“العبء”.. رحلة التطهر من لعنة الأيدز في مجتمع لا يرحم

تُشير المصادر التاريخية، إلى أن اللقاء الأول بين الإنسان وفيروس نقص المناعة البشرية (الأيدز)، كان في القرن التاسع عشر في أفريقيا الوسطى، وهو نتيجة مُحتملة للاندماج القسري بين الإنسان وحيوان الشمبانزي، ومنذ تلك الأثناء، تحولت هذه الزيارة السريعة، إلى إقامة دائمة، تؤدى لها كافة الحقوق والواجبات.

لكن ما غفلت هذه الأبحاث والدراسات عن ذكره، هي تلك الآثار الجانبية التي تُصيب العمق النفسي للمرضى بالعَطب، بما يستحيل معه محاولات الصيانة الدورية، ومن ثم يتحول المريض من بنيان مُتكامل الهيئة، إلى حُطام إنسان لا حول له ولا قوة أمام هجوم لا سلطان له عليه.

وتلك المعضلة الشائكة، تُشكل الطبقة الفكرية المُباشرة من الفيلم الوثائقي “العبء” (The Burden) الذي أُنتج عام 2023، واشتركت في إنتاجه أفريقيا الوسطى وإيطاليا وفرنسا، وكان عرضه العالمي الأول في الدورة الـ36 من مهرجان إدفا للأفلام الوثائقية، وقد أخرجه “إلفيس سابين نجبينو”، وهو ثاني أفلامه الوثائقية الطويلة التي يواصل فيها طرق الموضوعات الإقليمية الأفريقية، مما يشي بهمّ وفكر يسعى دوما للتعبير عنهما.

هاجس العقاب الإلهي.. نفوس مثقلة بأعباء المرض الخبيث

في هذا الفيلم نلتقي مع صديق المخرج وابن عمه “رودريغ” وزوجته “رين”، وهما يعيشان مع سر لا يُدركه سواهما، فكلاهما يحمل بين نسيج دمائه مرض الأيدز، ومن ثم يُظهر غلاف حياتهما عكس ما تُبطن، هذا ما تلتقطه كاميرات الفيلم، وتُبلوره في سياقه المُلائم المتقاطع تلقائيا مع طائفة الموضوعات التي تحملها أجنحة الفيلم على عاتقها، وهي لا تخلو من ظلال تساؤلات، بعضها مؤرق والآخر شائك، وبين هذا وذاك تنمو الأفكار وتتشعب في دائرة لا يكاد يتوقف دورانها.

تُرى هل ثمة علاقة بين المرض والعقاب الإلهي؟ وهل حلول المرض في الجسد الإنساني دليل على استكانة الشياطين بأريحية داخل النفس البشرية؟ وإذا تحققت أواصر هذه الصلة، فهل يُعد المُعافى جسديا محظوظا بالقرب من الخالق عز وجل؟

كل هذه الأسئلة المشروعة يُطلق الفيلم قذائفها في وجه المتفرج، ومنها ينشأ المستوى الأعمق للمضمون العام للسرد، وسيتداول فيما بعد على نحو أوسع وأكثر شمولا، إذ يقول المخرج في إحدى الحوارات الصحفية: شاءت الأقدار أن يقترن وجودي في أفريقيا بالمرض، فقد نشأت في بلد يُمثل التدين ركنا أساسيا فيه، ومع أنني كاثوليكي الانتماء، فإن ذلك لا يمنع من رصد بعض الشوائب في المُمارسات الكنسية البروتستانتية.

نصب الصليب.. رمز ديني تستند عليه الأرواح الكسيرة

لقطة مُقربة تكشف عن يد مُمسكة بشادوف الحفر، تواصل عملها المُضني في ثَقب الأرض، ثم يُطالعنا بزاوية متوسطة الحجم رجل وامرأة يحملان صليبا معدنيا طويل الساق، يُثبتان أوتاده في تلك الهوة الأرضية المصنوعة حديثا، أما في المشهد اللاحق، فسيتصدر هذا الصليب إطار الصورة، ويقف حوله الرجل والمرأة يُرتلان بخشوع صلواتهما الدينية.

الزوج رودريغ وزوجته رين أثناء زيارتهما لإحدى القداسات الكنسية.

بهذا التتابع يبدأ الفيلم مشاهده الأولى، لتكون مدخلا رئيسيا لفهم البيئة العامة للسرد، وما يدور في فلكها من شخصيات تتهادى أمامنا على الشاشة، وعبر هذا التفاعل بين العوالم السردية والأبطال، تُطرح ضمنيا طوائف الأفكار التي يرغب الفيلم في قولها والتعبير عنها، إذ تتسرب إلى آذاننا أصوات ابتهالات وترانيم، يلهج بها هذان الزوجان أمام محرابهما حديث العهد، ولا تخرج جميعها عن الدعوات بالشفاء والتطهر من آثام هذا المرض الذي يستوطن أجسادهما.

ومن ثم يُمكن استنباط كُنه العلاقة بين المرض والخطيئة، فكل منهما مقرون بالآخر في شرنقة واحدة، فقد جعل المخرج هيكل السرد العام مرتكزا على فكرة الثنائيات المُتضادة، وهي تُشكل في تضافرها معا مفتاح الفيلم، الثواب والعقاب، والصحة والمرض، والتطهر والدنس، والحياة والموت، كل هذه الصفات المُتجانسة شكلا، والمُتضادة مضمونا، يلتقطها الفيلم ببراعة، ويبلورها في سياقه البصري المُحكم الصياغة، والمشدود الإيقاع كالوتر.

يوميات العائلة.. خطوات تقفز على عوائق النفس المتعثرة

بعد أن يُؤدي الزوجان صلواتهما، ينطلقان إلى المحفل الديني لاستكمال طقوسهما اليومية، وفي أثناء عودتهما يُلقيان خِلسة بالأوعية العلاجية الفارغة في منفذ المرحاض، خشية أن يَهتك الجيران سرهما المطمور عن الأعين.

وبعد أن ترتاح الكاميرا من مُتابعة التفصيلات اليومية لحياة الزوجين اللذين يُجاهدان لمُمارستها بالشكل اللائق اجتماعيا، تنتقل في جولة حرة مع الزوجة أثناء أدائها مهام عملها، وهو استخلاص نباتات السافانا وإعادة تدويرها وبيعها.

وهكذا تستمر الكاميرا على هذا المنوال، في اقتناص الوشائج الاعتيادية لهذه اليوميات المُكررة، ونتيجة لذلك تُصبح الكاميرا عين المتفرج المُتلصصة على هذه الحياة، المُغلفة بطبقة رقيقة من السعادة الظاهرية، في حين تفيض أنهار التعاسة في العمق، وعندها تواجهنا المشاهد المُتلاحقة للفحوصات الطبية المنزلية التي يقوم بها الزوجان بصفة دورية، بحثا عن طيف أمل عابر، يتعلقان بأهدابه.

الزوجة رين تعمل في تجارة مُنتجات السافانا.

يواصل السرد المُتابعة في هذه الأجواء المشحونة بالتعاطف الممزوج بالترقب، إذ يرافقنا التعليق الصوتي للزوجة التي توجه شكرها إلى الله تعالى، على نجاة أطفالهما من الوقوع في فِخاخ المرض، فالنظرة الطبية السائدة هي توارث جينات الوباء وانتقالها إلى الأجيال الناشئة، وعند هذه النقطة ترافق الكاميرا الزوج، فتلتقط ما يُدونه على الهاتف المحمول، إذ يبعث على وسائل التواصل الاجتماعي، بسؤال موجع عن الترابط بين المرض والعقاب الإلهي؟

وهنا يطرق الفيلم أحد أهم جوانبه الفكرية، فيُقدم على طاولة السرد المفاهيم المتوارثة في العقائد المسيحية، التي تُحكم الصلة بين العقوق البشري نحو الذات الإلهية، وبين تفشي الأمراض الجسدية باختلاف أنواعها، ومع أن هذا الطرح الجريء قائم أساسا على الرصد والتأمل، وبناء على هذه الرؤية الاستقصائية، يُمكن الإحساس بنبرة الانتقاد اللاذع لهذه الطائفة من الأفكار.

فمشاهد الصلاة والنحيب المُتكرر صداه، تتردد على الدوام في مصفوفة دائمة، فالزوج يعمل مُساعد قِس القرية، والزوجة تمتهن التجارة، وتُشكل الكنيسة بحضورها الطاغي حجرا رئيسا في هذا البُقعة الجغرافية، المُحاصرة أعناقها بحبال غليظة من القيود الاقتصادية.

ملاذ الكنيسة.. طقوس دينية ونوبات بكاء لتطهير النفس

بعد عرض معالم حياة البطلين، ينطلق الفصل الثاني الأطول زمنيا، ليستكمل تقديم سمات البيئة العامة للقصة المُراد بلورتها، وعندئذ يُصبح التلاقي مع السياق الخارجي المُشكل للحياة العامة والاقتصادية، ضروريا ولا مفر من مجابهته، نُتابع في هذه المرحلة من الحكي رحلات دعوية تُمثل الركن الرئيسي لعمل الزوج، وفي هذه الأجواء تلتقط عدسات الكاميرا ما يقع في طريقها من معالم أولية للحياة هنالك.

فالأحداث المروية تدور في بانغي عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، ومع أن أسهمها السياحية بدأت تتنامى، فإنها ما تزال تُعاني من أثقال كبت اقتصادي، تبدو ملامحه ظاهرة بجلاء في الشوارع الموازية للأراضي الزراعية، والأسلوب البدائي المُسيطر على المفاصل الحياتية بدرجة كبيرة.

فالواقع أن المكان ما هو إلا دلالة للهامش، وكذلك شخصياته المحورية، ما هي إلا انعكاس لهذا الوجود الهامشي، ولأن الهامش يقبع في البعد عن المُتن، حينها تطفو ظواهر الدجل والشعوذة على السطح، وتتكئ على الموروثات التراثية.

وهنا تقتنص الكاميرا الاحتفالات الدينية المسيحية، وبنظرة مُتعمقة يُمكن بمنتهى اليُسر إدراك أصولها الأفريقية، المُتجذرة في الثقافة والإرث العريق المُمتد، فالأنغام الموسيقية ونوبات البكاء والنحيب المشفوع بالصرخات الحادة، ما هي إلا إعادة إحياء للتقاليد القديمة التي امتزجت لا إراديا مع التبشير المسيحي.

رودريغ ورين يعترفان في الكنيسة بإصابتهما بالأيدز، سعياً للتحرر من الخطيئة.

لكن ما يُثير الانتباه حقا، هو التوغل غير المحدود لهذه الثقافات، لا على الناحية الدينية فحسب، بل إنها تصبغ الحياة الاجتماعية، وتنعكس عليها بطريقة أو بأخرى، ولذلك يُمكن حينها فهم المشاعر المُتضاربة التي تبدو راسخة الحضور لدى أبطال الفيلم.

فالاندماج بين الالتزامات الدينية والطقوس البدائية، ساهم بإضفاء لمسة من الإحساس بالذنب، يتوهج أنينها بين الحين والآخر، في تناسب طردي بين الحالة الصحية التي عند تدهورها تتصاعد الطقوس الدينية الوثنية المذهب، وتحتل الحيز الأكبر من مساحات تلك الأيام الرتيبة الإيقاع، بحثا عن علاج مُغلف بسماحة الغفران الإلهي.

“العبء”.. وحش خفي يلتهم الأجساد بسرية

تتوغل الكاميرا أكثر نحو سر البطلين، فنراهما في مشاهد عدة، أثناء إجراء الفحوصات الطبية الدائم حدوثها بين الحين والآخر، وبعد أن تنتهي هذه الرحلة الجبرية، نرافقهما في اللقاء الجماعي مع زملائهما من حاملي نفس الجينات المرضية، وهنا يلجأ المخرج إلى تقنيات التداعي الحر، فكل من الجالسين لديه ما يكفي ويفيض من المشاعر الفاقدة لبوصلة التوجيه، يبث كل منهم للآخرين ما يدور عن تلك التفاعلات الداخلية الدائرة في باطن نفوسهم.

تنطلق إحدى النساء في التحدث عن مُلابسات إصابتها بالمرض، لكن ما يدفع دموعها إلى التدفق ليس إلا ثوران البراكين الداخلية التي تفور في ديمومة مُتكررة، وقوامها الإحساس بالخزي والعار، من ثم تُصبح أسوار السرية الشائكة حلا مثاليا لمعاودة الاندماج المجتمعي، وعند هذه النقطة يتناوب الزوج والزوجة على الحديث، وهنا نُدرك للمرة الأولى أسمائهما، فلا يُفصح عنها السيناريو سابقا، تناسقا مع حالة الغموض والسرية التي تُغلف حياتهما.

تُسهب الزوجة “رين” في سرد التاريخ المرضي، فقد اختار المرض أن يُصيبها أولا، ثم بسط سيطرته تدريجيا على الزوج “رودريغ”، الذي يستكمل حديث زوجته قائلا إن مُحيطه الأسري لا يُدرك حقيقة مرضه، باستثناء 4 أفراد، أما عائلة الزوجة فلا تعلم عن الأمر شيئا، فالمجتمع يتربص بمثل تلك الحالات، ويحتاط في التعامل معها، لكنه لا يكتفي بهذا القدر، بل يعمل على توسعة رُقعة الترقب التي تمتد وتتحول تلقائيا إلى تقنيات التنمر والسخرية الجارحة.

الزوجان يبتهلان في إحدى الاحتفالات الدينية، من أجل بعث معجزة الشفاء.

وهنا يكشف الفيلم عن المُعاناة المُزدوجة لمرضى الأيدز، سواء على الجانب الصحي الذي يُعاني من افتقاد الوسائل العلاجية اللازمة، أو على الناصية المُقابلة المعنية بالحماية النفسية من التخبط والإحساس بالمهانة، لتصبح حياة المريض بين طرفي مقص، أحدهما موجع والآخر أشد إيلاما.

تفاقم المرض.. بحث عن ذرة شفاء تائهة في الموروث

تُتابع الكاميرا يوميات الزوجين المُتعاقبة التي تسير وفق وتيرة لا تكاد تتغير ثوابتها، ولأن المفاجآت تُباغت من دون إنذار سابق أو أدنى تمهيد، فإن احتلال خلايا الأيدز لما بقي من جسد الزوج أصبح أمرا واقعا، فقد تلقت العضلات الهجمات هذه المرة، وعلى إثرها أصبح “رودريغ” مُرافق الفِراش بصورة دائمة، بعد أن أصبحت ساقه في عِداد الموتى، في تطور طبيعي لانعدام الإحساس بها.

وهنا يلجأ بطلنا إلى العلاجات التقليدية المُستندة في تكوينها على الموروثات الشعبية، بحثا عن ذرة شفاء تائهة، وعندما تفقد هذه الوسائل الطبية جدواها، تصبح اللقاءات الدينية هي الحل الأنسب والأجدر بالتنفيذ، وهنا تطرأ مُعضلة الإفصاح أو الإخفاء للأمر، فالقس المسئول عن القرية يجهل الهوية الحقيقية للمرض، ومن ثم تتضارب الرغبة في البوح، مع ما يُقابلها من رغبة مُضادة في التستر، وفي نهاية المطاف ترجح كفة التمويه والإخفاء، فهذا ليس بالوقت المناسب، فلكل مقام مقال.

يقع الفصل الثالث من السرد بين براثن تلك الدائرة الحائرة، بين الإفصاح والإخفاء، ومن خلالها ترصد الكاميرا ما شاب جسد البطل من تكاثر للخلايا المُصابة، تلتقطه المشاهد المتوالية، وهو مُسجى في إعياء بادٍ، أو أثناء سُباته المُستكين في الغيبوبة، والزائرون من حوله تلهج ألسنتهم بالدعاء من أجله.

ولا ريب أن هذه المشاهد -على قسوتها- نادرة من الناحية التوثيقية والسينمائية، فالسائد أن نقرأ عن الحالات المُتأخرة لأمراض المناعة، لكن أن تصطدم الأعين بهذه المشاهد الواقعية، فهنا تكمن الرسالة التحذيرية والتوعوية للفيلم، وهي لا تنفصل عن المضمون العام المُراد التعبير عنه.

الزوجان يُثبتان أوتاد الصليب في الأرض.

كسر الأغلال.. حمل ثقيل يزاح عن النفس في الكنيسة

يجلس “رودريغ” على المقعد الخلفي للدراجة النارية المُتجهة نحو الكنيسة الإقليمية، فاللقاء الجماعي مع أبناء الطائفة الدينية على وشك البدء، وهناك سُيلقي بطلنا عظته، بل إنه سيعترف بما أخفى آثاره سنوات، وهنا يضعنا الفيلم وجها لوجه مع اللحظة الموعودة، ليُقر فيها الزوج والزوجة بحقيقة مرضهما، فقد انتصرت رغبات الإفصاح والبوح على نوازع الإخفاء والتستر.

ومن هذا الخيط الرقيق، نستطيع قراءة معالم الصراع الدائر حوله نسيج الفيلم، وهو لا يخرج عن الثنائيات المُتقابلة، الحياة والموت، أو الثواب والعقاب، وهي تتطور ذاتيا كلما توغلنا أكثر فأكثر في طبقات السرد الفيلمي، إلى فكرة الخلاص الروحي، فاعتراف “رودريغ” في ساحة الكنيسة، ما هو إلا صياغة رمزية لفكرة التطهر الديني من الآثام، وما الآثام الملوثة للجسد الإنساني، سوى مرض الأيدز سيئ السمعة.

وبهذه المشاهد يتلاقى قوسا الحكاية، وهي تقوم في ظاهرها على المُتابعة اليومية والدؤوبة لهذه العائلة، أما ما يُغزل في الباطن، فيقع تحت طائلة البحث عن سبيل للتحرر والخلاص الديني، وفي هذا السياق يُطالعنا على الشاشة أثناء كتابة تيترات الفيلم، الإهداء الصريح إلى ضحايا مرضى الأيدز في أفريقيا.

وللوصول إلى صيغة تعبيرية عن هذا المضمون الحساس، سعى الأسلوب البصري والإخراجي إلى بلورة عناصر الأفكار وصهرها في بنية واحدة مُتناسقة القوام الفني، وبحرفية تدعو إلى الإعجاب وتستوجب التحية، وقد ساهمت عدسات الكاميرا الدؤوبة في الوصول إلى أدق التفاصيل غير المطروقة من قبل، وهي باصطفاف أركانها معا تبعث على التأمل والتفكير في مسارات الحياة المُتعرجة بالأشواك الآثمة، فهل من أحد يستطيع عبور حواجزها سالما؟