روبن وليامز.. رحلة إلى داخل عقله لكن بدعوة منه

حتمًا هي رحلة وليست مجرد زيارة سريعة، فحينما يكون المقصد هو عقل فنان بحجم الممثل والكوميدي الراحل روبن وليامز، فمن المنطقي ألا يقتصر الأمر على زيارة سريعة وأن يمتد إلى رحلة؛ رحلة لسبر أغوار ذلك العقل غير التقليدي لهذا الفنان والممثل الاستثنائي، وذلك من خلال مشاهدة فيلم “روبن وليامز.. تعالَ داخل عقلي” (Robin Williams Come Inside My Mind) للمخرجة مارينا زينوفيتش من إنتاج شبكة “إتش بي أو” (HBO)، والذي عُرض عالميًا للمرة الأولى في مهرجان صندانس السينمائي في يناير/كانون الثاني 2018، ثم عُرض تجاريًا في شهر يوليو/تموز من العام نفسه.

يبدأ الفيلم بتعليق صوتي للنجم روبين وليامز (2014-1951) يقول فيه “إننا على وشك الدخول إلى حيز الذهن البشري”، لتكون مقدمة مناسبة جدًا كعقد مشاهدة بين الفيلم والمُشاهد، حيث إن ما سيراه المُشاهد على مدار أحداث ومشاهد ولقطات أو تسجيلات صوتية طوال مدة الفيلم لها علاقة بشكل مباشر بمحاولة المخرجة مارينا زينوفيتش وأصدقاء وليامز المقربين وحتى أفراد عائلته الإجابة عن سؤالَي: ما الذي كان يُميز عقل روبن وليامز عن غيره من الممثلين الذين سبقوه أو حتى عاصروه.. ما الذي جعله متفردًا إلى هذه الدرجة؟ ثم وهو السؤال الأهم في حالة وليامز: ما الذي حدث له ودفعه إلى إنهاء حياته في 11 أغسطس/آب 2014، تلك المفاجأة الفاجعة والصادمة لكل عُشّاق ومحبي النجم المبهج، ما الذي دفع صانع البهجة إلى الانتحار، وما الذي تعرض له بالضبط جعله يتخذ قرارا بإنهاء حياته بهذا الشكل المأساوي؟

الوحدة والخوف.. كلمتا السر

حينما كان وليامز يُسأل عن أسوأ مخاوفه في الحياة كان يجيب إجابة واحدة هي: “أسوأ مخاوفي في الحياة هو أن أصبح مملًا أو جامدًا”. وتعتبر هذه الإجابة هي كلمة السر في حياة روبن وليامز، فمنذ بدايته اتضح جليًا لكل من شاهده أو تعامل معه أو حتى لجمهوره أن مصدر اختلافه وقوته وتمكنه هو قدرته على التعبير والتحكم في جسده، بل وقدرته الذهنية غير العادية القادرة على الحفظ والارتجال، وعندما أتى عليه الوقت الذي أيقن أنه فقد القدرة على تطويع ذهنه والتحكم في جسده، كان هو الوقت الذي تأكد له فيه أنه على وشك نهاية مشواره، وهو ما أكده كل من كانوا حوله في آخر أيامه، وعاصروا مراحل تطور الأمراض التي أصيب بها قبل وفاته.

كان لنشأة وليامز عامل كبير في تكوّن أكبر مخاوفه في الحياة، حيث نشأ وحيدًا لأب حادّ الطباع يتنقل دومًا بسبب طبيعة عمله، وأم تعمل ممثلة كوميدية في بعض العروض الهزلية لتترك مهمة تربية وليامز للخادمة، وكان لكل من والده ووالدته أبناء آخرون من زيجات سابقة، فكان لوليامز أخوان أحدهما من والده والآخر من والدته، ولم يجتمع ثلاثتهم إلا على كبر، ولم تنشأ بينهم روابط أو علاقات عاطفية أسرية طبيعية.

وقد صرح وليامز في أكثر من حوار أنه كان وحيدًا وأن شعوره بالوحدة هو ما دفعه إلى الانخراط في مجال التمثيل، حيث حقق له الخروج؛ أو بالأحرى الهروب من ذاته ووحدته إلى ذوات وعوالم شخصيات أخرى، إلى جانب أنه حقق له أيضًا التواجد دائمًا بين أشخاص لهم نفس اهتماماته، يقدرونه، والأهم أنهم كانوا يُقدرون موهبته على عكس والده الذي هدده بأنه سيتوقف عن الإنفاق عليه إذا استمر في مجال التمثيل.

روبين وليامز في صغره، حيث كان لنشأته عامل في تكوّن أكبر مخاوفه في الحياة

إضحاك الناس.. كفاح وليامز

وبمرور الأيام وجد وليامز في مهنة التمثيل -وتحديدًا الأداء الكوميدي على المسرح (Stand Up Comedy)- ضالته، فقد مثلت أوقات تواجده على المسرح في مواجهة الجمهور بشكل مباشر لحظات تحققه الحقيقية في الحياة، حيث أيقن أن هذه هي غايته في الحياة؛ التواصل الحي والمباشر مع الجمهور والتأثير فيهم مباشر، والحصول على ردود أفعالهم بشكل لحظي وفوري، فكانت أكبر متعه في الحياة هي أن يشعر بمدى تأثيره على الآخرين، وأنه قادر على إضحاكهم وجعلهم سعداء، لذلك وحتى في الأوقات التي كان يقوم فيها بالتمثيل للسينما كان يفعل الأمر نفسه مع الممثلين زملائه في أوقات التوقف بين المشاهد أو أثناء التحضير لها.

وظلّ وليامز في صراع داخلي مع نفسه وذهنه وعقله، وصراع خارجي مع جسده ولياقته البدنية، وذلك لرغبته في الحفاظ على تجدده وبريقه وقدرته على إثارة وإدهاش جمهوره، وكان هذا هو كفاحه الحياتي، حيث كان على يقين بأنه حين يفقد هذه القدرة، وفي هذه اللحظة بالتحديد سيقع تحت ضغط القلق والتوتر اللذين سيتسببان في تحوله إلى إنسان آخر ليس هو، وهو ما حدث بالفعل.

صورة تجمع روبين بحبيبته الأولى فاليريا فيلاردي، التي قالت بأنه كان يعشق النساء

النساء.. كلمة سر أخرى

تُشكل علاقة وليامز بالمرأة كلمة سر أخرى في حياته، فقد كان لوالدته التأثير الأكبر في حياته، حيث ورث منها موهبة التمثيل الهزلي وحب الفكاهة، ثم قامت الخادمة بتربيته، ثم تولدت لديه رغبة في الاختلاط بالفتيات مما دفعه للانخراط في مجال التمثيل، فقد أدرك وهو في عامه الجامعي الأول بكلية كليرمونت للرجال لدراسة العلوم السياسية أن المادة الدراسية الوحيدة التي يجتمع فيها الفتيان بالفتيات هي مادة المسرح الارتجالي، لذلك داوم على حضور جميع محاضرات تلك المادة الدراسية وتدريباتها العملية، ولم يحضر أية محاضرات خاصة بمجال دراسته الأساسي وهو العلوم السياسية.

ربما كانت وحدته وعدم شعوره بالدفء الأسري هو ما جعله يرغب في الارتباط والاستقرار وتكوين أسرة وعائلة مبكرًا، وربما هذا الارتباط المُبكر هو ما جعله يندم في قرارة نفسه ويشعر بأنه قد أقدم على تلك الخطوة مبكرًا، ولذلك تعددت علاقاته العاطفية بل ونزواته، خاصة في بداية حياته ومشواره المهني، فقد صرحت زوجته وحبيبته الأولى فاليريا فيلاردي بأنه كان يعشق النساء، وأنها كانت على علم بذلك وقد تركته يلهو، لأنها علمت أن هذا الأمر بات جزءًا من شخصيته، حيث كان يبحث دائمًا عن التواصل مع الآخرين بطرق مختلفة، حتى وإن احتاج هذا إلى ابتكار شخصية أو لكنة جديدة.

روبن وليامز وُجد مُنتحرا عام 2014، رغم أن الحزن أو التعاسة أو الانتحار لم تكن موجودة في حياته

روبن وليامز.. مات أم انتحر؟

كل من يعرف روبن وليامز يستطيع أن يؤكد أن كلمات مثل التعاسة أو الحزن وبالطبع الانتحار لم يكن لها وجود في قاموسه الحياتي، وهو ما جعل خبر وفاته منتحرًا أمرًا صادمًا يصعُب تصديقه على كل من يعرفه بشكل شخصي، أو حتى على جمهوره الذي كان وليامز بالنسبة لهم أحد مصادر البهجة والسعادة، ولكن ما لم يكن يعلمه كثيرون عن وليامز هو طبيعة الأمراض التي أُصيب بها آخر عام قبل وفاته.

في البداية اعتلّ قلب وليامز، وتسبب ذلك الأمر في خضوعه لجراحة قلب مفتوح عاجلة وخطيرة، وبعد أن تم تعافيه من آثار الجراحة وعودته بشكل محدود لأداء العروض الكوميدية على المسرح؛ فوجئ وليامز وعائلته بإصابته بمجموعة من الأمراض التي تسببت بوفاته حسبما صرحت زوجته لأول مرة بعد وفاته بعام، فقد ذكرت أنه وقبل عام تقريبًا من وفاته أصيب وليامز بمرض باركنسون أو الشلل الرعاش، وهو اضطراب يحدث تدريجيًا في الجهاز العصبي ويؤثر على الحركة، ويتطور تدريجيًا حتى يسبب الخرف، وهو مرض تتضرر فيه الوظائف الإدراكية والعقلية ويمس وبشكل تدريجي بالذاكرة والقدرة على التفكير والإحساس بالزمان والمكان والقدرة على التعرف على الأشخاص والأشياء، وعقب ذلك يطرأ انخفاض تدريجي أيضاً في القدرة على القيام بأعمال يومية والتواصل مع المحيط، وكجزء من تطور المرض يعاني المريض من ظواهر البلبلة والغضب والشك وحتى من نوبات عنف، وهو ما مرّ به وليامز بالفعل، حيث تروي زوجته أنها فوجئت به قبل فترة وجيزة من وفاته وقد جرح نفسه، ولم يكن في حالة إدراك ووعي بما يحدث له.

ولكن زوجة وليامز تذكر أن السبب الرئيسي في وفاة زوجها هو إصابته بمرض خرف أجسام ليوي، هذا المرض الذي من أعراضه أنه يُرسل رسائل متضاربة للمخ في نفس التوقيت، وهو ما يتسبب بإحداث خلل في القدرات العقلية للمريض فلا ينعم بصفاء الذهن أبدًا، إلى جانب شعوره بحالات من الهذيان وبطء في الحركة، وتصلب العضلات ورجفة لا إرادية. وقد أكدت زوجته أن هذا ما لم يستطع وليامز أن يتحمله، كما أضافت أنه لو كان وليامز أقبل فعلًا على خطوة الانتحار فهو لم يكن في كامل وعيه، لكنه كان تحت تأثير معاناته مع هذا المرض، وقالت صراحة إن مرض خرف أجسام ليوي هو ما قتل روبن وليامز.

وليامز وجد في مهنة التمثيل وتحديدا الأداء الكوميدي على المسرح ضالته

ويليامز.. مقاطع نادرة لصداقة لا تُعوّض

أهم ما يتميز به فيلم “روبن وليامز.. تعالَ داخل عقلي” للمخرجة مارينا زينوفيتش هو حُسن استخدامها بل وتوظيفها للمادة الأرشيفية المسموعة والمرئية للنجم وليامز، وعرضها للكثير من المقاطع النادرة له أثناء عروضه الأدائية على المسرح، أو حتى ذلك المقطع الذي جمعه بالنجم جاك نيكلسون أثناء حفل توزيع جوائز اختيارات النقاد عام 2003، والذي ألقى الكثير من الضوء على طبيعة علاقة وليامز بأصدقائه وزملائه، فقد دعاه نيكلسون إلى إلقاء كلمة قبوله للجائزة بدلًا منه، وقد صعد وليامز بالفعل إلى المسرح وقام بأداء كوميدي رائع وساخر ومتفرد نال عنه تقديرًا من الحضور يعادل عشرات الجوائز.

لا شك في أن فقدان فنان بحجم موهبة وتأثير وتفرد روبن وليامز كان خسارة فادحة لكل جمهوره حول العالم، لكنه كان خسارة لا تُعوض أيضًا بالنسبة لأصدقائه المقربين الذين شاركوه الرحلة؛ رحلة عمره المهنية وحياته الشخصية، مثل بيلي كريستال الذي نعاه في حفل توزيع جوائز إيمي عام 2014.