القراءة والتأويل، فالمستوى الأول يقع في دائرة المسؤولية الأبوية تجاه الأبناء، أما ما يرتكن بين السطور، فيُمكن حصره في إطار النظرة المُتأملة للحياة، بكل ما بها من سلبيات وأخطاء، تستدعي الغفران أو المُحاسبة.

“أول مرة رأيتها صرختُ: أفريقيا”.. بدايات البطلة مع الآخر

في لقطة مقربة تكشف عن ملامح الوجه المُتغضن بخطوط الزمن، نرى وجه امرأة تواجه عيناها الكاميرا بثبات، تبدأ سردها المتمهل إيقاعه، قائلة: إذا افترضنا أن أفريقيا مُحاطة بالبحر، فيُمكننا أن نقول إنها جزيرة كبيرة، أول مرة رأيتها صرختُ: أفريقيا. لكنهم قالوا لي إن هذا المغرب، وليس أفريقيا.

فاليريا بعد تحولها إلى الإسلام مع أولادها.

بهذا المشهد الذي سيصبح أول لقاءاتنا بـ”فاليريا” الإيطالية المنشأ، المغربية الهوى والإقامة، يبدأ الفيلم بأسلوب مسرحي تقليدي يصاحبنا طوال مدة الفيلم (65 دقيقة)، ومع أنه قد يبدو قصيرا زمنيا، فإنه بالغ الاتساع، بما يضمره من أزمنة سابقة ومُعاصرة، وكل منها يتضمن كثيرا من التأملات، تصبغ السرد بلمسة فلسفية لا يُخطئ مذاقها الذهني.

فقد قدم الفيلم أحداثه قائمة على ما يُسمى في الأدب العربي بالسير والتراجم التي تستند إلى البوح الذاتي، سنرافق فيه هذه المرأة المكلومة بفقدان ابنها، والمُحاصرة بطوفان الأسئلة النفسية التي لم تصل لإجابتها الشافية بعد، نُتابع مسار حياتها بداية من لحظتها الراهنة، بحثا عن ما وصلت إليه رحلة عُمرها الممتدة.

ثم يعاود السرد طرق أبواب الماضي، لإزاحة اللثام عن ما شاب حياتها من وعورات ونتوءات عابرة، وفيما بعد يرتد إلى الحاضر مرة أخرى، وهكذا في تطبيق عملي لأسلوب السرد المتعرج، المُعتمد في نسيج بنائه على الشذرات، قطعة من الزمن الحالي مع مثيلتها من السابق.

وحتى يكتمل البناء السردي، يلجأ الفيلم إلى الأسلوب الأرسطي (نسبة إلى أرسطو)، أسلوب البداية والوسط والنهاية، فكل من الفصول الثلاثة يُسلم الآخر في متوالية مُحكمة الصياغة ومشدودة الإيقاع بدرجة ملحوظة، في تداخل واندماج بين شريط الصوت والصورة، فتُطالعنا “فاليريا” على مدار السرد وعلى مراحل زمنية تتنوع بين الحاضر بمشاهده الواقعية الحية، والماضي بأرشيفه الفوتوغرافي والسينمائي الثري.

فاليريا أمام قبر أبنها يوسف تقرأ القرآن.

أيام المغرب.. حياة في الحضن الإسلامي مدة 20 عاما

بعد المقطع الافتتاحي الذي نرى فيه “فاليريا” وهي تسرد بدء علاقتها بهويتها الجديدة العربية الإسلامية، تصحبنا الكاميرا بجولة حرة في حياتها الحالية أو بالأحرى وقت التصوير، وهو الزمن المدون على الشاشة “بولونيا 2018”.

فقد جعل السيناريو أحداثه تتوالى وفق مصفوفة زمنية ومكانية مُتعرجة، تبدأ من إيطاليا موطن البطلة الأصلي، ثم سينطلق إلى العاصمة البريطانية لندن، منبع أزمة الفيلم وسبب وجوده، ثم سيعود إلى مدينة فاس شمال المغرب، حيث المدينة التي خلعت فيها الراوية رداءها الغربي، وتدثرت بشرنقتها العربية.

ببضعة مشاهد مُتتابعة، تضعنا الكاميرا أمام حياة “فاليريا”، فنراها أثناء اعتنائها الدقيق برفقائها من القطط حديثي الولادة، ثم تختلس الكاميرا النظرات نحوها وهي تصلي بخشوع، ونصل لذروة هذا التتابع عند وصولنا إلى المركز الإسلامي، فتقترب العدسات من وجه مُعلمة تلاوة القرآن الكريم، وهي “فاليريا” نفسها.

فاليريا تسير برفقة ذاتها المُعذبة بين الغابات والمناطق الطبيعية.

وعلى الناحية الأخرى يرافقنا الصوت المُعتاد للبطلة وهي تروي ما تيسر ذكره، عن قرارها المُفاجئ بالاتجاه شمالا إلى إيطاليا، بعد أن قضت أكثر من 20 عاما من عمرها بالمغرب، فتُفاجئنا بأن زوجها باغتها بالزواج من امرأة أخرى، وحينها حزمت ما بقي لها من ذكرى، وعادت إلى وطنها الذي تركته طواعية في السابق.

وهكذا يُدخلنا الفيلم بهذا التمهيد المبدئي في الفصل الأول من الحكاية، ويقوم على التعريف بالشخصية الرئيسية، وكأن الفيلم في هذا الشق يُحرر عقدا مع المتفرج، يتعهد فيه الطرف الأول ببلورة الحكاية في إطار قصصي مُحكم السرد، في مقابل التزام الطرف الثاني بالمشاهدة والإنصات لأطراف القصة المُتشابكة المصائر، وكأنها إعادة تدوير حداثي لفكرة شهرزاد ودروبها القصصية التي لا تنتهي، ولأن لكل حكاية ذروتها وحبكتها، فلا يبخل الفيلم على المتفرج بتقديم ما يلزم من مُشهيات سردية.

“ما بعد الجسر”.. صراع يمزق الذات ويزلزل الكيان الداخلي

تتأمل “فاليريا” النافذة المُشرعة نحو العالم الخارجي، وحينها يعود الزمن الفيلمي إلى الوراء قليلا، إلى 3 يونيو/ حزيران 2017، وهنا ترافقنا المشاهد المصورة لحادثة جسر لندن، فنرى جموعا من المواطنين يركضون بفزع، يبحثون عن ملاذ آمن من أصوات اشتباكات الطلقات النارية المُتصاعد ضجيجها، ثم يلتحم هذا المشهد بلقطات أرشيفية، تظهر توافد مراسلي وكالات الأنباء إلى منزل “فاليريا”، فقد كُشف عن هوية مُنفذي العملية.

صورة مُقربة لجسر لندن، موطن الحادثة التي أودت بحياة يوسف أبن فاليريا بطلة الفيلم.

وعند هذه النقطة تفقد بطلتنا الغشاء الهادئ الذي يُغلف حياتها، إذ سيرافقها الصخب الداخلي المُدجج بسنان الأسئلة الشائكة الواقعة في دائرة لا تستطيع الهروب منها، تُرى هل تقع على كاهلها مسؤولية فقدان ابنها؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فالسؤال التلقائي عن مدى وحدود هذه المسؤولية سيطفو تلقائيا؟ لكن السؤال الأعمق هو: ماذا فعلت هذه المرأة على مدار تلك السنوات، ودفع ابنها إلى الرحيل عنها بُغتة هكذا؟

فقد جعل السيناريو حادثةَ الجسر اللندني نقطةَ حبكة تدفع مسار الفيلم للأمام، وتُزيح الستار عن الفصل الثاني من الأحداث، وهو يُشكل العبء الأكبر من الرقعة السردية، ترافق الكاميرا “فاليريا” في سيرها الدؤوب بالغابات المُحيطة بمنزلها، أو في الشوارع الهادئة المجاورة للمركز الإسلامي، فبهذه الرياضة تنفتح مسام حياتها، مما يسمح بالاشتباك والتلاقي مع أفكارها المؤرقة.

نشاهد هذه الرؤى تتوافد على الظهور بداخلها بعد الحادث، وانعكاسات توابعها المزلزلة على كيانها، وبذلك ننتقل معها إلى حكيها المُمتد، نحو ما دار في أعقاب مقتل ابنها، بدءا بالتواري بعيدا في الخلفية، والسماح لزوجها السابق بمتابعة الإجراءات المُعتادة في مثل هذه الأمور، من تسلّم الجثمان وتجهيزه للدفن، وغيرها من المُلحقات الواجبة.

لكن أغرب ما ذُكر هو قرار الأب بإحاطة مراسم الدفن والعزاء بسياج مُحكم من السرية، فالقبر الحاوي لجسد يوسف المثقوب بالأعيرة النارية، سيُصبح مجهولا، لا شاهد له يوضح اسمه وتاريخ وفاته، كل هذه التوابع والمرفقات لم تنخرط فيها “فاليريا” مُباشرة، بل قبعت بين أحزانها وغضبها المُشتعل، تأبى مُسامحة ابنها بعد رحيله، وهنا يطرأ سؤال يبحث عن إجابة تسكن إليه: ما هو رد فعل الأم نحو كل ما ذُكر؟

مؤدية المسرح.. ذكريات من أيام الشباب الصاخبة

يستدعي الفيلم ماضي “فاليريا”، قبل تجديد حياتها بماء ارتباطها بزوجها المغربي، وتحولها الكامل إلى الإسلام، وهنا يُخبرنا السرد بالمشاهد الأرشيفية الثرية، أن هذه المرأة التي نراها أمامنا محجبة ملتزمة دينيا وأخلاقيا، كانت تعيش حياة مُغايرة عَمدت إلى إخفائها بعيدا، مُدثرة إياها بطبقات كثيفة من السرية.

وفي هذا السياق، تعود الكاميرا باللقطات الأرشيفية المُسجلة إلى العام 1989، فنلتقي “فاليريا” أثناء تقديم أحد عروضها المسرحية، وهنالك كان لقاؤها الأول بزوجها المستقبلي محمد المغربي النشأة، فهذه البطلة لم تكن إلا مؤدية وفنانة مسرحية.

فاليريا تُعلم السيدات قراءة القرآن الكريم في المركز الإسلامي.

وعندما تقدمت إلى هذا الشاب المغربي آنذاك بعرض الزواج منها، قابل عرضها السخي بدعوة تفيض كرما، فقد طلب منها زيارة وطنه المغرب والتقرب من مُحيطه الأسري، والأهم من ذلك إدراك الملامح الأولية عن الدين الإسلامي، لكن هذه الزيارة التي قُررت لها بضعة أيام اتسعت لحقبة وراء الأخرى، وفيها تحولت بإرادتها الحرة من “فاليريا” إلى خديجة.

صراع الثقافتين.. امرأة تائهة بين عوالم الزمان والمكان

هنا يشتبك الفيلم مع نقطة محورية سترافقنا طيلة السرد، وهي الصراع الدائر بين الثقافة العربية الإسلامية من ناحية، وما يُقابلها على الناحية الأخرى من حضارة حداثية غربية، قد لا يعبّر عن هذا التضاد بالقول صراحة، لكن بالمشاهد المتوالية الكاشفة عن ما خفي من حياة بطلتنا، ندرك بمنتهى اليسر أن ثمة ما يُعيق الانسجام والاندماج الحر، بين الحياة المُعاصرة وتيار الماضي المبعوث بعد موات.

فقد شكّل رحيلُ ابنها المُباغت صدمةً لا تزال آثار صداها تتردد بقوة داخلها، وعند الأزمات تُصبح العودة إلى الماضي واجبة، سواء بقراءة ما عصي حينها على الاستيعاب، أو لأن جُرعات الحنين لما سبق يزداد منسوبها، وبين هذا وذاك، تتأمل مسارات حياتها المُتشعبة، باحثة عن إجابة لسؤالها الشائك المُعاد تدويره، تُرى ما الذي فعلته وساهم في حدوث ما جرى؟

الملصق الدعائي للفيلم.

ولاستكمال الإجابة على هذا السؤال، يلجأ السرد إلى الارتداد أكثر فأكثر نحو طبقات الماضي المطمورة، فهذه المرة نتجه إلى طفولة “فاليريا”، فنراها في مراحل عُمرها الأولى، وما يصاحب هذه السنوات من مراهقة وشباب، سواء مع عائلتها أو برفقة ذاتها، كاشفةً عن محبة لا حدود لها نحو أسرتها وزمنها السابق، مما سمح لتكوينها الثقافي والداخلي بأن ينمو فيما سارت إليه حياتها.

أما حياتها مع زوجها العربي، فمع أنها نالت حظها من المُعاملة الحسنة اليسيرة بينهما، فإن هنالك ما ينغص هذه العلاقة المُقدسة بماء راكد، فالقسوة تجاه الأبناء سُيحاسب عليها الآباء لاحقا، وبدون أدنى تسهيلات في السداد، فما تفعله في الماضي سيقفز مُجددا في الحاضر، ومن ثم يتوالد الصراع بين هذا الزمن الآني المُكتنز بالآلام، وبين الماضي العبق بروائح السلام والهدوء النفسي.

علاج مصالحة الذات.. عودة إلى عروض المسرح لسرد القصة

تواصل البطلة سرد مسارات حياتها في ديمومة لا يكاد يتوقف تداعيها الحر، نبحث معها عن الراحة من عذاب التساؤلات الوعرة التي تنهش روحها التواقة للسكينة، في تعبير جلي عن الصراع الدائر في الداخل الإنساني، والباحث بدأب عن مرفأ آمن، وسيتجلى نوره بالتسليم بكل ما مضى وبتوابع ما سيأتي فيما بعد، ونتيجة لذلك يتمكن السيناريو من رسم إطاره العام، مستعينا في بنائه بالأزمنة المُتداخلة، في سردية ليس قوامها البحث عن الراحة فحسب، بل الرغبة في معاودة اللقاء بالذات التائهة بين ثنايا الأفكار المُشتتة.

وهنا تصحبنا الكاميرا في تتابع مشهدي، نرى من خلاله “فاليريا” أثناء مُمارسة تدريباتها المسرحية على الإلقاء، ولا يتوقف التسلسل عند هذه النقطة فحسب، بل يستكمل مساره للوصول إلى مرحلة الأداء العلني، وعندئذ نصل إلى الفصل الثالث من الفيلم.

وفي هذا الفصل تصل البطلة إلى صيغة توافقية بين ماضيها وزمنها الحالي، فنراها وهي تؤدي عرضها المنفرد أمام الجمهور، وعندها يُفاجئ المتلقي بأن موضوع عرضها المسرحي، هو حياتها المُنقسمة على ذاتها، ما بين ثقافة عربية راسخة في داخلها، وأطلال أخرى غربية لا تزال تبحث عن منفذ للاختراق، لذا يُصبح مبرَّرا لجوؤها إلى الفن بحثاً عن دواء ناجع لآلامها.

ذاتية الفيلم.. أسلوب فني يناسب ألوان الحكاية

بما أن مرجعية الفيلم ذاتية، فقد جاء التعبير البصري والإخراجي متناسبا مع هذا التناول الحساس، فأحجام اللقطات تتنوع ما بين الكبيرة المُرتكزة على زوايا التصوير المُقربة من وجه “فاليريا”، سعيا لاكتشاف ما يدور في أعماقها، والأحجام المتوسطة التي تُسهب في وصف والتقاط قبسات من حياتها الماضية والمُعاصرة، وقد ساعد على تقديم هذه الرؤية تضافر الخطوط السردية المُتشعبة، لتشكل تعبيرا جليا عن تعاقب الحياة ومرورها.

وفي هذا السياق يقول المخرج والمُنظر الفرنسي “روبير بريسون” عن الإخراج السينمائي: ليس الأمر أن توجه أحدهم، بل أن يوجه ويُخِرج المرء نفسه.

ومن ثم يُمكن تطبيق هذه المقولة على فيلمنا، الذي تكمن أهميته في جرأة الطرح الفكري، المُتسق مع الأسلوب الفني الجذاب شكلا، المعتمد في بنائه على الإفصاح عن ما يدور في شرنقة الذات العامرة بالتفاعلات النفسية، فنحن أمام رحلة ذاتية، من أجل هدف لا يقل في جدواه عن الأفعال الإنسانية الكبرى، فالتصالح مع النفس وإعادة البناء بعد الشتات ضرورة لاستكمال الحياة التي هي في ظاهرها مشرقة بأنوار الغواية، بينما تبحث نيران الداخل عن من يُطفئ لهيب تساؤلاتها المؤرقة.