بواب المحروسة.. تاريخ مهنة رجال الهامش الواقفين على أبواب القصور

تحمل مهنة حارس العقار أو البواب على امتداد تحولات المجتمع المصري، حيزا أكبر من كونها عملا تُحدَّد فيه المسؤوليات شفهيا بين الحارس والساكنين مقابل أجر معلوم، لأننا لو نظرنا إلى آلية عمل البواب، وعلاقته المتجاوزة لما هو عملي، بينه وبين ساكني العقار، وكذلك بينه وبين ذاته خلال موقعه الهامشي، فسوف نجد أن هذه المهنة تمثل اختبارا معيشيا طويل المدى، تصنع حيثياته تداخلا طالما كان منفصلا على مستوى طبقي.

فالحارس ينتقل من مكان ناءٍ في أغلب الأحوال، ويتعامل مع الآخرين بما يحكمه من ضوابط أخلاقية وتباين في التكوين النفسي والمرجعية الثقافية، فيقضي لهم حاجتهم، ويرى أسرارهم المنزلية بحكم الجوار، وحتى وإن كان يقطن غرفة صغيرة لا توفر سوى الضروريات، فهو وسكان العقار ملزمون بالاستجابة للتداخل والتشارك المعيشي، الذي يحمل تطلعات الحارس في حفظ قوت أبنائه، ومتطلبات السكان فيما يتعلق بتولي مسؤولية مَرافق العقار وتوفير حاجاتهم الأساسية.

في هذا السياق، أنتجت الجزيرة الفيلم الوثائقي “بواب المحروسة” الذي يتناول حيثيات وظيفة “حارس العقار” في مصر منذ بداياتها، باعتبارها إحدى آليات قراءة تطورات المجتمع المصري، وتغيراته من جهة العلاقات الاجتماعية والتحول الطبقي، إضافة إلى النزوح الداخلي من القرى والأقاليم البعيدة إلى القاهرة المركزية، تأثرا بتحولات المسار الاقتصادي المصري خلال عبر تنويعات في التوجه السياسي، وبحثا عن فرص أفضل للعيش. ومن جهة أخرى، يضع الفيلم مقاربات، عبر أحاديث نماذج حقيقية، بين الهيكل العملي لوظيفة حارس العقار قديما ومآلاته الحالية.

أبناء النوبة.. فقراء مهجّرون يكتسبون ثقة القصور

تطلق كلمة بواب أو حارس عقار على الرجل الأمين الذي يقف أمام باب العمارة ويحافظ عليها، ويمنع دخول الغرباء، ويوفر للساكنين مساحة الأمان وتشغيل مرفقات العقار والحفاظ عليه نظيفا، مقابل مبلغ شهري يؤخذ من أحد ممثلي السكان، أو يؤخذ فرديا من كل شقة.

وتقول الباحثة هدى زكريا إن هذه الوظيفة كانت في بداية ظهورها شبه حصرية على النوبيين، نظرا لأنهم كانوا فيما مضى خدما مقيمين داخل مساكن الطبقات العليا في مصر الملكية، ثم الجمهورية بنسبة أقل.

النوبيون هم أول من اشتهر بمهنة “البواب” منذ البدء ببناء السد العالي وهجرتهم نحو القاهرة

فقد اكتسب المجتمع النوبي ثقة المُلاك في هذه الوظيفة، لأنها كانت البديل الآمن لهم بعد تهجيرهم أيامَ إنشاء السد العالي، وعدم قدرتهم على الانسجام مع أماكنهم الجديدة المفتقرة للمناخ الثقافي الشعبي الذي كان في قرى النوبة قبل النزوح، وبسبب الحاجة بدأ النوبيون تكوين “مناخ جماعي” للعمل حُراسَ عقار في القاهرة، لما تمثله هذه الوظيفة من سكن مجاني ومردود مادي ثابت يوفر استقرارا مبدئيا.

ومع انتشار التجمعات السكنية في القاهرة خلال المرحلة الناصرية، تقلصت الحاجة الرفاهية إلى خدم دائمين في القصور، وارتكزت القاهرة على كتلة ناشئة من الطبقة الوسطى، تمثل أساس العمل الوظيفي في المصالح والمؤسسات الحكومية العامة، ولذلك لم تكن هناك حاجة إلا لحارس عقار يباشر عمله بشكل دائم خارج إطار الشقق السكنية الصغيرة، وينحصر عمله في توفير مناخ هادئ وآمن للساكنين، وتوفير حاجاتهم اليومية والأساسية.

حراس الجيل الأول.. اعتزاز بوظيفة تراعي الكرامة الإنسانية

يظهر الفيلم مشتركا أخلاقيا ومهنيا بين نماذج حراس العقار من أبناء الجيل الأول، وهم يتفقون في الاعتزاز بهذه الوظيفة، نظرا لأنها كانت عملا محددا ذا إطار تبادلي واضح، فحارس العقار ملتزم بمسؤوليات يأخذ عليها أجرا، وهذه المسؤوليات منوطة برعاية المبنى.

للبواب مهام كثيرة غير الحراسة، منها شراء الحاجيات وغسيل السيارات والحفاظ على نظافة البناية

لذلك يعترض كثير من حراس العقار القدامى على بعض النشاطات الحالية، مثل العمل في السمسرة وتأجير الشقق، أو دخول الزوجة في إطار العمل الخدمي، بينما ينشغل الزوج المسؤول عن العقار بعمل جانبي آخر، وحتى أن الفكرة البديهية الآن -وهي شراء حاجات السكان- لم تكن جزءا متعارفا عليه، أو سائدا بين حارس العقار وسكانه.

ويعود هذا التحديد المهني في العلاقة بين طرفي العمل، إلى أن قطاع النوبة الذي شغل هذه الوظيفة، كان ذا شخصية واضحة على مستوى الهيئة والمرجعية الأخلاقية، فضلا عن تفهمه الواضح لمتطلبات وواجبات مهنته، وكيفية إلزام نفسه بها، ولذلك تجلت صورة الحارس بعيدا عن الأعمال الجانبية، أو وجود انبطاح مبدئي من قبل حارس العقار تجاه السكان، لكسب “بقشيش” يمثل بدلا غير دائم للمرتب الثابت.

أمواج الاقتصاد.. تقلب وظيفة البواب بين عصرين

تأثرا بمركزية الدعم الاجتماعي خلال المرحلة الناصرية، لم يكن لدى حارس العقار حاجة لتدبير أموره بأنشطة ربحية لا تدرج ضمن عمله الوظيفي، لأن الدولة يومئذ كانت تحاول تأسيس هيكل من الدعم الاجتماعي، يوفر الاحتياجات الأساسية للمواطنين، في قطاعات الصحة والدعم الغذائي والتعليم.

عائلة “البواب” تعاونه في أداء مهامه بسبب انشغاله في أعمال أخرى

وحينما ننظر إلى الأمر بعين حارس العقار، الذي عادة ما كان يأتي من منطقة غير حضرية، فإن الأمر يبدو مربحا، من حيث العيش في مناخ مستقر، يوفر للأبناء فرص تعليم وارتقاء طبقي بتوظيف داخل المدن التي تحمل إمكانات تطور مادي أفضل من القرى والأقاليم.

ومع هيكلة المسار الاقتصادي خلال حكم السادات، واستقبال الاقتصاد المصري مرحلة الانفتاح، تفاحشت الهجرة الداخلية من القرى إلى المدن، بسبب تزايد فقر الفرص المتوفرة، ولأن ارتكاز الاقتصاد على “الخصخصة” رفع قيمة أسعار المستهلكات، لذلك بدت فرصة العمل حارسَ عقار مطمعا لكثير من النازحين، مع وجود فرصة لأعمال حرة جانبية.

المهن الطفيلية.. مناخ للانتهازية يؤثر على مهنة البواب

استطاع الانفتاح الاقتصادي في مصر، أن يكوّن تغيرات عميقة في العلاقات الاجتماعية والقيم الأخلاقية، فضلا عن المسار الاقتصادي الذي بدأ توليد منافسة حرة بمهن لا يمكن ضبطها، مثل السمسرة والمقاولات، والاستيراد والتوريد والوساطة، والتمويل وتجارة العملة.

ملصق فيلم “البيه البواب”، من بطولة أحمد زكي وفؤاد المهندس وصفية العمري

تتحدث الباحثة والناقدة درية شرف الدين عن هذه المهن في كتاب “السينما والسياسة في مصر”، وتسميها “طفيلية”، لأنها تقوم على استغلال الآخرين بدلا من عنصر إنتاج حقيقي، وعلى نقل الثورة بدلا من خلقها، كما تشكل انفصالا في العلاقة بين الجهد والكسب، وتوفر مناخا للتسلق والانتهازية والوصولية.

وفي فيلم “بواب المحروسة” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- نتعرف على طبيعة دور البواب في السينما، وتحولاته من الحضور الجانبي لخلق تطعيمات كوميدية كما في فيلم “البحث عن فضيحة” (1973)، إلى الارتكاز عليه مبدئيا بشكل لا يرتبط مع السياق المجتمعي، في فيلم “النداهة” (1975)، وتظهر ذروة تمثيلاته في فيلم “البيه البواب” (1987)، وهو من بطولة أحمد زكي، وإخراج حسام إبراهيم.

“البيه البواب”.. رحلة من براءة الريف إلى قلق المدينة

أجاد الفنان أحمد زكي في فيلم “البيه البواب” عكس صفات البواب الشكلية في الثمانينيات، سواء الداخلية منها أو المهنية، لذلك نرى في مطلع الفيلم حرصه الشديد على المال، وإجادته للنواح الساذج عند التعرض لأي مشكلة، ومع انتقاله هو وعائلته إلى القاهرة، يفاجأ بطل الفيلم عبد السميع بفضاء مكاني شديد الزخم، كثيف وممتلئ بالتفاصيل والاستغلال.

وبعد لأي يصل عبد السميع إلى القاهرة وقد احتيل عليه في القطار وسُرق قرط زوجته، فوجد معارفه في منطقة المعادي قد ارتحلوا إلى الخليج. وحتى حين يجد فرصة للعمل بوابا لإحدى العمارات، فإن صاحب مرآب السيارات الذي وجد له هذا العمل يأخذ منه 10 جنيهات سمسرةً.

مشهد من فيلم “البيه البواب”، وفيه يساوم البواب “عبد السميع” (أحمد زكي) عائلة “فرحات” (فؤاد المهندس)

وقد مُثلت العمارة التي يعمل بها عبد السميع، بنماذج مجتمعية مختلفة، تعطي صورة جامعة لفئات المجتمع المصري في الثمانينيات، وخلال اشتباك عبد السميع معها وتطور قدرته على التربح، تتشكل علاقته مع هذه النماذج أكثر، فيتبين أن صعود عبد السميع الطبقي، لا يمكن اعتباره فرديا أو اعتباطيا منفصلا، بل هو حالة لها تأثير مباشر على الطابع المجتمعي الحاكم للطبقات وتغيراتها.

يوما بعد يوم، يتحول عبد السميع من شخص ملتزم بشؤونه في حراسة العقار والحفاظ على نظافته، إلى سمسار شقق وأراضٍ، وتاجر عملة متسلق ووصولي يضع الفائدة المادية فوق أي اعتبار آخر.

وبعد التيه الأول داخلها، تصبح المدينة فضاء مفتوحا للفردانية، فيجيد عبد السميع تقدير من يراكم الأرباح والتملك، ويهمش الصورة التقليدية للطبقة الوسطى المتعلمة، التي مثلتها عائلة فرحات (الممثل فؤاد المهندس) خلال انحدارها من التسلط على عبد السميع لإحضار الطلبات، حتى وصلت إلى مجاورته في السكن على السطوح.

عبد السميع.. صعود وسقوط لوحش أنتجته ظروف المجتمع

لا يغفل فيلم “البيه البواب” أن عبد السميع هو نتاج ظرف مجتمعي بشكل أو بآخر، وأنه ممثل لفئة تبحث عن مكان ما في خريطة التربح الجديدة، ضمن ما هو متاح في القاهرة.

ويتعامل الفيلم مع هذه الفكرة بسخرية ذات ملمح سياسي، ويجعل بوابي منطقة المعادي -المجاورين لعبد السميع- يطلبون منه إنشاء رابطة للبوابين يترأسها بنفسه، وتتطرق اجتماعاتهم الدورية فيما بعد إلى إنشاء جمعية استهلاكية تعاونية لخلق مناخ تضامني، ومشروع مدافن يؤويهم هم وعائلاتهم عند موتهم.

مشهد من فيلم “البحث عن فضيحة”

وخلال تطعيمات درامية، يتورط عبد السميع في زواج عرفي مع متلاعبة تحتال عليه، فينتهي الفيلم بالانتصار لحاكمية أخلاقية، فتنصر شخصية فرحات الذي يتراجع عن العمل مع عبد السميع، ويعود إلى شقته بين سكان العمارة المحترمين، ويجرد عبد السميع من مكتسباته، لكنه لا يتطهر منها كليا، بل يعود للبدء من جديد.

تتقارب معالجة شخصية البواب في فيلم “البيه البواب”، مع تناول “بواب المحروسة” لهذه الوظيفة خلال نفس المرحلة، إذ يذكر الفيلم أن دور الدولة في الثمانينيات، بدأ يتقلص في العلاقة مع المواطنين من حيث مسؤولية التضامن الاجتماعي، وبدأ انتشار خطاب سحب الدولة مسؤوليتها عن المواطنين، فنتج عن ذلك تدنٍّ في قيمة مردود الوظائف الحكومية، وتراجعت القدرة المادية على مواكبة متطلبات العيش، والبدء في البحث عن وظائف حرة ومرنة غير محكومة بهيكل نظامي، توفر فرصا لمواكبة صعوبة الحياة في هذا الوقت.

ثورة يناير.. بريق في مسيرة لاهثة خلف الحياة

خلال أحداث ثورة يناير 2011، تعطلت مؤقتا سمات العلاقة النفعية التي تفشت خلال سنوات مطلع الألفية، بين حارس العقار وسكانه. ففي هذه المرحلة تحول البواب إلى مشروع حر، يشمل توظيف العائلة كلها للعمل، في حين يبدأ الزوج بالبحث عن عمل آخر مجاور، لمضاعفة المردود المادي.

وهنا أصبح حارس العقار أكثر تطلعا، يرغب بأن يتخلى تدريجيا عن مسماه الوظيفي، أو أن يحوله إلى عمل شَرطي يقوم على كسب مردود مادي من السكان خارج إطار المرتب الشهري، إن أراد الساكن شيئا ما، وإلا فيتجاهله حارس العقار، ويبحث عن بديل مربح.

البواب يسكن مع عائلته في نفس العمارة ولكن إما فوق السطح أو في شقة صغيرة ملحقة

وقد حضرت ثورة يناير، لتخلق حالة من نزع هذه الثنائيات عن سياقها الطبقي، وما يمثله من صراع ضروري، لأن المطلب وقتها كان واحدا، متمثلا في إعادة هيكلة مجتمع عادل، لا يلهث أفراده يوميا لتمرير الحياة بلا أزمات، ومع انسحاب الشرطة من الشارع، تكاتف الجميع لحماية أنفسهم، وأصبح للبواب دور اجتماعي وأمني.

ولم يكن حدث ثورة يناير إلا محطة عابرة، ثم عادت الحال بعدها إلى الأسوأ، فصارت وظيفة حارس العقار ضرورة يلجأ إليها الباحثون عن فرص أفضل للعيش، لكن خلال تطورات مكانية أكثر تركيبا.

بواب المحروسة.. بحث عن لقمة العيش في كل فرصة سانحة

يذكر فيلم “بواب المحروسة” أن تاريخ وظيفة البواب لم يأخذ مساحة تاريخية كافية لتشكيل حالة من التوريث، لكن ثمة حالة من تداول المهنة بين الأقارب وأبناء نفس المحافظات والمناطق، فأحياء الهرم وفيصل عادة ما تستجلب حراسا من أبناء محافظة الفيوم، ومنطقة مدينة نصر تجلبهم من محافظة الشرقية، وأطراف القاهرة التي تشكل مدنا سكنية تجلب حراسها من المنيا.

أحياء الهرم تستقبل حراسها من محافظة الفيوم، ومدينة نصر من محافظة الشرقية، وأطراف القاهرة من المنيا

ولا تخضع مهنة البواب حاليا إلى هذه التقسيمة فقط، لأن مساحة النزوح إلى القاهرة ما زالت في تصاعد، لذلك نرى في “بواب المحروسة” شبابا يعملون في حراسة قصور أشخاص يعيشون في الخارج، ومهمة حارس العقار بها تمثل عملا إداريا، يبدأ من رعاية المكان وتنظيف حديقته وتشذيبها، والإشراف على تأجير المكان للمناسبات والحفلات، والتوسع في عمل الإشراف على أكثر من قصر بمرور الوقت، نظرا لأن الحاجة الوظيفية في هذه الأماكن تتوقف على عمل غير يومي.

وأما داخل القاهرة، فقد باتت آلية عمل حارس العقار أكثر تركيبا، بسبب التوسع المؤسسي في العقارات، فقد أصبح حارس العقار يعمل جانبيا على الهامش، بعيدا عن مسؤولياته تجاه المكان، وذلك بتوفير شقق تقل قيمة سمسرتها عن تكلفة مكاتب العقارات، أو اللجوء إلى أماكن نائية والاستقرار بها، لتوفير شقق للمقبلين على التجمعات السكنية البعيدة عن زحام القاهرة.

أنشطة خدمية فعالة للجان الشعبية أثناء ثورة يناير 2011

وتمثل مهنة حارس العقار اليوم تعريفات أكثر نفعية وتركيبا من أي مرحلة سابقة، وتتفاعل مع المناخ المحيط، وتشتبك معه نفعيا على نحو كبير، والحال في القاهرة الآن يقوم على استغلال حارس العقار كل فرصة سانحة، لتحقيق نسبة سمسرة أعلى.

أما العائلات النازحة مثلا من سوريا أو اليمن أو السودان، فلها تسعيرة إيجار مختلفة، نظرا لحاجتها الشديدة للسكن، وعادة ما تكون أكثر من ضعف القيمة المنطقية للعقار، في حين تُحدد قيمة الإيجار للمغتربين العاملين بالمدينة -ولا سيما- على حسب ما توفره المنطقة من تسهيلات وامتناع حارس العقار عن التدخل في شؤون الساكنين وحرياتهم الشخصية.