نجيب محفوظ.. في وجه المدفع بعد “أولاد حارتنا”

في مثل هذه الأيام قبل نحو 31 عاما حصل الأديب المصري نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الأدب، وبهذه المناسبة تفتح الجزيرة الوثائقية ملف هذا الأديب بما له وما عليه في أربع حلقات، وفي الحلقة الثانية بعنوان “النجيب.. آفة حارتنا النسيان” تنطلق منذ لحظة توقفه عن الكتابة بعد ثورة 1952 ليسرد مرحلة جدية في حياته وهي توجهه لكتابة سيناريو أفلام سينمائية، ثم عودته مرة أخرى لكتابة الأدب في أواخر الخمسينيات عبر الرواية المثيرة للجدل “أولاد حارتنا” التي أثارت جدلا واسع في الأوساط الدينية والسياسية ودفعت العديد إلى تقديم شكاوى ضده.

حبيب مايابى 

في سنة 1959، أودع مجموعة من الكتاب والمثقفين في مصر شكاية لدى النائب العام تتعلق برواية كانت شخوصها وأحداثها تُعارِض معتقدات الأمة وثوابتها.

عنوان تلك الرواية ” أولاد حارتنا” وكاتبها هو الأديب نجيب محفوظ.

ورغم ما أثارته من جدل وصخب بين جميع مكونات الشعب، فإن كاتبها فضّل السكوت وعدم نقاش الأمر تفاديا للصدام مع المجتمع.

وضمن سلسلة نجيب محفوظ التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية كانت الحلقة الثانية بعنوان “آفة حارتنا النسيان” تركز على السياق الزمني الذي شهد فيه مسار محفوظ الأدبي تحولا كبيرا أملته التحولات السياسية والاجتماعية التي كانت تمر بها جمهورية مصر.

بين السينمائيين

بعد ثورة الضباط عام 1952 توقف نجيب محفوظ عن الكتابة، ولم يذكر سببا واضحا لتوقفه، واختلف النقاد في بيان السبب بين من قال إنه توقف خوفا من الثورة ومن قال إنه توقف لأن الثورة حققت الأحلام ولم يعد من دور للكُتّاب، ومن قال إنه تعب بعد ثلاثيته.

يقول الناقد السينمائي رامي عبد الرزاق إن محفوظ بعد قيام الثورة توقف عن الكتابة لمدة خمس سنوات، وبعد ذلك قرر الانتساب لنقابة المهن السينمائية ليكون بذلك أول أديب يمارس السينما بشكل احترافي في تاريخ الدراما المصرية.

والحقيقة أن تاريخ نجيب مع السينما قديم ويرجع لأيام الطفولة، حيث كان يذهب للسينما مع والدته منذ كان في الخامسة من عمره.

وقد تزامن عزوف نجيب عن الكتابة وعالمها مع توقف المخرج والمنتج ورمز الواقعية السينمائية صلاح أبو سيف عن العمل في الحقل السينمائي معتبرا هو الآخر أن الثورة قد قضت على مشاريعه.

وبعد التوقف الذي دام لسنوات عديدة، أراد محفوظ أن يرجع للكتابة، ولكنه في هذه المرة كان من باب أكثر رحابة وأيسر نجاحا، فطرق حقل السينما وبدأ يكتب كسيناريست مهتما بمشاكل مجتمعه الذي يعاني من أزمات متفاقمة.

وعندما عزم على الدخول في عالم السينما، أصر على أن يصطحب معه صلاح أبو سيف الذي يصنف من أكثر المخرجين اهتماما بالواقع وظروف الناس. وقد كان فيلم “ريا وسكينة” باكورة الأعمال السينمائية التي كتبها وبدأ بها مشواره بعد عالم الرواية.

وسعيا منه إلى الدقة في العمل، حرص نجيب أن يشارك المخرج صلاح أبو سيف في تفاصيل عمله بدءا باختيار الموضوع وصياغته وجمال السيناريو وبناء الشخصيات، وانتهاء بالإيقاع العام للفيلم وتفاصيل الأحداث والمواقف.

ويرى الناقد السينمائي علي أبو شادي أن نجيب استخدم قدراته الأدبية ومعرفته بالبناء الدرامي المحكم في إعادة كتابة الأعمال التي اقتبسها بشكل أفضل.

وأضاف أن السينما المصرية يمكن تقسيمها إلى مرحلة سينما ما قبل نجيب محفوظ، وسينما ما بعده، لأنه استطاع أن يغير وجهها بشكل حقيقي، واعتبره كثير من المتابعين أستاذ الأدب السينمائي على مستوى مصر.

وكما كانت لمحفوظ لمسات جديدة على صعيد الرواية وأدبها، فقد ترك بصمات خالدة في تطور البناء السردي والدرامي للسينما المصرية في مرحلتها الواقعية.

 "ريا وسكينة" كان باكورة الأعمال السينمائية التي كتبها نجيب وبدأ بها مشواره بعد عالم الرواية
“ريا وسكينة” كان باكورة الأعمال السينمائية التي كتبها نجيب وبدأ بها مشواره بعد عالم الرواية

رقيب على الإبداع

وبعدما كتب الكثير من السيناريوهات، تم تعيينه رقيبا على السينما عام 1959، ليجد نفسه غير قادر على الجمع بين مواكبة الكتابة السينمائية والقيام بمتطلبات الوظيفة الجديدة فتوقف عن الكتابة، فلم يكن ممكنا أن يكون رقيبا ومبدعا في الآن نفسه.

وخلال هذه الفترة وجد نفسه أسيرا للعودة إلى الرواية، فبدأ يكتب روايته المثيرة “أولاد حارتنا” التي انتهى منها سنة 1959.

ويرى الروائي ومؤلف كتاب “المجالس المحفوظية” جمال الغيطاني أنه جرى تحول عميق في مسار نجيب الذي يميل إلى التجريب والتجديد، فانتهى من مرحلة الكتابة الواقعية التي تُوجت بالثلاثية، وظهرت “أولاد حارتنا”.

يقول الكاتب والمؤرخ حلمي النمنم: بعد انتهاء نجيب من كتابة أولاد حارتنا، سلمها لجريدة الأهرام التي كان يرأسها في ذلك الوقت محمد حسنين هيكل، من أجل أن تُنشر في فصول أسبوعية، وكانت هذه أو تجربة لنجيب في التعامل مع الأهرام. فبدأت تنشر الرواية في الأهرام، وبعد نشر عدة فصول منها بدأت تظهر المشاكل حولها.

نجيب محفوظ عُيّن رقيبا على السينما عام 1959
نجيب محفوظ عُيّن رقيبا على السينما عام 1959

ضجيج أولاد الحارة

تعالت أصوات النقاد والشيوخ في الحديث عن أولاد حارتنا واعتبرها كثيرون مساسا بالدين والثوابت المشتركة بين الأمة.

ورأى هؤلاء أن نجيب حاول في أولاد حارتنا أن يقلد القرآن الكريم في السرد، وأن شخوص الرواية تحاكي وتشبه الأسماء الواردة في القرآن من حيث التسمية.

وتنطلق الرواية من محورية شخصية “الجبلاوي” الذي يسيطر على الحارة ويُعتبر أبا لها، ويفسر المنتقدون هذه الشخصية بأنها ترمز إلى الذات الإلهية.

وتفاقمت الأزمة وكثر النقاش حول الرواية عندما تصدى لها أشهر شيوخ الأزهر حينها وهو الشيخ محمد الغزالي الذي وصف الرواية بالتجديف والكفر. ونظرا لمكانة الشيخ في قلوب الناس وكثرة تلامذته، زادت الضجة وبدأت المطالبات بمحاكمته.

لكن الروائي ومؤلف كتاب “في حضرة نجيب محفوظ” محمد سلماوي يرى أن الذين انبروا لنقد الرواية الجديدة يؤخذ لهم العذر، لأنهم غير مؤهلين بحكم تخصصهم لنقد الأدب وتحليله والحكم على حقيقته.

ويقول حلمي النمنم إن العديد من الكتاب والمثقفين حينها تقدموا بشكاوى للنائب العام وللأزهر من الرواية وصاحبها، وبعض الشكاوى وصلت لمكتب رئيس الجمهورية.

وعندما وصلت الشكاوى لجمال عبد الناصر انتدب لجنة من ثلاثة أشخاص من علماء الأزهر يرأسهم الشيخ محمد الغزالي ومعهم الشيخ سيد سابق ليعدوا له تقريرا مفصلا عن الرواية. وقد خلصت اللجنة إلى أن الرواية تمس بالذات الإلهية وبالأديان، وذلك شيء يدخل في نطاق المقدسات التي يحرم التعرض لها.

واهتماما بالقضية التي شغلت الرأي العام ودخلت فيها مشيخة الأزهر على الخط، أرسل جمال عبد الناصر مستشاره حسن صبري الخولي للأديب نجيب محفوظ، يطلب منه مقابلة العلماء والتحدث معهم عن الآراء الواردة في الرواية.

استجاب نجيب لطلب الرئيس ووافق على مقابلة العلماء، لكن اللقاء الذي كان مبرمجا بينهم لم يُكتب له أن يكون، لأن أحد المشايخ تغيّب عن الموعد.

وعلى ضوء التقارير التي تلقاها جمال عبد الناصر أخذ قرارا بعدم مصادرة الرواية، لكنه منع طباعتها داخل الدولة المصرية.

وقد عاب عليه النُقَّاد أنه وبدافعٍ من غيرة وحسد، ودفعًا إلى الخطيئة، أوعز إدريس لأدهم أن يدخل إلى الغرفة المُحرَّمة التي نهاه أبوه الجبلاوي عن الدخول إليها، وبالفعل وقع أدهم في شِرك الطمع وتحريض إدريس الشيطانيّ؛ فولَج الغرفة بحثًا عن حُجَّته الذكية، فما كان من الجبلاوي إلا أن طردَ أدهم من جنته، ودعاه إلى أن يترك هو وزوجته عزبته عالية المقام.

رواية أولاد حارتنا اعتبرها كثيرون مساسا بالدين والثوابت المشتركة بين الأمة
رواية أولاد حارتنا اعتبرها كثيرون مساسا بالدين والثوابت المشتركة بين الأمة

قول على قول

ويرى القيادي في الجماعة الإسلامية علاء أبو النصر أن أولاد حارتنا كانت خروجا على ثوابت جميع الأديان، وأن الخروج على الأخلاق والمعتقدات ليس هو الإبداع. وأضاف أن نجيب لم يعط مثالا جيدا للرمزية في هذه الرواية، ولكن كان الإسقاط مباشرا حتى إنه هو نفسه لم ينكر أنه يقصد هذه الرموز، فحتى الأسماء لم يبتعد عن الحقيقة فيها، كـ”إدريس” الذي يقصد به “إبليس”، و”الجبلاوي” الذي يرمز به للذات الإلهية، و”أدهم” الذي يرمز به لـ”آدم”، وأولاد “أدهم”: “قدري” و”همام” ويرمز بهما لـ”قابيل” و”هابيل”.

بينما يرى الكاتب الدكتور حازم حسني أن مشكلة الرواية تكمن في أنها فسرت تفسيرا دينيا محضا، وذلك شيء خاطئ. ودافع آخرون عن الرواية بأن النص الأدبي لا ينبغي إسقاطه على الدين.

ويقول محامي الجماعة الإسلامية علي سباق: إن من يقرأ أولا حارتنا يصل إلى نتيجة واحدة هي أنه حتى ننجح ويستقيم الكون كله لا بد من هدم فكرة وجود الله.

ومما جاء في رواية أولاد حارتنا فيما يبدو أنه يشير إلى صراع بين العلم والدين، يقول عن عرفة الذي يرمز به للمعرفة: ووقعت الحقيقة من أنفسهم موقع العجب، فأكبروا ذكرى عرفة ورفعوا اسمه حتى فوق أسماء جبل ورفاعة وقاسم، وقال أناس إنه لا يمكن أن يكون قاتل الجبلاوي كما ظنوا، وقال آخرون إنه رجل الحارة الأول والأخير ولو كان قاتل الجبلاوي.

لكن الكاتب ومحرر “دورية نجيب محفوظ” حسين حمودة يرى أن الرواية لا تتحدث عن موت الإله ولا تمس الأديان بسوء، وإنما تتحدث عن فكرة الخير والشر بلغة الأدب.

وفي حديثه بالوثائقي، قال الدكتور مازن النجار: إن محفوظ كان مسلما تقليديا، ولا يستطيع أن يعيش خارج فكرة الإيمان، ولا يمكن أن تُفهم رموز الرواية داخل دائرة الإلحاد والكفر.

قضية المجرم محمود سليمان الذي توفي أثناء مطاردة الشرطة له ساعدت محفوظ في كتابه رواية "اللص والكلاب"
قضية المجرم محمود سليمان الذي توفي أثناء مطاردة الشرطة له ساعدت محفوظ في كتابه رواية “اللص والكلاب”

الصمت حصن الفتى

وبعدما مُنعت الرواية من الطباعة في مصر، قرر نجيب أن يواجه المجتمع بالسكوت وعدم الخوض في شأنها خوفا من الإثارة والضجيج، وكان مقتنعا بأن الوقت كفيل بتجاوز عثرته، وأن آفة حارتنا النسيان.

وعندما أصبح الرقيب على السينما في حرج كبير، حيث كان أول من يتجاوز الممنوع ويخرج على الأدبيات العامة، تم تعيينه على رأس المؤسسة العامة للسينما.

وخلال عمله على رأس السينما، أراد الخروج بقلمه من عالم الرموز والإسقاطات إلى عمل يحاكي كتاباته الواقعية.

وفي بداية الستينيات كانت قضية المجرم محمود سليمان الذي توفي أثناء مطاردة الشرطة له؛ هي حديث الشارع في مصر، فوجد نجيب ضالته في تلك الحادثة وكتب رواية “اللص والكلاب”.

ويرى الكاتب الصحفي مؤمن المحمدي أن رواية اللص والكلاب من أحسن الكتابات، حيث استطاعت أن تُحوِّل الواقع اليومي إلى آفاق فلسفية يستطيع القارئ أن يأخذ منها أفكارا مجردة.

مات القائد جمال عبد الناصر، وأيقظ موته داخل نجيب مرحلة جديدة تلوح في الأفق
مات القائد جمال عبد الناصر، وأيقظ موته داخل نجيب مرحلة جديدة تلوح في الأفق

أشجع فنان وأجبن إنسان

وقد كانت علاقة نجيب محفوظ مع السلطة علاقة يطبعها نوع من الرقابة والتحفظ. ويرى كثير من الكتاب أنه كان يخاف من السلطة كثيرا، وقد وصفه غالي شكري بعبارة أصبحت متداولة في الوسط الأدبي المصري تقول “نجيب محفوظ أشجع فنان وأجبن إنسان”.

ورغم تهذيب قلمه وتحفظه الشديد تجاه السلطة، فقد انتقد الثورة والناصرية في ذروتهما في روايته ثرثرة فوق النيل.

ويرى الدكتور حازم حسني أن محفوظ كان همه الوحيد هو أن يطرح القضايا التي تهم الشارع العام وتلامس واقع الناس، دون أن يسعى للصدام مع السلطة.

وفي مشاركته بالوثائقي، قال الكاتب حلمي النمنم: بعد صدور رواية نجيب محفوظ “ثرثرة فوق النيل” صدر أمر باعتقاله، بيد أنه أفلت من هذا الأمر بأعجوبة.

ويرى بعض المتابعين أن العلاقة الوطيدة التي كانت تربطه بمحرر الأهرام حينها محمد حسنين هيكل شكلت له حماية من السلطات.

وفي رواية ثرثرة فوق النيل التي صدرت في عام 1966 وقدمت موقفا شرسا عن عسكرة المجتمع المصري، تنبأ نجيب بالهزيمة التي ستلحق بالجيش عام 1967.ِ

يذكر الغيطاني أنه بعد النكسة بشهرين طلب نجيب اللقاء بالمثقفين في مقهى الفيشاوي وكنا جميعا في حالة قلق وألم شديدة جدا، فتحدثنا عن التطورات الأخيرة وما ينبغي أن نفعل تجاهها، فمال نجيب إلى الأمام متحفزا لكلام مهم وقال: إذا أردنا حل ما نحن فيه فليس هناك إلا طريق واحد؛ الصلح مع إسرائيل.

مات القائد جمال عبد الناصر، وأيقظ موته داخل نجيب مرحلة جديدة تلوح في الأفق، ستكون لها أحداث ورموز تستحق أن يكون حاضرا فيها بقلمه وإبداعه.