إسماعيل ياسين.. فنان موهوب خلفته النمطية عن قطار السينما والمسرح

تقول الأسطورة الإغريقية القديمة إن كبير الآلهة زيوس قد عاقب البشريّ سيزيف حين تصور أنه يستطيع بذكائه منافسة الآلهة، فكان عقابه أن جعله يحمل صخرة على تلّ منحدر، ولكن قبل أن يبلغ قمة التلّ تفلت الصخرة منه دائما، ويكون عليه أن يبدأ من جديد مرة أخرى.

أما إسماعيل ياسين علي نخلة المعروف باسم “إسماعيل ياسين” فقد مسّته لعنة سيزيف، لكن ليس بسبب تحدّيه للآلهة، بل لأنه لم يُدر موهبته الضخمة بشكل صحيح، حين كان لزاما عليه أن يفعل، فقد طالت شهرته حدّ السحاب، حتى أصبح النجم الوحيد في تاريخ السينما المصرية الذي أنتجت الأفلام باسمه في سلسلة عُرفت باسم “إسماعيل ياسين في..”.

ابن تاجر الذهب المدمن.. نشأة اليتيم القاسية

ولد إسماعيل ياسين بالسويس في 15 سبتمبر عام 1912 لأب ميسور الحال يعمل في المدينة الممتلئة بجنود الاحتلال البريطاني، وكان صاحب محل لبيع المشغولات الذهبية، فجذب ثراؤه العاملين في مجالس المخدرات والنساء، فأصرّوا أن يصبح واحدا منهم.

كان ذلك هو الأمر الذي جعل حياة الصغير تنهار بعد وفاة والدته كمدا، واضطراره للعيش مع جدّته القاسية، لكن الغناء كان ملاذه، والمطرب الصاعد محمد عبد الوهاب كان مثله الأعلى، وكانت القاهرة حلما يقترب، وقد حمل إليها شغفه بالفن وستة جنيهات سرقها من الجدة العجوز. ولكن من قال إن القاهرة التي تعج بأمثاله من الباحثين عن فرصة للغناء على مسارحها ستفتح له بابًا؟

لم يجد إسماعيل ياسين أمامه سوى أبواب المساجد، ينام بها ويحتمي وله فيها مآرب أخرى، لكنها سرعان ما ضاقت به كما ضاقت به المسارح والملاهي الليلية، ولم يعطف عليه سوى إمام مسجد كان يعطيه 35 قرشا، يضيع منها 32.5 ثمنا لتذكرة عودة للسويس، وفي عودته وجد والده قد تحول من صاحب محل إلى عامل، بعد أن استنزفه إدمان الكوكايين، ومسّه عطف على موهبة ابنه الوحيد.

كازينو بديعة.. سخاء القاهرة حين تفتح أبواب مسارحها

ليست القاهرة دائما بذات القسوة، ففي عودته الثانية تهبه بعض الرضا، فتتيح له أن يغني بعض المونولوجات في أكبر فرقها على مسرح كازينو بديعة المُطلّ على النيل، بعد أن أدرك أنه لا سبيل له في أن يصبح كمحمد عبد الوهاب، وإن ظلّ حلم الغناء في خلفية أفكاره دائما.

وقد بقي حلمه في أن يصبح مطربا يتحين الفرصة دوما للظهور كما في أدائه أغنية “في يوم من الأيام” أمام عبد الحليم حافظ ذاته في فيلم “إسماعيل ياسين بوليس حربي”.

من مسرح كازينو بديعة يلتقطه فؤاد الجزايرلي ليقدم دورا صغيرا في فيلم “خَلف الحبايب” (1939)، ثم في عام 1941 يشارك في فيلم “مصنع الزوجات” مع نيازي مصطفى، لكن بدايته الحقيقية كانت مع فيلم “علي بابا والأربعين حرامي” في العام التالي مباشرة مع علي الكسّار والمخرج توجو مزراحي، واستمرت هذه المرحلة حتى عام 1950.

ذروة النجاح.. نجم يختطف ثلث الإنتاج السينمائي

في الفترة بين عام 1950-1953 يقدم إسماعيل ياسين عددا من الأفلام مشاركا بالدور الثاني كصديق البطل وداعمه، أو كبطل منفرد أحيانا، لكنها لم تحقق النجاح المرجو، وإن أبانت بوضوح أن ثمة نجما سينمائيا على وشك الظهور.

في عام 1954 سيصبح إسماعيل ياسين على موعد مع النجاح المدوّي، فيقدم وحده 19 فيلما في هذا العام، أو ما يعادل ثُلث الإنتاج السينمائي المصري وقتها، كما أنه في هذا العام سيقدم لأول مرة فيلما يحمل اسمه، هو “مغامرات إسماعيل ياسين” من إخراج يوسف معلوف، ثم “عفريتة إسماعيل ياسين” من إخراج حسن الصيفي.

والأهم أنه في هذا العام قدم الفيلم التقدمي “الآنسة حنفي” عن فكرة للصحفي جليل البنداري، وفيه ناقش أفكارا تتعلق بالمساواة بين الرجل والمرأة، وحق المرأة في التعليم، وحقها في اختيار شريك حياتها، في إطار شديد السخرية من المجتمع الذكوري وسلطته الأبوية التي حكمت مصر طويلا.

في عام 1954 أيضا يقرر إنشاء فرقة مسرحية تحمل اسمه، وفي 11 نوفمبر تقدم الفرقة أول عروضها باسم “حبيبتي كوكو”، وقد ظلت تعمل حتى قدمت 51 مسرحية ألّفها كلها أبو السعود الإبياري حتى عام 1966، عندما اضطر إسماعيل ياسين إلى غلق المسرح وحلّ الفرقة.

“إسماعيل ياسين في الجيش”.. كوميديا لدعم الثورة الوليدة

في العام التالي مباشرة ستستخدم حركة الجيش الوليدة -التي لم تكن سميت ثورة بعد- اسمه وحب الجماهير له، من أجل تقديم أفلام تساعد على تقريب الحياة العسكرية الجافة لذهن المدنيين، فيقدم فيلم “إسماعيل ياسين في الجيش” الذي كان بداية لتقديم أفلام عن أسلحة الجيش المختلفة (الأسطول، الطيران، البوليس الحربي، البوليس، البوليس السري..).

وفي معظم تلك الأعمال يقدّمه المؤلفون مع آخر، كمعادل مصري للثنائي الشهير “لوريل” و”هاردي”، فيظهر أحيانا مع حسن فايق أو عبد الفتاح القصري، وأحيانا مع رياض القصبجي (الشاويش عطيّة).

وساعد على نجاحه في تلك الفترة اعتماده على قضايا متشابهة مضمونة النجاح، وإحاطته دوما بعدد من الممثلين صغيري الأدوار كبيري الموهبة، إلى جانب تقديمه شخصيات شعبية بسيطة من المهمشين قريبة من رجل الشارع المصري العادي.

“إنسان غلبان”.. وجه الموهبة الآخر يفشل في شباك التذاكر

لم تقتصر أدوار إسماعيل ياسين على الكوميديا فحسب، بل امتدّت إلى التراجيديا بأفلام مثل “إنسان غلبان” (1954)، و”إسماعيل ياسين في جنينة الحيوان” (1957)، وهي أفلام لم تنجح جماهيريا مع الأسف، لكنها أكدّت على موهبته وقدرته على القيام بكل الأدوار، حتى قال هو نفسه في حوار له مع عائشة صالح في مجلة الكواكب: أنا لم أنجح في الدراما، جربت فلم أفلح، في “إسماعيل ياسين في جنينة الحيوان” لم يقتنع بي الجمهور مع الأسف، في المشاهد المؤثرة “شفاتيري” كانت الجماهير تموت من الضحك، فالشكل مهم وله تأثير كبير، ثم إن الناس تعودوا أن يروني أضحكهم.

لكنه كأي سيزيف ما إن يبلغ القمة حتى تبدأ صخرته في الانحدار، ففي عام 1960 بدأ خطه البياني في الهبوط فقدم ستة أفلام فقط، وفي عام 1963 لم يعرض له سوى فيلم واحد هو “المجانين في نعيم”، وفي عام 1964 لم يقدم أي أفلام، وفي عام 1965 قدم فيلما واحدا من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما (القطاع العام).

فما الذي حدث وأدّى لانهيار حياة هذا الفنان غير محدود الموهبة؟ ما الخطيئة التي ارتكبها وجعل صخرته تنهار بعد أن وصل بها قمة التل؟

سجن النمطية.. ثقافة محدودة ومخرجون دون الموهبة

يكمن السر خلف سقوط نجم إسماعيل ياسين في ارتكابه الخطيئة التي يقع فيها كل الموهوبين عندما لا ينتبهون لإدارة موهبتهم الضخمة، فقد اعتمد على مخرجين ومؤلفين لم يكونوا بحجم موهبته، واكتفوا بحبسه في نفس الشخصية التي طالما أثبتت نجاحها، وتعاونه مع صديق عمره أبو السعود الإبياري في 63 فيلما ساهم في صبّه في قالب واحد حافظ عليه من جاءوا بعده.

إلى جانب عدم إدراكه أن موهبته وحدها لا تكفي، فلم يسندها إلا بثقافته المحدودة التي لم تُمكنّه أبدا من الخروج من دائرة كوميديا الفارْس المأخوذة من المسرح الفرنسي وأعمال كازينو بديعة. وكذلك ارتكابه أكبر خطيئة يقع فيها موهوب، وهي عدم استجابته للتغيير، وعدم إدراكه لشكل المجتمع المصري في الستينيات، والتغيير الذي يمرّ به، وواجب الفن في أن يسايره.

بالإضافة إلى اهتمامه بفرقته المسرحية على حساب عمله في السينما، لكن حتى هذه الفرقة سرعان ما انهارت وحلت بها الهزائم ولاحقتها الخسائر والضرائب وانفضّ عنها المشاهدون. ففي عام 1961 لم يقدم إسماعيل ياسين سوى مسرحيتين فقط، تزامنا مع بداية البث التليفزيوني ببرامجه وأفلامه وتوفيره متعة منزلية للمشاهدين تغنيهم عن الذهاب للمسرح.

ظهور التلفزيون.. الضربة التي أدت للشتات في بلاد العرب

الكارثة الأكبر التي أصابت الفرق الخاصة كلها وفرقة إسماعيل ياسين تحديدا، كانت في إنشاء التلفزيون لفرقه المسرحية المختلفة، من أجل مدّ التليفزيون بالعروض لتغذية ساعات الإرسال الطويلة، ومنح الفرصة للشباب المسرحيين، وقد صاحب إنشاءها دعاية ضخمة، وظهور جيل جديد من الكُتّاب بأفكار طازجة، فضلا عن رخص ثمن تذاكر الدخول مقارنة بالفرق الخاصة.

والأهم من كل ذلك أن الفرق الخاصة كفرقة إسماعيل ياسين أو فرقة الريحاني لم تستطع أن تساير الفكر الثقافي والاجتماعي الجديد، إلى جانب إصرار فرقة إسماعيل ياسين على أن تقصر عملها على مؤلف واحد هو أبو السعود الإبياري المتوقف عند مرحلة فرقة بديعة مصابني في الأربعينيات، واعتماده الأساسي في كتابته على التمصير.

فتكون النتيجة المتوقعة بالطبع هي انهيار كل شيء وحلّ الفرقة، وقد دعته دولة الكويت لتقديم مونولوجاته في أواخر مايو 1967، لكن كأن سوء الحظ أصبح رفيق دربه، فقد حلت الهزيمة بوطنه كما حلت به سابقا، فاضطر للسفر إلى لبنان، وهناك قدم بعض الأعمال التي لا تليق بمكانته، مثل “كرم الهوى” (1967)، و”عصابة النساء” (1969)، و”الرغبة والضياع” (1972)، وغيرها من الأعمال البيروتية الرخيصة.

وفي 13 سبتمبر عام 1970 يعود إسماعيل ياسين لإلقاء مونولوجاته بعد توقُّف دام 15 عاما في ملهى رمسيس، كما وقف أمام جمهور صالة بديعة في الأربعينيات يغني “عيني علينا يا أهل الفن”، وفي 4 مايو 1972 تصعد روحه إلى ربها شاكية ما لاقاه في كهولته، بعد أن أسقط عن كتفه الصخرة للمرة الأخيرة.