يوسف وهبي.. سيد المسرح الذي أغرقت الميلودراما حياته

الميلودراما في تعريفها الأكاديمي هي ذلك النوع من التمثيليات التي تزخر بالحوادث المثيرة وتتّسم بالمبالغة في كل شيء، فالممثلون يُبالغون في التعبير عن العواطف والانفعالات كما يبالغون في الحركات التمثيلية كي يؤثروا في المتفرجين، وشخصية الرجل الشرير في الرواية مبالغ فيها، كما أن البطل دائما كريم الخلق جميل الصورة، والبطلة دائما حسناء طيبة طاهرة النفس، وتقع في الرواية حوادث ومغامرات غير معقولة تنتهي نهاية سعيدة.

المتتبع لحياة الممثل والمنتج والمؤلف والمخرج السينمائي والمسرحي “يوسف عبد الله وهبي” الشهير بيوسف بيك وهبي؛ يجد أن ما بها من الميلودراما يفوق ما قدّمه في أعماله المسرحية والسينمائية، حتى يصفها هو نفسه في مذكراته التي أطلق عليها اسم “عشت ألف عام”.

يقول يوسف وهبي في مذكراته: عشرات السنين عشتها بين مد وجزر، في قصور فاخرة وغرف على الأسطح يشاركني فيها الدجاج، رأسمال ضخم ورثته عن أبي وأضعته، ثم استرددته ثم أضعته.. دوامة لا تهدأ، فقر وغنى، شظف وترف، ظلام وأضواء، قامرتُ وربحتُ وخسرتُ وانتصرتُ وهُزمت، لكني لم أُسلّم سلاحي ولم أخضع للأقدار، وظلّ المسرح محبوبتي التي ذبتُ فيها عشقا منذ أن كنت في السابعة من عمري، وقد تضاعف هذا العشق على مرّ الأيام وتحوّل إلى وله.

لعنة الفن.. سحر يتسلل إلى منزل الباشا

وُلد يوسف وهبي في 14 يوليو/تموز عام 1896 في مدينة الفيوم التي كانت تُروى وقتها بترعة عُرفت باسم بحر يوسف، مما دعا والده عبد الله أفندي وهبي كبير مفتشي الري –الذي قام بحفر ترعة وهبي ومنحه الخديوي لقب باشا– إلى أن يطلق على ابنه الخامس اسم يوسف، أما والدته فهي شفيقة ابنة الشيخ علي فهمي البغدادي.

وكان عبد الله أفندي أحد العائدين من البعثات الدراسية، فقد درس علوم الزراعة في جامعة أوكسفورد، وقرر أن يعدّ أبناءه الخمسة إسماعيل وعباس ومحمود وعلي ويوسف للطريق نفسه، فاختار لهم دراسة القانون والهندسة، أما الصغير يوسف فقد أراد له أن يصبح طبيبا، وأخذ يُعدّه لدراسة الطب في ألمانيا.

“عشت ألف عام”.. مذكرات يوسف وهبي

فما الذي حدث وجعله يتحول إلى مجنون بالفن وثائر على تقاليد قبيلته ومجتمعه؟ الإجابة هي لعنة الفن التي أصابته منذ أن شاهد فرقة “سليم القرداحي” وهي تقدم عروضها في بيتهم كعادة الأسر الميسورة الحال في ذلك الزمان، فمضى يُقلّد حركاتهم، حتى إنه حين بلغ عامه العاشر حاول إقناع إحدى بنات الجيران أن تمثل معه دور “جولييت”، بينما يمثل هو دور “روميو”، فكان جزاؤه صفعة من والده جعلته يكفّ عن تقليد الممثلين.

وفي مراهقته وبعد انتقال عائلته إلى القاهرة تعرّف يوسف على شاب هاوٍ للسينما -أصبح فيما بعد رائدها في مصر وعميد معهدها الأول- هو المخرج محمد كريم، فاصطحبه إلى ملاهي عماد الدين وعرّفه على حياة الليل قبل أن يُتم عامه الخامس عشر في جولات يومية سرية، وحين علم بها والده كان عقابه الحبس أسبوعا كاملا في غرفته انفراديا.

مغامرات المراهقة.. خطيئة وإجهاض مع فتاة إيطالية

لا يمنعه شغفه بالفن عن ممارسة الرياضة والمصارعة تحديدا، ويُظهِر بها تفوقا ملحوظا، أو أن يرتكب أولى خطاياه الجنسية وهو لا يزال في عامه الثالث عشر مع إحدى قريبات والدته، فنجده يقول في مذكراته: كان عمري لا يتجاوز السادسة عشرة لكنني أشعر أن الحياة مفتوحة على مصراعيها، أدخل وأخرج من مغامرة إلى أخرى غير عابئ بعقاب العائلة، أو لعواقب المغامرة التي كانت دائما تنتهي نهاية مأساوية.

كان يوسف لا يكتفي بالمشاهدة، بل بدأ يشارك في العروض المسرحية، والنتيجة هي سقوطه في امتحان البكالوريا، مما دفع والده إلى نقله إلى مدرسة مشتهر الزراعية بالقسم الداخلي، حتى يجعله ينصرف عن شارع عماد الدين وما به.

وُلد يوسف وهبي في 14 يوليو/تموز عام 1896 في مدينة الفيوم
وُلد يوسف وهبي في 14 يوليو/تموز عام 1896 في مدينة الفيوم

لم يكن التمثيل وحده الذي جعل عقل يوسف منصرفا عن الدراسة والتعليم، فقد وقع في حب فتاة إيطالية تدعى “كليوبي”، وسرعان ما حملت منه بطفل، وصار عليه أن يوفر المال اللازم من أجل عملية إجهاضها.

ويورد يوسف وهبي في مذكراته أنه لم يجد حلا غير سرقة ساعة أحد أصدقائه الأثرياء، الأمر الذي جعل الصديق يغتاظ ويتّهم يوسف بالسرقة، وعندما جاءت الشرطة للقبض عليه سقط والده عبد الله باشا وهبي مغشيا عليه كأي فيلم ميلودرامي.

بائعة الهوى.. قصة حب وجريمة قتل في ميلانو

بعد هذه الواقعة تزايدت إغراءات عائلته بأن ينصرف عن أمور التمثيل والمسرح، مقابل أن تصفح عنه الأسرة وترسله إلى الخارج للدراسة، لكنها بالطبع لن توافق على دراسته لعلوم المسرح كما يريد، تأسيّا بصديقه محمد كريم الذي ذهب إلى روما لدراسة السينما. لكن من أين له توفير تكاليف السفر؟

لم يجد يوسف أمامه إلا مربيته وكاتمة أسراره منذ الصغر دادا رقية التي لطالما ساعدته قبل ذلك، فأعطته أساورها الذهبية كي يبيعها ويتمكن من السفر، وذلك جزء آخر من الميلودراما التي أحاطت بحياته، وقد سافر بالفعل إلى ميلانو للدراسة في معهد المسرح وعمره 19 عاما.

في ميلانو وقع يوسف في حب "كاترينا" التي سرعان ما اكتشف أنها بائعة هوى
في ميلانو وقع يوسف في حب “كاترينا” التي سرعان ما اكتشف أنها بائعة هوى

في ميلانو وقع يوسف في حب “كاترينا” لكنه سرعان ما اكتشف أنها بائعة هوى بعد أن قبض عليها، وحاول أن يقنعها أن تكفّ عن ممارسة الدعارة، لكنه عاد يوما إلى منزلهما ليجدها غارقة في دمائها، ويُتهم هو بقتلها بعد ذلك، ثم ينجو من الاتهام بأعجوبة.

لاحقا يرسل له والده برغبته أن يذهب من إيطاليا إلى ألمانيا حتى يتسلّم مبلغا ماليا من أحد أصدقاء الأب مقابل أن يتخلّى عن حلم دراسة التمثيل، لكنه أصرّ على رأيه ولم يمتثل لطلب الأب. وفي اليوم التالي وجد أن القطار الذي كان سيقلّه إلى ألمانيا سقط من فوق أحد الجسور في حادث مؤسف ومات كل من فيه، وبعدها تلقى خطابا من إخوته طلبوا فيه أن يأتي بسرعة إلى مصر لأن والده مريض، فركب الباخرة فورا إلى الإسكندرية، لكنه حين وصل وجد أن والده قد مات قبل يومين.

رمسيس.. قواعد ودعايات الفرقة المسرحية الأولى

يؤسِّس يوسف وهبي بما آل إليه من ميراث فرقته المسرحية الأولى بالاسم الذي اشتهر به في إيطاليا “رمسيس”، مانحا الفرصة لجيل كامل من الموهوبين، وواضعا أسسا فنية لم تكن موجودة قبله، ومضيفا قواعد صارمة عن موعد بداية العرض وآداب المشاهدة، ومعلنا على أبواب مسرحه ما يلي: يُمنع منع باتا التدخين أو قزقزة اللبّ داخل القاعة، حتى يتمكن باقي النظارة من الاندماج في الرواية وتهيئة الجو الملائم للفنان لتأدية دوره على أكمل وجه.

يؤسِّس يوسف وهبي بما آل إليه من ميراث فرقته المسرحية الأولى بالاسم الذي اشتهر به في إيطاليا "رمسيس"
يؤسس يوسف وهبي بما آل إليه من ميراث فرقته المسرحية الأولى بالاسم الذي اشتهر به في إيطاليا “رمسيس”

كما أنه رفع الحاجز لأول مرة بين المشاهدين من الرجال والسيدات، داعيا إلى الاختلاط، ولم يكن ذلك يحدث قبله. واستخدم أساليب مبتكرة في الدعاية كانت غريبة وقتها على المتلقي المصري، كأن يصور البروفات على شريط سينمائي ثم يقوم بعرضها على شاشة بيضاء داخل المسرح أثناء الاستراحة بين الفصول دعايةً للعرض القادم، إلى جانب تعاونه مع المثّال المصري الرائد محمود مختار الذي كان يرسم له ديكورات عروضه المسرحية.

لكن كل هذا لم يمنع الميلودراما من أن تتسلل إلى مسرحه الناجح، ففي إحدى ليالي العروض هجم على مكتبه أحد الفدائيين المناهضين للاحتلال البريطاني لمصر، أو من يُعرفون باسم جماعة اليد السوداء، يطالبه بحمايته من الشرطة التي تطارده، وقد اضطر يوسف وهبي لمساعدته تحت تهديد السلاح. لكن لاحقا عندما احترقت خشبة مسرح رمسيس اكتشف أن الشاب الذي ساعده دفن جثة أحد العساكر الإنجليز تحت خشبة مسرحه.

“اليوم فقط أشعر أنني أدفن كل أحلامي”

كان زواجه من الأرستقراطية عائشة فهمي حافلا بالميلودراما منذ بدايته وحتى نهايته، فقد واجها رفض عائلتها له بسبب عمله ممثلا، ثم دعمها له بالمال من أجل مشروع مدينة رمسيس للفنون، وهي عبارة عن مدينة ملاهٍ وساحات للتزلج “الباتيناج” وقاعة عرض سينمائي ومسرح وأستوديو للسينما ومطاعم ومقاهٍ ومحطات للإذاعة، وقد كلفته مبالغ طائلة.

صورة تجمع يوسف وهبي مع الفنانة أمينة رزق
صورة تجمع يوسف وهبي مع الفنانة أمينة رزق

ثم ما لبثت أن انهارت بسبب الأجور المرتفعة للممثلين، بالإضافة إلى البذخ الشديد في الإعلانات والديكورات، إلى جانب الحياة المترفة التي كان يعيشها يوسف وهبي، حتى قال عن يوم إغلاق مدينة رمسيس: اليوم فقط أشعر أنني أدفن كل أحلامي.

ومع إغلاق المدينة تصاعدت خلافات الزوجين بسبب غيرة زوجته الشديدة عليه، ولفارق السن بينهما أيضا فقد كانت تكبره بسنوات، فتزوج لاحقا من سعيدة التي كانت بمثابة ابنة روحية لعائشة فهمي، وكانت واسطته بينهما -في فترة ما قبل زواجهما- فتاة صغيرة كانت تحبه من طرف واحد، وظلت لآخر حياتها مُخلصة لهذا الحب، وهي الفنانة أمينة رزق التي لم يكن يثق إلا بها، ليعيش بقية حياته حتى وفاته في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1982 في هدوء افتقده طوال حياته المضطربة الغارقة في الميلودراما.