“شيكون”.. خراتيت إسرائيل تعبث بمجتمع الاحتلال المتصدع

حيرة الإسرائيلي وارتباكه وشعوره بوجوده في وسط غريب عليه، يجعله تائها، تطارده أشباح ضحاياه، يشعر بأن يديه ملوثتان بالدماء، لذلك يأتي أحيانا التحذير من هنا أو هناك، أو من مخرج سينمائي يصنع فيلمه وكأنه ينذر ويحذر من انفجار قادم.

هذا ما يشي به الفيلم الإسرائيلي الجديد “شيكون” (Shikun) للمخرج “آموس غيتاي” (2024)، الذي عرض في الدورة الماضية من مهرجان برلين السينمائي، وأثار كثيرا من النقاش، فمخرجه معروف بموقفه القديم الناقد للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وكان قد قطع مسافة في النقد السياسي في عدد من أفلامه السابقة، عبّر خلالها عن رغبته الدائمة في إمكانية العيش المشترك، بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

كلمة “شيكون” التي في عنوان الفيلم هي كلمة عبرية معناها “مجمع سكني”، ويدور معظم الفيلم في هذا المجمع السكني الإسرائيلي العتيق، الذي يبدو مكانا يحوي فئات وأصناف متناقضة من البشر، وقد اختاره المخرج “غيتاي” ليجعله رمزا مصغرا للمجتمع الإسرائيلي نفسه.

فيلم “شيكون” مزيج من الوثائقي والتمثيلي، مع ميل واضح للتجريب في الشكل السينمائي، في أسلوب السرد، وتحريك الممثلين، فيتخذ شكلا يبدو متنافرا مضطربا، لعله نفس الاضطراب الذي يعاني منه المجتمع الإسرائيلي المأزوم نفسه.

مجتمع الخراتيت.. سخرية عبثية من فاشية الاحتلال

في كثير من مشاهده، يصوغ المخرج “غيتاي” فيلمه كما لو كان فيلما وثائقيا، فهو يمزج بين شخصيات حقيقية وأخرى دخيلة يعلق بها على أحداث حقيقية، لكن في سياق شعري. وهو يستند إلى مسرحية “الخراتيت” (1959) للكاتب الفرنسي- الروماني الشهير “يوجين يونيسكو”.

وفيها يجسد غزو الخراتيت لبلدة فرنسية، فسكان البلدة يشاهدونها تعبر الشوارع، ولكنهم ينكرون وجودها في البداية، ثم يستسلمون ويتحولون تدريجا واحدا تلو الآخر إلى خراتيت، إلا شخصا واحدا يقاوم التحول، ويظل حتى النهاية يكافح وحده الاستسلام لمصير الآخرين.

إحدى الشخصيات المأزومة التي تظهر في الفيلم

كانت هذه المسرحية -التي تنتمي إلى مسرح العبث- احتجاجا صارخا على الفاشية التي انتشرت في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، وتحذيرا من عودتها إلى مجتمع ما بعد الحرب، والخشية من أن تصبغ المجتمع كله بصبغة أحادية تمنع الاختلاف، وتعيق حرية الفكر والاختيار، وتقمع الآخر والمختلف.

واستخدام “غيتاي” فكرة “الخراتيت” على نحو مخفف في فيلم “شيكون”، إنما يعبر عن رفضه الفاشية الإسرائيلية التي تتبدى في صعود اليمين المتطرف إلى السلطة.

“شيكون”.. مجمع سكني يعكس تصدع إسرائيل

يدور الفيلم يدور في الشيكون، وهو مجمع سكني من تلك الأبنية القديمة التي شيدت في الخمسينيات، لاستقبال المهاجرين اليهود من جنسيات مختلفة. أي أنه يرمز لمجتمع نرى بوضوح مدى تباينه وتناقضه وتنافره، من خلال الأشخاص الكثيرين المختلفين الذين يفدون إليه، يحمل بعضهم حقائبهم ويصحبهم شخص يشرح لهم فوائد الإقامة فيه ويعدهم بإقامة سعيدة.

إنه رمز مصغر للمجتمع الإسرائيلي كما يراه “غيتاي”، مجتمع يرقد فوق صفيح ساخن، وهو سينتقل خارج هذا المكان مرة واحدة، إلى موقف شاسع للحافلات يقع تحت الأرض، نرى فيه شخصيات أخرى.

شخصيات من الفيلم

ولكن إذا كان “شيكون” رمزا للمجتمع الجديد في إسرائيل بالماضي، فقد أصبح فيما بعد رمزا لنظام التمييز العنصري بين اليهود الشرقيين (السفارديم) واليهود الغربيين (الأشكيناز)، وأصبح مرتبطا بالحالة المزرية التي يعيشها اليهود الشرقيون الذين استقروا فيه، في حين مُنح اليهود الغربيون مساكن لائقة.

تتحدث جميع الشخصيات التي تظهر في الفيلم مع بعضها، ليس من خلال الحوار فيما بينها، بل من خلال شكل أقرب إلى “المونولوغ”، أي أنها تخاطب نفسها. وتكشف أحاديثهم ومناجاتهم لذواتهم عن شعورهم بالاغتراب عن بعضهم، ومحاولات بعضهم إما تبرير الذات (الصهيونية)، أو التعبير عن الشعور بالذنب من الماضي الملوث بالدماء، أو رفض السياسة الرسمية.

شخصية الفيلم الكبرى.. صوت السرد الصارخ الساخر

الشخصية الرئيسية أو الأكثر حضورا في الفيلم، فهي شخصية امرأة لا اسم لها، تقوم بدورها الممثلة الفرنسية- السويسرية “إيرين جاكوب”، تتحدث بالفرنسية وتخاطبنا مباشرة وهي تنظر إلى الكاميرا، أو توجه حديثها إلى من تناديه بـ”أنت”، أي الجمهور الإسرائيلي، وهي تظهر كثيرا، تقطع الحدث، نراها نحن ولا يراها أو تلتفت إليها الشخصيات التي تظهر تباعا في الفيلم، فهي تقوم بدور مماثل لدور الكورس أو الجوقة في التراجيديا الإغريقية.

إنها تنذر وتحذر وتسخر، وتعيد تكرار الكلمات، بل تصرخ أحيانا كما لو كان الواقع الذي تصفه قد أفقدها القدرة على كبح جماح نفسها، محذرة من العنف، ومن ظهور “الخراتيت” في الخارج.

ومن حولها يمر اثنان من اليهود المتدينين الأرثوذكس (الحريديم)، يناقشان ترتيب تزويج فتاة بضد إرادتها، ثم محارب قديم خاض الحروب الإسرائيلية مع العرب، ثم أحد الناجين من المحرقة يتذكر ما مر به، ثم مهندس معماري معه مقاول محتال، يناقشان إقامة معبد يهودي جديد في هذه المكان، بحيث يستفيدان أكبر استفادة من المشروع.

يوميات المجمع.. مجتمع يسبح في عالم من المفارقات

ما بين آونة وأخرى تظهر امرأة معلمة، تدرّس العبرية لمجموعة من الشباب الجدد الوافدين إلى إسرائيل حديثا بغرض العمل، من أوكرانيا والهند وبيلاروسيا وغيرها. تتحرك الكاميرا كثيرا داخل هذا المبنى القديم بردهاته وسلالمه، مع انتقالات سريعة من شخصية إلى أخرى، قبل أن تكتمل الحوارات فيما بينها.

إيرين جاكوب تنقب في المكتبة عن الحقيقة

في الطابق الأرضي تظهر بين وقت وآخر امرأةٌ عربية (فلسطينية)، تصنع رداء يمكن وضعه على الرأس لقرني الخرتيت، نراها تتحرك أحيانا على دراجة نارية، وحينا آخر وهي ترتدي رداء القرنين على رأسها، في حين تراقبها “إيرين جاكوب” وتعلق على ما تفعله، وتسألها فلا تجيب، وذلك بقصد السخرية مما يحدث في الخارج، من التحول السياسي الذي جعل الكثيرين يصمتون أمام صعود اليمين المتطرف.

ينتقل الفيلم في الجزء الأخير، من داخل ذلك المبنى القبيح المتعدد الغرف الذي شيد في بئر السبع بصحراء النقب في الخمسينيات، إلى محطة حافلات تحت الأرض في تل أبيب، حيث تزأر المحركات، فنرى جوقة موسيقية من الشباب اليهودي تنشد نشيدا دينيا، وفتاة فلسطينية مع حبيبها يتناقشان حول الواقع المخيف الذي أصبح لا يطاق، وفتاة تعمل في مكتبة مؤقتة في أحد أركان هذا المكان.

“آموس غيتاي”.. تذبذب بين رفض اليمين واعتناق الصهيونية

كان “آموس غيتاي” قد عبر في أفلامه السابقة عن رفضه لسياسات اليمين الإسرائيلي، وكثيرا ما صور دموية المشروع الصهيوني، لا سيما في أفلامه الأولى، ودعا إلى ضرورة التعايش والاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، ولكنه ظل يتأرجح في مواقفه طبقا لما يطرأ من متغيرات سياسية، فحينا ينتقد العسكرية الإسرائيلية، وحينا آخر يؤكد عدم قدرته على الانفصال عن المشروع الصهيوني تماما.

لذلك تبدو أفلامه الحديثة مضطربة، تدين اليمين لكنها لا تدين المشروع الصهيوني من أساسه، وقد يقدم شرحا تفصيليا للظروف التي أدت إلى اغتيال “رابين” مثلا، من دون أن يلمس ارتباط الصهيونية السياسية بالتطرف من البداية.

إنه ما زال مغرما بحركة الكاميرا الطويلة التي تحقق اللقطة- المشهد، وهي التي يفتتح بها فيلمه هذا وتتواصل هذه الحركة أكثر من 10 دقائق، تصعد من الطابق الأرضي إلى الطابق الأول من ذلك المبنى الكئيب، وتسير في الردهات الطويلة في هذا المكان الذي يتخذه رمزا للتحول الذي شهدته إسرائيل، من الأمل في بناء مجتمع جديد في الخمسينيات على أنقاض المجتمع الفلسطيني، إلى أن أصبحت سجنا كبيرا كئيبا، يخفي الخوف والقلق والرعب من الآخر.

ومع حرصه على إبراز حضور الممثلة “إيرين جاكوب” التي تنذر وتحذر، فإنه يهتم أيضا بتجسيد الحركة في الخلفية أو على جانبيها، لكي يتغلب على الطابع الإحصائي للفيلم، ولكن من دون نجاح يذكر. فالفيلم يعاني من الطابع المسرحي الجامد، ومن كثرة الوصف دون تحقيق تطور في الموضوع، مع كثير من الغموض والارتباك الناتج عن الخلط بين الوثائقي والتمثيلي.

لقطة للمخرج وفريق الفيلم أثناء تصوير أحد المشاهد

هل يقصد الفيلم أن الخراتيت الذين تحذر من ظهورهم “إيرين جاكوب”، هم أتباع اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي أصبح يتحكم في مجريات الأمور والسياسات، لا سيما لو علمنا أن “غيتاي” صنع فيلمه هذا قبل عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتحديدا في ضوء الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها إسرائيل كرد فعل على رغبة حكومة اليمين بزعامة “نتنياهو” في إحكام قبضها على السلطة القضائية وتقليص دور المحكمة الدستورية العليا.

“لقد كنت أنفذ الأوامر فقط”.. هجاء سينمائي

بعد عرض الفيلم في مهرجان برلين، تحدث “غيتاي” فقال إن إسرائيل أصبحت مهددة في الوقت الحالي بوجود “نتنياهو” وصعود اليمين الديني المتطرف، وإنه يتعين على الجميع تغيير ذلك ولكن بالطرق السلمية. وجاء حديثه ردا على تساؤلات كثيرة غاضبة من بعض الألمان، منهم من طالب وزيرة الثقافة الألمانية بضرورة مقاطعة إسرائيل ثقافيا، وكانت الوزيرة قد حضرت الفيلم والنقاش الذي أعقبه.

قد يبدو الفيلم عملا هجائيا ضد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، لا سيما عندما نرى تركيزه على فكرة اقتبسها “غيتاي” من مقال شهير نشرته صحيفة “هآرتس” بعنوان “ماذا ستقول لأبنائك؟” والمقصود: عندما يسألونك عما مارسته من عنف في الماضي على “الآخر” الفلسطيني. والإجابة التي تتردد في الفيلم على نحو ساخر لتكشف الموقف غير الأخلاقي، هي “لقد كنت أنفذ الأوامر فقط”!

هذا التساؤل يدفعنا إلى التساؤل التالي مباشرة: وماذا يمكن أن يقول “غيتاي” ويفعل أمام ما يحدث من مجازر وعمليات إبادة جماعية في غزة منذ ما بعد السابع من أكتوبر؟ هل ما زال “خراتيت” إسرائيل يهددون إسرائيل، أم أصبحوا يهددون الحضارة الإنسانية بأسرها؟