عثمان عريوات.. نجم الكوميديا الجزائرية الذي تحول إلى لغز

محمد علال

يعيش عثمان عريوات (71عاما) بين الناس في حيّ باب الزوار بالجزائر العاصمة، فهو لا يزال يسكن فيه منذ عام 1984

“آلو.. سِي عثمان معك صحفي، وأريد لقاءك من أجل إجراء حوار”، فردّ عثمان “لا مشكلة في ذلك وأهلا بك، لكن أنا لا أحب الصحافة ولا أريد العمل”.. هو جانب من حوار افتراضي يحفظه كل الصحفيين وأصحاب شركات الإنتاج السمعي البصري على حد سواء، ويعكس جانبا من رحلة فشلهم المستمرة في إقناع أشهر ممثل في الجزائر للموافقة على إجراء حوار، أو المشاركة في مشروع عمل سينمائي أو تلفزيوني منذ ما يزيد على 15 عاما.

الحكاية هي لنجم يعشقه الشعب الجزائري، حيث اختار العزلة طواعية وقرر أن يبتعد عن الأضواء منذ ربع قرن، ضاربا عرض الحائط بكل العروض التي تتهافت عليه بمئات آلاف الدولارات.

هكذا يعيش عثمان عريوات (71عاما) بين الناس في حيّ باب الزوار بالجزائر العاصمة، فهو لا يزال يسكن فيه منذ عام 1984، ويمكن اللقاء به وسط الناس العاديين في الأسواق والمقاهي، في الوقت الذي كان بإمكان هذا النجم المتربع على عرش التمثيل منذ تسعينيات القرن الماضي؛ أن يسكن في أكبر منزل في الجزائر، وأن يمتلك سيارة فاخرة بسائق خاص يخدم خطواته أينما حلّ أو ارتحل.

 

خجول في الواقع.. ثائر أمام الكاميرا

اختار عريوات أن يكون بسيطا إلى درجة أنك لا تميزه بين الناس في الشارع بملابسه المتواضعة، وهو لا يرفض طلب أي شخص يستوقفه من أجل التقاط صورة معه، أو الدردشة لبضع دقائق في شؤون البلاد والعباد، وقد يمضى عريوات إلى أبعد من ذلك في علاقة تقديره للناس العادين، ويوافق فورا على تلبية أيّ دعوة تُوجه إليه لشرب الشاي أو تناول العشاء. لا يرفض النجم الأول في الجزائر محبة الناس، ويستقبل أسئلتهم بصدر رحب، شريطة أن لا تكون الأسئلة في إطار المهمة الإعلامية للبحث عن سبق صحفي.

تحول عثمان عريوات بالنسبة للجميع إلى علامة استفهام كبيرة، وذلك منذ أن قرر المشي في طريق الاعتزال متجاهلا كل العروض، وكأنه يخفي حزنا ما يمنعه من العودة للوقوف خلف الكاميرا مجددا، وبعد أن انطلق كالصاروخ إلى سماء الإبداع، وسكن قلب كل العائلات الجزائرية ولم يستطع أحد إزاحته من على العرش، وقد أصبح نموذجا للفن الجزائري، ويكفي أن تكتب اسمه على محرك “غوغل” أو “فيسبوك” لتكتشف أنه علامة تسافر بين الأجيال، ويُضرب المثل بكلماته في كل موعد أو حادث أو ظاهرة تشهدها الجزائر.

رغم غيابه فإنه حاضر بشكل غير مباشر في تحليل وقراءة سيناريوهات الانتخابات الرئاسية الجزائرية المزمع تنظيمها هذه السنة، فعدد كبير من القنوات الجزائرية لا تتردد في اقتباس عبارات من أعمال قديمة له، وتضعها كعناوين لحلقات برامج سياسية ذات طابع جاد.

وهذه إحدى القنوات الجزائرية تُعنون حلقة برنامجها السياسي الأبرز بـ”راح نردوهالكم جنة”، وهي جملة شهيرة لعريوات قالها في فيلم “كرنفال في دشرة” عام 1994، وذلك عندما جسّد دور رئيس البلدية وخاطب سكان الدشرة قائلا “سأجعل البلدية جنة لو انتخبتموني”. فالواقع الجزائري اليوم لم يعد يجد أفضل من كلمات هذا الفنان لتقديم قراءة عميقة، وذلك بعد أن اختلطت السخرية بعناوين الأخبار التي تشير إلى رغبة أكثر من 190 شخصا في تولي منصب رئاسة الجمهورية، وهم في معظمهم حالات اجتماعية مستعصية أثارت ذهول الرأي العام الجزائري.

لقد عاش عريوات بين الناس من صغره، لهذا فإن نجاحه يشبه نجاح عشرات المبدعين الذين آمنوا بأهمية المواضيع المحلية

عفوية تعكس الشخصية الجزائرية

السؤال: ما الذي يجعل الناس تتعلق بهذا الممثل إلى هذا الحدّ وقد تغير مجال السمعي البصري في الجزائر، وقد وُلد جيل جديد من الممثلين يحاورون الواقع بجرأة وشجاعة، منهم مثلا أعضاء فرقة “جرنان القوسطو” التي لها نفس ملامح كوميديا عثمان عريوات في قراءة المواضيع السياسية؟

بلا شكّ هناك عدة عوامل ساهمت في نجومية عريوات، أهمها الفترة التي ظهر فيها، ففي الثمانينيات لم يكن في الجزائر إلا قناة واحدة هي “التلفزيون الجزائري”، وأمام قلة المنافسة كان عريوات يصنع تميزه في الكوميديا بطريقة عفوية تشبه الجزائريين، فلم يعتمد على استيراد النصوص الأجنبية، ولا على الاقتباس من الأدب العالمي، فهو كمتعلم عصامي ترّبى على النصوص القرآنية وتخرّج من معهد “الكونسرفتوار” بالجزائر عام 1972؛ عرف كيف يفكك الشخصية المحلية البسيطة.

لقد عاش عريوات بين الناس من صغره، لهذا فإن نجاحه يشبه نجاح عشرات المبدعين الذين آمنوا بأهمية المواضيع المحلية، تماما كما هو حال الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ الذي طوّع الأدب لخدمة القضايا المحلية وتناول الشخصيات البسيطة، وهو ما يعكسه قوله “لولا اهتمام البسطاء بي لما اهتم الناس لأدبي؛ ولما وصلت لنوبل” (حوار أجراه الكاتب المصري محمد السلماوي مع الأديب الراحل نجيب محفوظ من كتاب حوارات نجيب محفوظ).

أمر آخر اهتم به عريوات صنع له التميز وهو اهتمامه بالقيمة والرسالة الفنية، وكما قال عالم الفيزياء الشهير ألبرت آينشتاين “لا تحاول أن تكون الشخص الناجح، لكن حاول أن تكون شخصا ذا قيمة”، فإن الفن الذي كان يقدمه عريوات حمل قيمة حقيقة ولم يكن مبتذلا، بل جاء بسيطا من نوع السهل الممتنع، وذلك عندما يردد عبارات يتلفظ بها الإنسان العادي، فقد عبر عريوات بصدق ودقة عن هموم الناس ومشاعرهم ونقل حالتهم الانفعالية، وما يتجسد في كل أدوراه منذ أول ظهور له عام 1963 في فيلم “النتيجة”، وتحديدا في فيلم “كرنفال في دشرة” عام 1994، حيث كسر تلك الصورة النمطية للتلفزيون، وجعل من الشاشة مرآة تعكس الواقع، وليس جهازا لمقدمي البرامج بملابسهم الأنيقة وإطلالتهم البهية.

 

ابن القرية الذي آمن بالعمامة

بالإضافة إلى انغماس مواضيعه في المحلية، فإن العمامة رافقت إطلالة عثمان عريوات في أبرز أعماله السينمائية، وهو ما يعكس من جهة ثانية تأثره بأصوله الشاوية، حيث ولد سنة 1948 بمنطقة أمدوكال في باتنة الجزائرية من عائلة بسيطة، وهو الابن الوحيد في العائلة الذي اختار مجال التمثيل، ولأنها مهنة غير مُتصالَح معها في المجتمعات التقليدية، فقد كان التحدي كبيرا جدا أمام عثمان، ولهذا اختار أداء أدوار تشبه جده ووالده وأبناء الحيّ، وذلك بملابسه البسيطة التي تشبه إطلالة الرجل البدوي الذي يضع على رأسه عمامة أو شاشية، وفي العادة يظهر مرتديا قميصا بكمّ طويل وجاكيت كلاسيكي. هكذا أحب الناس إطلالته بملابسه غير المتناسقة في فيلم “التكسي المخفي” عام 1997، وفي فيلم “كرنفال في دشرة” عام 1994، لتكون النتيجة دائما شخصية المواطن الريفي البسيط.

من الكوميديا إلى الأفلام التاريخية لم تقتصر الأدوار التي أداها عريوات على رسم البسمة فقط، بل برع في أداء الأدوار التاريخية المعقدة جدا، وهو ليس بالأمر السهل على ممثل اعتاد الظهور في الأدوار الكوميدية، وقد نجح عريوات في الاختبار وقدم عملا تاريخيا رائعا بعنوان “الشيخ بوعمامة” عام 1985 مع المخرج بن عمر بختي.

 

يرفض التكريم أو عرض “سنوات الإشهار”

طيلة هذه المسيرة الفنية لم يقبل عثمان عريوات بأيّ تكريم رسمي بل أكثر من ذلك، فوسام الاستحقاق الوطني الذي يمنحه رئيس الجمهورية كل مرة للفنانين والمبدعين؛ لم يُعلَّق حتى الساعة على صدر هذا الفنان نظرا لأنه يرفض ذلك، فهو لا يجد معنى في التكريمات الرسمية، ويعتبرها بلا وزن مهما بلغ حجم قيمتها المالية، فقد حاولت العديد من المهرجانات الثقافية في الجزائر إغراءه بمبالغ كبيرة، لكن الممثل الشهير بلقب “سي مخلوف البومباردي” -شخصية أداها في فيلم “كرنفال في دشرة”-  يتجاهل الدعوات، ولا يوافق إلا على دعوات البسطاء والجمعيات المحلية البسيطة جدا.

وتعاني وزارة الثقافة كثيرا بسبب هذا التجاهل، فهي في العادة تدفع الثمن غاليا في تعليقات الجمهور الذين يتهمونها بتهميش ممثلهم المفضل. ورغم أن جميع الوزراء الذين تعاقبوا على كرسي وزارة الثقافة صرحوا مرارا وتكرار بأن الأمر يتجاوزهم، ولا يتعلق بتهميشهم للفنان القدير، لكن لا أحد يصدقهم.

وما يزيد من حرج المسؤولين هو الجدل القائم إزاء مشروع فيلمه “سنوات الإشهار” منذ عام 2004، حيث يرفض عريوات عرض الفيلم حتى الآن ولا يبدي سببا واضحا، لكن بين الحين والآخر تطفو بعض الأخبار التي تشير إلى أن الأمر لا يتعلق بوزارة الثقافة، وإنما بشروط تعجيزية وضعها عريوات مقابل السماح بعرض الفيلم، وقد مضى اليوم زمن طويل على جاهزية الفيلم للعرض، فبعد 15 عاما لا يزال كل الوزراء الذين تعاقبوا على قطاع الثقافة يقدمون تصريحات بين الحين والآخر؛ تعلن عن ��قتراب موعد عرض الفيلم، لكنها تظل في النهاية تذهب في مهبّ الريح، ليعود عريوات لتكذيبهم، وهو ما فتح الأبواب لحديث البعض أن الأمر ربما يتعلق بمضمون الفيلم وزوايا النقد السياسي للنظام الحاكم من طرف واحد من أقوى الممثلين الجزائريين.