الشيخ الحصري.. أول من سجل القرآن بصوته

 

حبيب مايابى

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل
وعدت إلى تصحيح أول منزلِ

ونادت بيَ الأشواق مهلا فهذه
منازل من تهوى رويدك فانزلِ

“لا أتقاضى أجرا على المصحف المرتل”، تلك كلمة خالدة كتبها الحصري في الظرف الذي قدمه للمسابقة التي أعلنتها وزارة الأوقاف في مصر لتسجيل مصحف صوتي.

أبلى شيخ القراء بلاء حسنا في معركة انتشار المصاحف المحرّفة في منتصف القرن الماضي، فنذر نفسه للقرآن وأثبت لمن يحاولون تحريف الكلم عن مواضعه أن ذلك المسعى لا يمكن بلوغه؛ لأن الذكر محفوظ في صدور الرجال.

وبنطقه الرخيم وصوته الشجي سجل القرآن دون تكلف، فكانت المصاحف المسموعة بصوته من أوائل ما انتشر في العالم الإسلامي.

وضمن سلسلة “أصوات من السماء” خصصت الجزيرة الوثائقية فيلما قصيرا لإمام القراء الشيخ محمود خليل الحصري.

 

حياة في سبيل القرآن

في قرية شبرا النملة بمدينة طنطا أبصر محمود السيد خليل الحصري نور الحياة عام 1917 وبدأت رحلته مع القرآن في أيام الطفولة.

حفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره، وانتسب للحلقات العلمية بمسجد طنطا فتعلم التجويد وعلم القراءات.

صرف همته منذ الصبا للتجويد وعلوم القرآن ونال شهادات في ذلك فبرز نجمه واشتهر، وزكاه المشايخ والحفاظ.

مكنته مواهبه الصوتية وتفننه في حسن أداء القراءة من حجز كرسي بين ضيوف إذاعة القرآن الكريم في مصر سنة 1944 فعرفه الناس عبر الأثير، وذاع صيته وأصبح ذا تأثير.

تنقل بين هيئات المقارئ القرآنية مرتلا ومعلما، ففي سنة 1950 عُين قارئا للمسجد الأحمدي بطنطا، وفي عام 1955 عين شيخا للمسجد الحسيني بالقاهرة أحد أقدم المساجد وأهمها في دولة مصر.

الشيخ الحصري مع أبنائه في بلدته في طنطا

 

شيخ القراء بلا منازع

في 1960 انتشرت المصاحف المحرفة في مصر، فجاءت الحكومة بفكرة المصحف المسجل وطلبت من القراء أن يقدموا عروضا للوزارة تحتوي على المبلغ الذي يريدون مقابل خدمتهم.

تقدم الشيخ الحصري للمسابقة ولكنه تعفف عن الأخذ على خدمة القرآن فكتب أنه لا يريد أجرا على المصحف المرتل.

سجل مصحفا برواية حفص عن عاصم سنة 1961 وكان أول مصحف يُسجل، وسجل آخر بعد ذلك برواية ورش عن نافع وتوالت سلسلة تسجيلاته.

انتشر القرآن بصوت الشيخ في جميع أنحاء العالم، وأصبحت المصاحف المسجلة متداولة بين المسلمين فنودي على القارئ بزيارة الحرمين وأرسلت له طائرة خاصة.

يقول الحصري “لقد زرت جميع القارات، وكلما جئت لبلد وجدت صوتي سبقني لذلك المكان”.

كان الحصري عذب الصوت ومعتدلا في القراءة لا يسأل عليها أجرا وما هو من المتكلفين، ويرتل في جميع المقامات.

لم يكن الشيخ الحصري قارئا فقط بل كان ماهرا في علوم القرآن يفسره بصوته كما يفسره العلماء بأقلامهم، على حد تعبير الدكتور طه أبو جريشه في حديثه للجزيرة الوثائقية.

صدع بالقرآن الكريم في الأمم المتحدة والكونغرس الأمريكي عندما تمت دعوته هنالك برغبة من الجمعيات الإسلامية، وأهدى للرئيس الأميركي جيمي كارتر نسخة من المصحف المسموع.

ترك الشيخ أعمالا خيرية أخرى كبيرة كالمعهد الأزهري والجامع الكبير في قرية شبرا النملة، وأوصى بثلث ما تركه للأعمال الخيرية.

وفي 24 من نوفمبر/تشرين الثاني 1980 وذات ليلة حالكة أسلم المقرئ النفس لباريها بعدما أنار الدروب وأخشع القلوب، ليبدأ له عمر من الذكر يتجدد كلما تُليت آيات الله.