عباسي مدني.. رحلة الإنقاذ والسجن واللجوء

أمين حبلّا

ولد عباسي مدني في أوج تحكم فرنسا في الجزائر، في بداية 1931 في ولاية بسكرة وتحديدا في مدينة سيدي عقبة

 

توقف عداد الزمان بالشيخ عباسي مدني عند الثامنة والثمانين منهيا رحلة طويلة ذات عقبات ومشاق كثيرة، انطلق فيها مع صيحة الولوج إلى العالم سنة 1931، أما المكان فقد كان بعيدا نسبيا عن الجزائر، حيث وضع عصا تِسيار الحياة في مدينة الدوحة.

ففي مسجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدوحة اصطف الآلاف ليودعوا الرجل الذي حرك الجزائر نهاية عقد الثمانينيات وأثار أكثر من سؤال ذي بعد فكري وحضاري وسياسي وأمني.

غُسل الفقيد في إحدى مغاسل الموتى بالدوحة، ولُف بكفن أبيض ثم لف بالعلم الجزائري قبل أن ينقل إلى بلاده ليوارى الثرى.

وفاة مدني جاءت والجزائر تغتسل بالثورة الهادئة من حكم بوتفليقة، بعد أن استطاع بوتفليقة إخراجها من عشرية الدم والجمر وسنوات الرعب والموت التي ارتبطت بأطراف متعددة، وحفرت نهرا متدفقا من الدماء والآلام راح ضحيته أكثر من مئة ألف جزائري ما بين قتيل أو ذي عاهة مستديمة وجرح نفسي لا يندمل.

تحت نير استعمار فرنسي

ولد عباسي مدني في أوج تحكم فرنسا في الجزائر، في بداية 1931 في ولاية بسكرة وتحديدا في مدينة سيدي عقبة. كان كل شي يومها في الجزائر يتوقد لهبا وغضبا، فقبضة فرنسا الاستعمارية كانت ضاغطة بقوة على مفاصل العنق الجزائري.

في سيدي عُقبة أخذ عباسي مدني مبادئ العلوم الإسلامية والقرآن الكريم على شيوخ القرية الذين كانوا يمثلون الألم والأمل الجزائري في الحفاظ على الهوية الإسلامية والعربية للجزائر.

في تلك الفترة، كانت كلمات وقصائد الشيخين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي وغيرهما من قادة جمعية العلماء المسلمين تسافر بالأجيال الجزائرية في بحر من النضال والمقاومة التي تستهدف بشكل خاص الحفاظ على الشخصية الثقافية وحمل السلاح لدحر المحتل الفرنسي الذي جثم على قلوب الجزائريين وأرضهم لأكثر من قرن.

تفتفت مواهب الشاب عباسي مدني عن ميل تجاه العمل السياسي والنضالي حيث انخرط في شبيبة الحركة الوطنية الجزائرية سنة 1948.

لا تمثل تلك السنة حدثا عاديا بالنسبة لمدني، ففيها بدأ يخطو بقوة إلى عمق المشهد السياسي وينفتح على العالم المحيط به وحراكه، وكان صدى الهزائم العربية أمام عصابات اليهود المحتلين في فلسطين يأخذ هو الآخر جانبا من اهتمام وتكوين وقناعات الرجل.

بدأ مدني حياته السياسية بميول إسلامية عميقة، وظل على تلك الطريق مؤمنا بفكر إسلامي ذي مشرب “سلفي” ومنزع وطني صارم.

وككل أبناء جيله المقاوم كان لعباسي مدني موعد مع سجن طويل استمر سبعة أعوام عجاف، وذلك بعد مشاركته في هجوم على الإذاعة الجزائرية الاستعمارية في أول يوم من حرب الاستقلال ضد المستعمر الفرنسي.

مكث عباسي معظم سنوات الحرب الثمانية في السجن وأفرج عنه سنة 1962 مع استقلال الجزائر.

خلال عقدي الستينيات والسبعينيات برزت الشخصية العلمية والثقافية لعباسي مدني حيث درس الفلسفة وعلوم التربية، وواصل حتى أكمل الحصول على دكتوراه الدرجة الثالثة في علم التربية المقارن.

في منتصف السبعينيات درس في بريطانيا حيث نال شهادة دكتوراه دولة في التربية، وهنالك التقى عددا كبيرا من قادة التيارات الوطنية والإسلامية المقيمين أو الزائرين لبريطانيا وتعزز وعيه الإسلامي من جديد.

خلال عقدي الستينيات والسبعينيات برزت الشخصية العلمية والثقافية لعباسي مدني حيث درس الفلسفة وعلوم التربية، وواصل حتى أكمل الحصول على دكتوراه الدرجة الثالثة في علم التربية المقارن

الشاذلي وتمدد الصحوة

بدكتوراه دولة في التربية وبحس وطني عال ورغبة جامحة في خوض غمار السياسة من جديد عاد الشيخ عباسي مدني إلى الجزائر، وخاض غمار الانتخابات النيابية، حيث صعد إلى البرلمان المحلي لولاية الجزائر، ممثلا لجبهة التحرير الوطني.

وشهد عقد الثمانينيات تحولات جذرية على مستوى الجزائر، فحُكم الشاذلي بن جديد لم يكن ذا توجه إسلامي ولكنه كان منفتحا إلى حد كبير على التيارات الإسلامية، وعمل خلال فترة حكمه على كنس متواصل للصبغة الشيوعية لحكم الرئيسين السابقين أحمد بن بلة وهواري بومدين.

لقد رفع الحظر عن إقامة المنشآت في المؤسسات العمومية، وبدأ الحراك الدعوي للإسلاميين ينتشر بصورة كبيرة في المؤسسات التعليمية والقرى والأسواق.

وسرعان ما بدأت الظاهرة الإسلامية تتمدد في الجزائر وتتعزز بشكل واضح، وهو ما انعكس في انتشار المظاهر ذات الصبغة الإسلامية في الشارع مثل الحجاب وغيره.

في منتصف عقد الثمانينيات بدأ حراك إسلامي واسع في الجزائر، بعضه سلفي وبعضه ذو طابع إخواني.

وترجمة لهذا الحراك جرت اجتماعات وتنسيقات متعددة بين عدد من العلماء والشخصيات الدينية الجزائرية تسعى إلى إقامة كيان سياسي جديد في الجزائر، رافعة شعار العودة إلى الإسلام ثقافة وممارسة وتحكيمه في الشأن العام سياسة وتشريعا.

ولقد كانت هذه النداءات مسبوقة ببيان “14 مطلبا” الذي وقع عليه عدد من الشخصيات الإسلامية في الجزائر وعلى رأسهم الراحل الشيخ أحمد سحنون، وكان من بين مطالبه تطبيق الشريعة الإسلامية، ورفض تعيين النساء في القضاء، والدعوة إلى وقف الاختلاط في المؤسسات والمدارس، كما ينتقد حالة الفساد المالي، ويشدد النكير على من يراهم عملاء للغرب وأعداء للدين في أجهزة الدولة.

وكان رد الحكومة سريعا وحاسما، فقد اعتقلت الشيخ أحمد سحنون قبل أن تحيله إلى الإقامة الجبرية بعد ذلك.

غير أن المد الإسلامي والسلفي منه تحديدا بدأ يأخذ بعدا تنظيميا آخر بتأسيس “رابطة الدعوة” سنة 1988 برئاسة الشيخ أحمد سحنون الذي كان الأسنّ من بين أعضائها والأكثر رمزية علمية بين الشخصيات الإسلامية المتصدرة للشأن العام.

وقد حملت الرابطة أهدافا كبيرة ذات بعد ديني واضح أبرزها:

  • إصلاح العقيدة
  • الدعوة إلى الأخلاق الإسلامية.
  • تحسين الاقتصاد المنهار في الجزائر.
  • النضال على مستوى الفكر.

اكتسح خطاب الجبهة الإسلامية الساحات السياسية والمساجد والجامعات، وكان لرئيسها عباسي مدني دور كبير في تأجيج مشاعر الشباب بنغمته الرخيمة الهادئة

جبهة الإنقاذ واكتساح الشارع

في السنة الموالية وبعد حوارات عديدة داخل الرابطة، أخذت مسارا آخر نحو السياسة بتأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأحيلت رئاستها إلى عباسي مدني وينوبه رفيقه في السياسسة والسجن علي بلحاج.

واستطاعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ الحصول على ترخيص حزب سياسي وبدأت نشاطها السياسي الذي توسع بشكل كبير بسبب خطابها المركّز على قضايا الهوية والتدبير، والمتناغم مع نفسيات أجيال جزائرية شابة تُقبل على صحوة إسلامية كبيرة الشعارات، وتتألم من واقع اقتصادي عصيب.

اكتسح خطاب الجبهة الإسلامية الساحات السياسية والمساجد والجامعات والمؤسسات التعليمية، وكان لرئيسها عباسي مدني دور كبير في تأجيج مشاعر الشباب بنغمته الرخيمة الهادئة وخطابه المركز على الهوية والقيم والشعب.

لم تخف الجبهة الإسلامية للإنقاذ أهدافها في الإطاحة بالنظام العلماني الذي تمثله جبهة التحرير الوطني.

وفي سنة 1990 وجدت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات البلدية فرصة أساسية لقياس حجمها وتأثير خطابها في الشارع حيث حققت فوزرا كبيرا في 856 بلدية، وهو ما يعني تحولها إلى الحزب الأول في الجزائر.

شعرت الدولة العميقة في بلاد المليون شهيد بالخطر الذي يتهددها، فأعادت تكييف قانون الانتخاب، وبدأت المواجهة، فقد انتشر لهيب الغضب بين شباب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، كما انتشر غضب آخر شديد في صفوف الجنرالات بعد أن أصبح عباسي مدني في نظرهم بمثابة الخليفة الذي يتوقع أن يرفعه الشارع إلى منصب رئيس الدولة خلفا للشاذلي بن جديد.

في يونيو/حزيران 1991 بدأت مواجهة دامية بين أنصار الجبهة وقوات الأمن الجزائرية خلفت عشرات القتلى والمصابين، مما أدى إلى احتقان سياسي متصاعد في البلاد

في مستنقع الدم

بعد الانتخابات البلدية (المحلية) بدأ التحضير للانتخابات التشريعية، لكن السلطة استبقت الحدث وأجرت تقسيما انتخابيا جديدا رفضته الجبهة، ونظمت ابتداء من يونيو/حزيران 1991 إضرابا مفتوحا، سرعان ما تحول إلى مواجهة دامية بين أنصار الجبهة وقوات الأمن الجزائرية خلفت عشرات القتلى والمصابين، مما أدى إلى احتقان سياسي متصاعد في البلاد، وأعلن الجيش حالة الطوارئ وزج بقادة الجبهة الإسلامية -ومنهم عباسي مدني- في سجن لم يكونوا غرباء عليه.

ورغم الجو المشحون حينها بالتوتر، فإن الانتخابات التشريعية نـُظمت في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991، وفازت فيها الجبهة بـ188 مقعدا من أصل 228 في المرحلة الأولى (عدد مقاعد المجلس الإجمالية آنذاك 380).

ولكن ذلك الفوز الانتخابي الكاسح جعل المواجهة تأخذ بعدا أكثر دموية، بعد أن ألغت السلطات الجزائرية نتائج الانتخابات فاتحة بذلك الباب أمام مواجهة عنيفة سرعان ما كللت الجزائر كلها بالدم القاني والألم الفتاك.

لم تخف الجبهة الإسلامية للإنقاذ أهدافها في الإطاحة بالنظام العلماني الذي تمثله جبهة التحرير الوطني

“الحرب القذرة”

تحت هذا العنوان كتب الضابط السابق في القوات الخاصة بالجيش الجزائري “لحبيب سويدية” كاشفا جوانب مؤلمة من الحرب القذرة، عندما التقت إرادة الدفاع العسكري المصمم على البقاء في السلطة مهما كلف الثمن، مع اندفاع وحماس آلاف الشباب الجزائري المصمم على الدفاع عن فوز الجبهة الإسلامية وبأي سلاح.

غرقت الجزائر في حرب قذرة مؤلمة، وتفككت الجبهة الإسلامية للإنقاذ عمليا بعد أن انحاز الآلاف من عناصرها إلى الجبال وبدأت عمليات كر وفر تحطمت تحتها جماجم عشرات آلاف الجزائريين وسالت أودية الدماء بقدرها، واحتمل السيل زبدا رابيا من استقرار الجزائر وأمنها وقوة اقتصادها.

مات مدني بعد أيام من موت نظام بوتفليقة، كان الراحل في أيامه الأخيرة مهتما بالحراك السياسي في بلاده

إلى السجن فالمنفى

عاد الشيخ مدني إلى حياة تحت سطوة السجن، ولم يكن سجانوه هذه المرة أقل بطشا وعسفا من سابقيه. ففي 16 يوليو/تموز 1992 حكمت عليه المحكمة العسكرية في البليدة (جنوبي العاصمة) بالسجن 12 عاما بعد إدانته بـ”المس بأمن الدولة”.

وبعد أن قضى منها ستة أعوام خلف القضبان، وفي الأول من سبتمبر/أيلول 1997 وُضع عباسي قيد الإقامة الجبرية حتى أفرج عنه هو ونائبه علي بلحاج.

وفي 1999 ومع التوجهات الرسمية في الجزائر إلى المصالحة الوطنية دعم مدني قرار الجناح العسكري للحركة إلقاء السلاح، ودعا إلى السلام والتفاوض.

وفي 2003 دعا بشكل واضح إلى إنهاء القتال والتوجه إلى خيار المصالحة والتفاوض مع الحكومة، وفي تلك السنة انتهت محكوميته وأصبح بإمكانه مغادرة الجزائر، وسرعان ما حلق باتجاه ماليزيا في رحلة علاج استمرت عدة أشهر. وبعدها انتقل إلى دولة قطر التي أقام فيها بقية حياته، قبل أن يتغلب المرض على ابن بسكرة ويوقّع صك رحيله.

في الجزائر التي عاد إليها محمولا على الأعناق، تختلف المواقف تجاه الرجل، فالعديد من رموز النظام ومدرسته الفكرية والأمنية يرون في الرجل رمزا أساسيا من رموز العشرية السوداء، بينما يرى فيه الكثير من الجزائريين مقاوما وطنيا وإسلاميا ورمزا من رموز سعي الجزائر وتحررها من الاستعمارات السياسية والثقافية واستعمار الفساد.

مات مدني بعد أيام من موت نظام بوتفليقة، كان الراحل في أيامه الأخيرة مهتما بالحراك السياسي في بلاده، وفي لقاءات متعددة بين الرجل وشخصيات إعلامية وسياسية متعددة كان يجد متعة في سرد بعض الأحداث والتجارب وتقديم رؤيته لبعض الوقائع المؤلمة التي أبحرت بالجزائر في موج الدم.

برحيله تفقد الجزائر واحدا من أسمائها المثيرة، وتذهب ذاكرة أخرى تختزن كثيرا من التاريخ السياسي والفكري لبلد المليون شهيد.