“عن العشب الجاف”.. صراع وجودي على حافة اليأس والأمل في قرية تركية نائية

يعترف المخرج التركي الكبير “نوري بيلجي جيلان” في أحد حواراته أن له روحا روسية، فحين قرأ -وهو ابن 19 عاما- رواية “الجريمة والعقاب” للكاتب “فيودور دوستويفسكي” لم تعد حياته قط لما كانت عليه قبلها، ثم وجد فيما بعد ضالته في أدب “أنتون تشيخوف” الأقرب لروحه، وهو يكرر أن لا شيء أثر في حياته أو في سينمائه مثل الأدب الروسي، وأنه يفكر في شخصيات أفلامه دائما بمنظور كُتّابه، لا سيما “دوستويفسكي” و”تشيخوف”.

وتبدو تجربة مشاهدة أحدث أفلامه “عن العشب الجاف” (Kuru Otlar Üstüne) كأنها قراءة في رواية ضخمة من العصر الذهبي للأدب الروسي، لكنها تدور في زمننا الحالي. أريد أن أصف جيلان بأنه الأكثر روائية بين كبار مخرجي السينما، ولا يقلل ذلك من نقاء سينمائه، فإيقاعه في تقديم الشخصيات وجوانية سينماه وحواراته أدبية الطابع بلا شك.

في أحدث أفلامه “على العشب الجاف” (2023)، يغوص “جيلان” مجددا بإيقاعه المتأمل والحزين في موضوعاته الغارقة في تقلبات الوجود الإنساني، يرمي بنا بين شخصياته المتعبة وكأنها عاشت أعمارا فوق عمرها، شخصيات تحمل عبء تاريخ يتجاوزها، شخصيات أنهكها الأمل كتاريخ بلادها.

أبطال “جيلان”.. شخصيات يتلاشى بريقها على خط السرد

يفتتح المخرج “جيلان” فيلمه بإطار مغطى بالبياض، فالأرض مفروشة بالثلج المتساقط، في حين تتقدم شخصيته الأساسية “ساميت” (الممثل دينيز جليل أوغلو) نحونا من عمق الإطار، وما يصلنا من الإطار هو صدى عزلة عميقة، عزلة المكان وعزلة الشخصيات وكأنها عزلة مضاعفة، وبينما تغوص قدماه في طبقات الثلج وتتعالى أنفاسه، ندرك أن كل شيء هنا يأخذ وقتا أطول، كل شيء لا يخلو من صعوبة في تلك البقعة النائية من العالم، حتى المشي.

تبدو شخصيات جيلان دائما عالقة في شباك المكان، مأخوذة بحلم الذهاب بعيدا عن هذا المكان الذي ينهش أرواحهم ببطء، إنهم بانتظار الحياة بعيدا عن هنا، وكأن الحياة دائما في مكان آخر، على حد تعبير الكاتب “ميلان كونديرا”.

شخصيات جيلان العالقة في فخ المكان

يقضي “ساميت” السنة الأخيرة في فترة خدمته الإلزامية مدرسَ فنون في قرية نائية من قرى الأناضول الفسيح، وهو يعدّ الأيام بانتظار نقله إلى إسطنبول، يملؤه المكان وأهله بالمرارة والسخط، كمثل حجر في مياه أيامه الراكدة، يطاله اتهام بممارسة سلوك غير لائق مع طالبتين لديه، فيصبح خائفا من تداعيات فضيحة محتملة.

يلتقي أيضا بمدرّسة في مدينة قريبة تدعى “نوراي” (الممثلة ميرفي ديزدار)، كانت قد فقدت ساقها في حادث تفجير انتحاري في أنقرة، لكنه لا يبدي اهتماما بها إلا حين تميل إلى زميله في المدرسة والسكن “كنان” (الممثل مصعب أكيجي)، فيشكل الثلاثي مثلثا من الرفقة المتشاحنة، مع شيء من الإثارة العاطفية والجنسية.

يعتمد “جيلان” بشكل فضفاض على مذكرات كتبها كاتب السيناريو المشارك “أكين أكسو”، وكان قد شاركه في كتابة هذا السيناريو، مع زوجته “إبرو” التي أصبحت رفيقته في الكتابة منذ فيلمه “مناخات” (Iklimler).

إن “ساميت” شخصية “جيلانية” بامتياز، يظهر في البداية شخصا لطيفا ومحبوبا لدى محيطه، ومع تقدم السرد واقترابه منه يتلاشى لطفه، فيظهر أنانية وقدرة على الأذى ضد تلميذته المفضلة “سيفيم” (الممثلة إيجي باقجي) وصديقه “كنان”، ولديه أيضا -كبقية أبطال “جيلان”- مبالغة في تقدير الذات، ونظرة تعالٍ أخلاقية وثقافية.

اللقطة التأسيسية للفيلم.

“لا يتعلق الأمر بما حدث بل بما هو غير مرئي”

لا يخطئ “جيلان” قط بجعل شخصياته أبطالا، بل يعرّيهم حتى يصبحوا مثيرين للشفقة أكثر من التعاطف، وهي تتشابه في أكاذيبها، في عزلتها وأقنعتها التي تحرمها من التواصل الحميمي مع الحياة والآخرين. تقول “نوراي” في مواجهة لها مع “كنان”: يخيل إلي أن كل ما هو جميل في هذا العالم يعلق في تلك الشباك التي نغزلها حول أنفسنا، فلا يصل إلينا قط.

لا كثير يحدث على السطح في سينما “جيلان”، فصوره تكاد تكون متحررة من عبء السرد، وما يحدث هو مجرد محفز لعملية استكشاف بطيئة ومتأملة لدواخل شخصياته، فكل شيء مصمم في سينمائه لسبر أعماق شخصياته.

يحكي الفتى العاطل عن العمل في الفيلم، أنه حين كان طفلا جاء الدرك وأخذوا والده من سريره، ولم يعد بعدها قط، لكن كل ما تَذكّره من تلك الليلة الأليمة كان وميض الموقد المنعكس على السقف. تستكمل الشخصية تأملها، فتقول: ثم أدركت أن الأمر لا يتعلق بما حدث بل بما هو غير مرئي، بما يجري في الداخل.

لا أظن أن هناك جملة تصف جوهر سينما “جيلان” أكثر من كلمات هذه الشخصية، إنها سينما مشغولة بالداخل، فما لا يرى فيها أكثر مما يرى، سينما يظل فيها ما هو أكثر أهمية غير قابل للقول.

تناقض الشخصيات المتأرجحة.. جزء أصيل من النفس البشرية

يقول المؤرخ والراهب “تيرانيوس روفينوس” على لسان إحدى شخصيات الفيلم: أنا إنسان وما من شيء إنساني بغريب عني.

لا تخلو أفلام “جيلان” من تعليقات سياسية واجتماعية، لكن السياسة لديه عابرة، فأعماله متجذرة أكثر في استكشاف القضايا الوجودية، كالاغتراب وتناقضات الحالة الإنسانية وغموضها الأخلاقي، لكن ما هو ملفت دائما في أفلامه هو هذا التناقض الحاد الذي يضرب شخصياته، سواء داخلها أو في علاقتها بالآخر، وهو بهذا التناقض يسعى إلى محاولة فهمه وتقبله، بوصفه جزءا من الحالة الإنسانية.

الملصق الرسمي للفيلم

لقد فاجأ اتهامُ الطالبتين شخصياتِ الفيلم، ولا سيما “ساميت”، فكيف لفتاته المفضلة “سيفيم” وزميلتها أن تتهماه بمثل هذا الاتهام، إنه حائر وغاضب، لأنه لا يفهم ولذلك لا يستطيع تجاوز الأمر، ثم يبدأ بعدها في إظهار نوع من القسوة والتعالي ضدها وضد بقية طلابه.

لطالما أزعج تناقض الآخرين “ساميت”، لكنه غافل عن تناقضاته الشخصية. يحكي “فاهيت” -وهو طبيب بيطري يسامر ساميت- أنه عالج بقرتين لأحد الرجال، ثم جاء هذا الرجل وأطلق النار على كلبه، ويتساءل “فاهيت” عن السبب قائلا: لماذا؟ لأنه إنسان.

يندهش “ساميت” حين يلتقي فتاة من فصله، كان قد لاحظ أنها اختارت حذاء أصغر من مقاسها في الإعانة المدرسية، فنراه يعجب وهو يرى الحذاء في قدمي أختها الصغرى، في حين أنها هي لا تزال تنتعل حذاءها المهترئ. لا حكم أخلاقي هنا في سينما “جيلان”، علينا أن نتقبل هذه التناقضات في شخصياته المتأرجحة بين اللطف والغيرية، وبين الأنانية والعنف. هذا جزء أصيل من كونك إنسانا.

فريق عمل الفيلم في النسخة الأخيرة لمهرجان كان

عن العشب الجاف.. روح سينمائية ذات عمق فلسفي معبر

سينما جيلان موسومة بجماليات البطء، حيث اللقطات الطويلة الممتدة والكاميرا الساكنة المتأملة والإيقاع شديد التمهل، تبدو صورته لعبا متوازنا بين الفوتوغرافي والفن التشكيلي، لقطات الطبيعة والأماكن المسكونة بروح النسيان والضجر وكأنها مرآة لمزاج شخصياته.

في أفلامه الأولى كان الصمت هو السمة الغالبة، لكن فيما بعد بات أميَل إلى الحوارات المطولة والجدالات الفلسفية، فتلك وسيلة جديدة يستخدمها لتعرية ضعف شخصياته والاقتراب من حقيقتهم الداخلية، لكن الملاحظ أنها حوارات تخلو من الحميمية والبوح، بل تبدو في الأغلب مثل دوران في تلافيف عزلة شخصياته.

حين نتأمل الحوار بين “ساميت” و”نوراي” في بيتها عند دعوتها له للعشاء، نجده مثل صراع مشحون بين الطرفين، حتى في لحظات السكون والبوح لا يبدو “ساميت” قادرا على الكشف عن نفسه بشكل مباشر، فيفضّل أن يغلف بوحَه بطبقة من السخرية.

تظهر في فيلم “جيلان” الأحدث هذا لمستان جديدتان، وإن اتسقتا مع روح جمالياته. اللمسة الأولى، تلك اللحظة البريختية (نسبة إلى المسرحي “برتولد بريخت”) التي يتجمد فيها زمن الفيلم، حين نشاهد “ساميت” يخرج من ديكور شقة “نوراي” إلى موقع التصوير.

يأتي هذا المشهد مفاجئا وفي لحظة حاسمة دراميا، إنه جزء من إستراتيجية “جيلان” لإبقاء مسافة بيننا وبين شخصياته لا تسمح بالتماهي معها، فيكون المشهد أقرب لدعوة للتفكير فيما سيقبل “ساميت” على فعله مع “نوراي”. فهل هو بدافع الحب، أم أنه ليس إلا تعبيرا عن غيرته ومحاولة لجرح صديقه وإيلامه؟

هناك أيضا تتابعات الصور الفوتوغرافية التي التقطها “ساميت” لسكان القرية، وهي لا تخفي اهتماما بهم وفضولا تجاههم، بل إنها أيضا تضع مسافة غير عاطفية بينه وبينهم.

“كل ما حدث كانت له قيمة”.. عصارة التجارب

ينهى “جيلان” فيلمه بلقطة يظهر فيها “ساميت” وهو يتأمل مُقامه في القرية بعد انتهائه، ويبدو من حواره الداخلي أنه يرى نفسه والعالم بمنظور جديد، لا ينكر الأمل، ويعترف بقيمة تلك السنوات التي انقضت. ثم يخبرنا وهو يصعد تلا مغطى بأعشاب جافة، أن كل ما حدث كانت له قيمة.

كانت إقامته بحثا عن إمكانية لتجاوز الجمود الوجودي داخله، كانت “سيفيم” المفعمة بالحميمية وعنفوان الحياة نوعا من الأمل، يعود للتمسك به في النهاية حين يتمنى أن يرى العالم بعينيها.

داخل شخصيات “جيلان” المضروبة بالعزلة حنين خفي، خفي حتى عن الشخصية نفسها، حنين للتواصل مع الحياة على نحو أكثر حيوية وحميمية، حنين مثل ذلك العشب الجاف تحت طبقات شتاء قارس لا يعيش طويلا، إثر تقلبات الطبيعة الحادة.