“كثيب”.. ملحمة سينمائية تنصر المستضعفين وتنتقد سردية المنقذ الأبيض

بدأ افتتان المخرج السينمائي “دينيس فيلينوف” بملحمة “كثيب” للكاتب “فرانك هربرت” منذ كان مراهقا في كيبيك الكندية، فقد كان هو وصديقه المقرب يقضيان وقتهما وهما يرسمان أحداث وشخصيات الكتاب، وهو كتاب يراه بعض القراء إنجيل أدب الخيال العلمي في القرن العشرين.

حين صدرت نسخة “ديفيد لينش” السينمائية المقتبسة من “كثيب” عام 1984، شعر “فيلينوف” بالإثارة، ولكن التجربة تركته غير راضٍ، فقد كان الفيلم بعيدا عن إحساسه وتخيلاته عن الرواية، ثم صار اقتباسها سينمائيا هاجسا لديه، وحلما تمنى أن يُمنح فرصة تحقيقه، وقد شعر أن الوقت قد حان لملامسة حلمه بعد إخراجه فيلم “وصول” (Arrival) و”صائد المستنسخين” (Blade Runner 2049).

يقول “فيلينوف” إنه جلس مع الموسيقار “هانز زيمر” قبل العمل على موسيقى مشروعه السينمائي الكبير، فقال له: “كثيب هو أحد أكبر أحلامي، إنه الفيلم الذي طالما أردت أن أصنعه” ، فنظر إليه “زيمر” نظرة جادة، ثم قال “من الخطر محاولة الاقتراب من الشمس”.

ظهر الفيلم الأول من سلسلة “كثيب” (Dune) في عام 2021، وحقق نجاحا جماهيريا ونقديا كبيرا. وفي مارس/ آذار من هذا العام بدأ عرض الفيلم الثاني منه حول العالم، فحقق نجاحا أكبر من سابقه، وقد كتب المخرج “فيلينوف” نص الفيلم بالتعاون مع “إريك روث” و”جون سباهتس”.

“كثيب”.. حروب السيطرة على الكوكب الثري

في زمن مستقبلي بعيد ومجرة بعيدة، تدور أحداث فيلم “كثيب” بجزأيه الأول والثاني، وفي هذا المستقبل يستطيع الإنسان التنقل بين المجرات المختلفة، باستخدام مادة تُدعى “السبايس”، وهي توجد حصرا على كوكب أراكيس، وبسببها يتعرض هذا الكوكب وسكانه من “الفريمن” لاستغلال الإمبراطورية التي تحكم عالم “كثيب”.

يبدأ الفيلم الثاني من السلسلة من حيث انتهى الفيلم الأول، فقد استعادت جيوش الهراكنة السيطرة على كوكب أراكيس وعلى إمداداته من السبايس، وهي المادة الأعلى قيمة في هذا الكون الخيالي، وقد جرى ذلك بعد أن أباد الهراكنة آل “أتريديس” بتواطؤ مع الإمبراطور، وحينها يتحد “بول أتريديس” (الممثل تيموثي شالامي) ووالدته “جيسيكا” (الممثلة ريبيكا فيرغسون) مع الفريمن، للانتقام من الهراكنة والإمبراطور.

يعتقد بعض الفريمن -وفقا لنبوءة قديمة- أن “بول” هو “المهدي” أو “لسان الغيب”، وهي أسماء مخلصهم الموعود، ومن سيحيل كوكبهم الصحراوي إلى جنة عدن، وقد زرعت هذه النبوءة وروجتها أخوية سرية من النساء، تدعى “بيني جيسريت”، تنتمي لها “جيسيكا” والدة “بول”.

يرفض “بول” أن يكون مسيح الفريمن أو مخلصهم، ويرغب في الانتقام لأبيه ومساعدة الفريمن لتحرير أراكس من دون عون النبوءة، بينما تؤجج والدته لهيب أسطورته بين المؤمنين به، وحين تأتيه ومضات من رؤى المستقبل يرى فيها حربا مقدسة تشن باسمه ويموت ملايين بسببه، فإنه يشعر بالجزع، فهو لا يريد أن يصعد إلى مصيره على أجنحة الرؤية، ويؤمن أن من حق الفريمن أن يجدوا مخلصا لهم من أنفسهم.

صراع أقطاب العالم أيام الحرب البادرة.. روح الرواية

صدرت رواية “كثيب” عام 1965، وقد كتبها “فرانك هربرت” مستلهما من روح القرن العشرين، وقد حاول أن يرسم صورة لحالة العالم في ستينيات القرن الماضي، ففي روايته يتجسد عالم استعماري يستغل فيه الإمبراطور وحلفاؤه الشعوب الأشد فقرا، وينهبون مواردهم الطبيعية.

كانت الرواية أيام وقت صدورها ذات صلة بعالمها سياسيا وبيئيا، وبعد أكثر من نصف قرن من صدورها ربما لا تزال أفكارها أكثر ارتباطا بعالم اليوم، فهي تحمل بصيرة خاصة بالنظر إلى تشابهها مع تاريخ صراعات الشرق الأوسط مع القوى الاستعمارية، وهي تصلح في بعض مستوياتها لأن تكون قصة رمزية للاستعمار الغربي للشرق الأوسط، سعيا وراء النفط.

شخصيات الفيلم

تقسّم رواية “هربرت” الاستعمار إلى مستعمر جيد وسيئ، وهو صدى واضح لزمن كتابتها، أما الهراكنة فهم وجه الاستعمار الشرير، وأما آل “أتريديس” فهم الوجه المتحضر، ويبدو الهراكنة مجازا عن روسيا، في حين يمثل آل “أتريديس” أمريكا، أما الفريمن فهم سكان أراكس الأصليين، وهم أقرب لشرقنا الأوسط بأزيائهم وثقافتهم ولغتهم المتجذرة في تدفق ونبرة اللسان العربي. إن ظلال “لورانس العرب” والأوهام الاستعمارية لَتلوح في أفق الحكاية.

يبدو أن المُخرج “دنيس فيلنوف” في نسخته السينمائية يحاول أن يتجنب فخ رؤية “هربرت”، فنرى أنه اتخذ خطاب “بول” -وهو البطل المركزي في السرد- وعيا مضادا للفكر الاستعماري، فهو يرفض أن يكون المخلص أو المنقذ الأبيض لشعب الفريمن، لكنه ينقلب على نفسه وعلى خطابه في الثلث الأخير من الفيلم، ومع ذلك تبقى “تشاني” (الممثلة زندايا كولمان) هي سلاح “فيلينوف” السري في مقاومة الانزلاق لرؤية “هربرت”.

“تشاني”.. مقاتِلة المستعمرين التي وقعت في الحب

تختلف “تشاني” هنا عن نسختها الروائية تماما، فهي في الرواية ليس إلا تابعة شديدة الإخلاص لـ”بول” في مسعاه نحو السلطة، وتقف مع والدته ليكونا جبهة موحدة ضد معارضيه، وهي في نفس الوقت ترفض فكرة المخلص، إذ تجد أن إيمان بعض قومها بهذه الفكرة كفيل بسجنهم عقليا.

إنها واضحة تماما في رؤيتها لجوهر الخطاب الاستعماري، وتردد في أول ظهور لها في الجزء الأول “من سيكون مضطهدونا القادمون؟” وذلك حين يقرر الإمبراطور تبديل الهراكنة بآل “أتريديس” في حكم أراكيس. إن الأمر في رأيها ليس أكثر من استبدال مستغل بمستغل آخر.

يكره الفريمن الغرباء، وهذه الكراهية نتاج قرون من الاستعباد، ومع ذلك فهناك شيء ما بشأن جعلها تستثني “بول” من هذه الرؤية وتقع في حبه، فقد بدا لها نزيها وصادقا بشأن نيته، وهو يخبرها عن هاجس خسارته إياها إذا مضى نحو الجنوب، حيث يتركز المؤمنون بالمخلص، فتخبره أنه لن يخسرها ما دام على حاله لم يتغير.

طبيعة بيئة الهراكنة البلاستيكية والمونو كرومية في مقابل طبيعية صحراء أركس

تمنحنا “تشاني” فرصة حقيقية لرؤية تحول “بول” إلى شخصية مظلمة سكرى بأحلام القوة، فتتركه حين تحول لأسوأ كوابيسه، بعد أن خانها امرأةً وفدائيةً من الفريمن، وحينها تضع ولاءها لشعبها فوق ولائها لحبيبها، بعد أن أصبح أحد المستعمرين الذين طالما قاتلتهم. هذه المركزية التي يمنحها الفيلم لشخصية “تشاني” تقف مع نضالات الشعوب المستعمرة، ومع ذلك فهي مفخخة بسردية المنقذ الأبيض التي يدعمها الفكر الاستعماري.

ينغلق قوس السرد في الفيلم الثاني من سلسلة “كثيب” بقبول “بول” مصيره، ويصبح المسيح المنتظر مع إدراكه لتكلفة هذا القرار، فيبدو الفيلم وكأنه يدور عن صعود وسقوط “بول أتريديس”، وملامح البطل التراجيدي المنساق وراء مصير طالما رفضه.

تحولات الشخصية.. تكرار مأساة “مايكل كورليوني” في سينما الخيال العلمي

حزِن كاتب الرواية “فرانك هربرت” عندما أدرك أن الناس يرون الرواية احتفالا بـ”بول أتريديس”، فقد أراد أن يقدم حكاية تحذيرية من سردية المخلص الأبيض، وأما فيلم “فيلينوف” فيحاول أن يكون أكثر إخلاصًا لنيات كاتب الرواية “هربرت”.

نرى “بول” منذ بداية رحلته شخصية معقدة ومعذبة بأحلامها، لكنها بريئة ومتعاطفة، ثم نراه طيلة السرد رافضا أن يعانق نبوءته، لأن أحلامه أخبرته أن ذلك يعنى موت ملايين الضحايا، ثم يأتي هذا التبدل العنيف في شخصيته نهاية الفيلم، فيكون أقرب ما يكون لتحول “مايكل كورليوني” في فيلم “العراب” (The Godfather) لمخرجه “فرانسيس فورد كوبولا”، إنه يجسد ما أراد تجنبه. نحن هنا أمام مأساة أوديبية (نسبة لأسطورة أوديب الإغريقية) غامضة، عن طفل يندفع نحو النتيجة المشؤومة التي حاول بأقصى ما يستطيع تجنبها.

يبرع الممثل “تيموثي شالامي” في الإمساك بتناقضات “بول”، فيمنحنا إحساسا بجرحه الداخلي وتشوشه، ومع ذلك يشع بقوة غامضة، يؤطره المُخرج “فيلينوف” بتكوينه الجسماني الضئيل والهش أمام شساعة المحيط وقسوته، فيبدو إنسانا في قبضة قدره الذي لم يختره. هذا التحول العنيف والمهدد يجسد رؤية كاتب الرواية “هربرت” التي تقول إنه ربما لا يوجد ما هو أكثر كارثية من أن يقع شعب في قبضة بطله المنتظر.

إبهار الفيلم.. ملحمية لا تهمل عوالم الأبطال الداخلية

بدا كل شيء أكثر ثراء وديناميكية وإبهارا في الجزء الثاني من السلسلة، بداية من الحبكة إلى البصريات التي تخطف الأنفاس بعناقات مدهشة بين اللون والضوء، فالمخرج المخرج “دنيس فيلينوف” يحب أن يعمل بشغف، ويتميز بدأب رسام المنمنمات وعينه الهائمة بالتفاصيل الدقيقة، إنه ملحمي وحميمي معا، وذلك ما يناسب قصة بضخامة وتعقيد وحميمية “كثيب”.

يميل الجزء الأول من السلسلة بطابعه التأسيسي إلى أن يكون ذا إيقاع تأملي، وأما الجزء الثاني فينحاز لإيقاع الحركة والمغامرة، حتى يلقي ما يشبه السحر على مشاهديه بأسلوبه الثابت والمتوازن، فيغمرهم برؤى خيالية أصيلة وملفتة بجمالها، لمشهديات تتأرجح بين مناظر الصحراء الشاسعة، وبين وجوه أبطاله.

ومع ذلك فإن ميل المخرج نحو الضخامة والملحمية لم يثنه عن ولعه بالاستبطان، كما فعل في فيلميه “وصول” و”صائد المستنسخين”، فبين مشاهد الانفجارات وإيقاع المعارك تستقر عدساته على تعبيرات شخصياته ولغة أجسادهم، وهو ما يجذب مشاهديه إلى المدارات الداخلية، إلى عالم المشاعر والصراعات الإنسانية.

“أردت أن أكون حقيقيا قدر الإمكان”.. صناعة الصورة

لا يقدم المخرج “فيلينوف” أي تنازلات جمالية، بل يخلق توازنا دقيقا بين التصوير الطبيعي واستخدام المؤثرات البصرية، وهو يفضل تصوير المناظر الطبيعية الحقيقية طوال الوقت، واتباع الضوء الطبيعي دائما، كما ينجح في دمج المؤثرات الخاصة بتناغم في النسيج الطبيعي للفيلم، بحيث تصبح قابلة للتصديق تمامًا. وهو يقول في حوار له عن الفيلم “أردت أن أكون حقيقيا قدر الإمكان”.

يتتبع تصوير الفيلم أثر فكرة “هربرت” عن مدى تأثير البيئة على أجساد وأرواح ساكنيها، فإذا أردت أن تعرف الفريمن عليك أن تراقب الصحراء، فهم على صلة وثيقة بالطبيعة، وأما الهراكنة فيعيشون في كوكب بلاستيكي لا ألوان له، فكل شيء أبيض أو أسود، ويمنحنا ذلك أفكارا عن رؤيتهم العنيفة للعالم، فكوكبهم عالم فاشي لا يعرف اللون، وعائلة “هاركونين” قاسية جدا، ومجتمعهم مصاب بجنون.

أرى أن كل مشهد في فيلم “فيلينوف” يحمل بصمة إخلاصه وشغفه بالعالم الروائي الذي فتنه منذ عقود، فيشعرك كل إطار بمحبة وتأمل رهباني للمادة التي يشكلها. لا أعرف هل آن الأوان لنقول إننا أمام واحد من أفضل إنتاجات الخيال العلمي خلال هذا العقد السينمائي.