“المنبوذون”.. كوميديا سوداء تفضح عنصرية الضواحي الباريسية

بؤس وشقاء وظلم وتهميش ممتد عبر الزمن، تلك هي الحياة التي يعيشها سكان الضواحي الباريسية من المهاجرين العرب والأفارقة والمسلمين، وهي الفضاءات التي نشأ فيها المخرج الفرنسي ذو الأصول المالية “لادج لي” (46 سنة)، فبات يستند عليها ليوظفها في معظم أفلامه المثيرة للجدل، ومنها فيلمه الأخير “المنبوذون” (Les Indésirables) الذي لم يخرج فيه عن تلك الأجواء السوداء والحزينة.

“لادج لي”.. مخرج من الضواحي يفضح العنصرية الفرنسية

برز نجم المخرج “لادج لي” بعد فيلمه الروائي الأول “البؤساء” (Les Misérables) الذي صدر سنة 2019، وقد أثار وقتها عددا من النقاشات والكتابات النقدية، لا سيما بعد مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” السينمائي، وقد عرّى من خلاله النظام الفرنسي، وتعامله السلبي والمقزز مع سكان الضواحي الباريسية.

وقد تصور كثير من المتتبعين للشأن السينمائي حينها أن الفيلم مقتبس من الرواية الشهيرة للكاتب “فيكتور هوغو” التي تحمل نفس الاسم، لكن سرعان ما زال هذا التصور بعد مشاهدة الفيلم الذي تجري وقائعه في الزمن الحديث، وقد نال عددا من الجوائز وكثيرا من الترشيحات، من بينها جائزة “سيزار” لأفضل فيلم، وجائزة “جويا” لأفضل فيلم أوروبي، بل إنه وصل للقائمة القصيرة في جوائز الأوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية سنة 2020.

أثناء نسف أحد المباني القديمة وطرد من فيها

عاد “لادج لي” بفيلم روائي جديد، اختار له عنوانا مستفزا وهو “المنبوذون” أو “البناية رقم 5″، وقد أنتج سنة 2023، ولم يخرج العمل عن سياق فيلمه السابق، وهو من كتب السيناريو بتعاون مع “جيوردانو جيديرليني”، فسلّط أضواء عدساته على المشاكل الجوهرية التي يعاني منها الفرنسيون ذوو الأصول الأجنبية، ولا سيما المسلمون من العرب والأفارقة وغيرها من الجنسيات الأخرى، وهذا على مستوى عدة أمور، أبرزها العنصرية وما يترتب عنها من أفعال موجعة ومؤلمة.

وقد عُرض الفيلم أول مرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بفعاليات “مهرجان الجونة السينمائي” في الدورة السادسة التي عقدت بتاريخ 14-21 ديسمبر/ كانون الأول 2023.

أفلام الضواحي.. إلهام الواقع يتغلب على الخيال الروائي

تستمد أفلام “لادج لي” قوتها من الواقع البائس الذي تقتبس منه، ويعود هذا بالأساس إلى المرجعية التي لدى المخرج نفسه، انطلاقا من خلفيته الأفريقية، خاصة أنه وُلد في مالي، وكبر ونشأ في الضواحي الباريسية، وهناك وقف عن قرب على تلك المآسي التي تحدث، حتى أنه عاش جزء منها.

لهذا جاءت أفلامه التي يخرجها ويكتب قصصها واقعية جدا، وقد تغلّبت حتى على أكثر الأفلام خيالا، إضافة إلى أنها تنطلق بطريقة أو بأخرى من ذاته، من الحياة التي عاشها وخبرها، لذا يلتحم معها المرء مباشرة عندما يشاهدها ويقف عليها، ولا سيما أبناء الفئات الفقيرة التي يعكس آهاتها ومشاكلها.

وتأكيدا لهذه المرجعية صرح المخرج في أحد المقابلات بقوله: لقد جئت من مونتفيرميل، وترعرعت هناك، وتغذيت من قصص سكانها التي تتخلل أفلامي بلا شك، لكن في هذه الحالة أردت توسيع الإطار، ما يحدث في أحياء مونتفيرميل يعرض في عدد من المدن، في فرنسا وأماكن أخرى.

هابي مع صديقها بلاز الذي حاول حرق بيت رئيس البلدية انتقاما منه ومن أفعاله

المدينة التي تحدث عنها المخرج هي التي كانت مسرحا لأحداث فيلمه، وهي منطقة تقع في ضواحي باريس، ويعيش فيها عدد كبير من المهاجرين، وقد وظّف المخرج بعض الحلول في فيلم “المنبوذون”، حتى يحث هؤلاء على التقدم والمواجهة والبحث عن طريقة أفضل لحل مشاكلهم.

ولن يكون هذا -حسب رسالة فيلمه- إلا بالمواجهة السلمية لتلك الوقائع، من أجل التغيير وإحداث ثورة ميدانية، بالانخراط في العمل السياسي، وهذا ما حدث مع بطلته “هابي” التي قال إنها ترمز للجيل الجديد الذي يبحث عن طرق لتحريك وتغيير الأوضاع. يقول المخرج: أردت أن أستحضر هذا الجيل الجديد من سكان الأحياء الضواحي، من خلال بداية اهتمامهم بالسياسة، بقدر أولئك الذين ما زالوا يمسكون بالسلطة، ولكنهم لم يعودوا يفهمون أي شيء عن عالمنا.

“المنبوذون”.. خطط عمرانية تهجّر السكان بثمن بخس

يروي فيلم “المنبوذون” -كما في ملخصه- مآسي إحدى المدن الفرنسية التي تعج بالمهاجرين، وانطلاقا من مبدأ القصة الذي تتشكل منه الأحداث، فإن الأمر بدأ بتولي “بيار فورج” (الممثل ألكسيس مانانتي) منصب رئيس بلدية بعد الوفاة المفاجئة لسلفه.

وفي هذا السياق يستمر في تنفيذ المشاريع السابقة التي سطّرها رئيس البلدية السابق، لا سيما مشاريع التهيئة العمرانية وتجديد الأحياء، لكنه يصطدم بمعارضة السكان لهذه المشاريع التي تحوم حولها شبهات الفساد، ناهيك عن كونها لا تضع في حسبانها مصير العائلات وسكان تلك العمارات التي ينوون هدمها، بعد أن عرضوا عليهم مبالغ مالية زهيدة جدا لا تكفي لتأجير بيت سنةً واحدة.

لكن البلدية -ومن ورائها السلطة- مصممة على المضي قدما في هذا المشروع، وقد بحثت عن الفرصة المناسبة لإخلاء المبنى رقم 5 منهم، من أجل هدمه واستغلال عقاره، وكانت الفرصة مواتية لهم بعد اختناق أحدهم في المطعم الموجود داخل المبنى بطريقة غير قانونية، وهي الفرصة المناسبة لهم، فقاموا باستغلالها أحسن استغلال.

“هابي كيتا”.. محاولة الاستيلاء على منصب الرئيس

بعد أن تفطنت “هابي كيتا” (الممثلة أنتا دياو) لمشاريع البلدية السوداء، بدأت تؤلب الناس عليهم، ثم أعلنت أنها ستترشح لمنصب رئيس البلدية، وهي الفرصة الوحيدة لتُجابِه بها هؤلاء.

لكن أثناء كل هذا تحدث أشياء مأساوية كثيرة، تقدم صورة قاتمة على ما يحدث خلف الواجهات اللامعة لفرنسا، في الضواحي التي تعج بالمشاكل والعنصرية والظلم، وتستعمل عصا القانون عليهم، في حين يُتجاهل باقي الفئات المجتمعية الأخرى، لأن دماءهم فرنسية خالصة، ولذلك يُتعامل معهم على هذا الأساس البغيض والمؤلم.

وقد استغل رئيسُ البلدية ومساعده ذو البشرة السوداء “روجر روش” (الممثل ستيف تنتيشيو) الشرطةَ لقمع كل تظاهر أو احتجاج، حتى أنهم أعلنوا حظر التجول والتجمعات، وقد وقفت “هابي” في وجههم، لكنها لم تستطع أن تواجههم إلى النهاية، لهذا نفذوا مخططهم الجهنمي وأخلوا المبنى من المهاجرين لتنفيذ مشاريعهم الوهمية.

رئيس البلدية يحضر لحملته الانتخابية عن طريق مآسي المهاجرين

خلق الجمالية من القبح.. كوميديا سوداء تجسد عبثية الحياة

تنعكس موهبة المخرج “لادج لي” في تسييره المجاميع البشرية الكبرى، وحسن إدارته للممثلين الذين يتحركون في فضاء ضيق ومحدود، ومع كثرتهم وتنوعهم وتفاوت مستوياتهم واحترافهم، فإنه يتعامل معهم بسهولة كبيرة.

وهذا ما انعكس في فيلم “المنبوذون” وحتى في الفيلم الذي قبله “البؤساء”، أي أنه يقسم أدوار البطولة بين عدد من الممثلين، ومن هنا يخلق البطولة الجماعية، ليتعامل معهم من نفس المسافة تقريبا، وكأنه يؤمن فقط بالعمل الجماعي، وأن مصدر القوة هو أن يشكل كل فرد من المجموعة نقطة مهمة، يمكن أن تصنع فارقا في لوحته الكلية.

أضف لذلك كله أنه يحب معادلة “خلق الجمال من القبح” حبا مفرطا، وقد انعكس هذا المفهوم في عدد من مشاهد الفيلم، منها افتتاحيته التي كانت مميزة وعبثية إلى حد كبير، وهذا عندما أعطى رئيس البلدية السابقة إشارة نسف أحد المباني بحضور رسمي واحتفال، لكن مع عملية النسف انتشر الغبار عليهم، فتوفي رئيس البلدية في المكان بعد تعرضه لأزمة قلبية.

ومنها صورة أخرى التُقطت من سطح المبنى رقم 5، بعد أن دهمت الشرطة المبنى وأخرجت السكان عنوة لإخلائه، لهذا نشاهد السكان وهم يرمون الأثاث والأرائك من النوافذ بطريقة عبثية جدا، للظفر بشيء قبل غلق المبنى بشكل نهائي.

كما أن هناك صورة عبثية أخرى، فعندما توفي أحد السكان أُخرج بصعوبة بالغة من العمارة، لا سيما أثناء النزول من السلالم، وهو ما يعكس عبثية المخرج واعتماده على الكوميديا السوداء، لإيصال أفكاره عن تلك الفئة من السكان.

إحراق منزل رئيس البلدية.. بضاعة العنف ترد إلى أصحابها

لم يمر فيلم “المنبوذون” من دون أن يرسم مخرجه “لادج لي” عددا من الأبعاد السياسية والاستشرافية، انطلاقا من التجارب التي حدثت، وذلك من منطلق أساسي، هو أن العنف لا ينجب سوى العنف.

وقد اقترب أكثر من هذا المنطلق الفلسفي، في مشهد لأحد أبطال فيلمه، وهو “بلاز” (الممثل أريستوت لوييندولا)، وهو شاب رأى تعامل الشرطة مع والده ومصادرتها مركبته التي يعمل فيها ميكانيكيا، ثم رأى طرد الشرطة سكان المبنى ورميهم في الشارع في فصل الشتاء البارد، ووقف على القمع والتعنيف من طرفهم، فقرر في النهاية أن يصدر ردة فعل.

تهجم “بلاز” على بيت رئيس البلدية، واحتجز زوجته وأولاده، وقرر أن يحرقهم، ومن هنا تنعكس سلوكيات العنف التي كانت تمارس ضده، لكنه في النهاية نجا من تلك الدائرة، حين تدخلت صديقته “هابي” وأقنعته بضرورة الانسحاب، وهذه المشاهد من شأنها أن تثير أسئلة كثيرة، حول تنشئة سكان ضواحي وطريقة عيشهم والظلم الممارس ضدهم، ناهيك عن التهميش والعنصرية وغيرها من الأفعال السوداء التي تزرع في قلوبهم الحقد والغل وروح الانتقام.

مثّل فيلم “المنبوذون” صرخة قوية، يمكن أن توقظ أصحاب الضمائر الحية، لمحاسبة العنصريين أفراد اليمين المتطرف، وأولئك الذين لا يريدون للدم الفرنسي أن يختلط بالدماء الأخرى، حتى لا يتلوث بها، وهي نظرة عنصرية قاصرة، لا تنجب سوى العنف والعنف المضاد.