توفيق صالح.. مخرج انشغل بهموم العرب وقضيتهم فلسطين

 

رحم الله المخرج المصري الراحل توفيق صالح، فهو واحد من المخرجين العرب الكبار الذين رحلوا في صمت بعد مسيرة سينمائية -وعلى الرغم من قلة أفلامها- بَصَمت المشهد السينمائي العربي والإنساني بتحف سينمائية حملت مضامين وخطابات قوية ودالة، لدرجة اعتبارها اليوم مرجعية، بل مشتركا فنيا عربيا وإنسانيا دالا وناهضا على العديد من الرؤى الثقافية والجمالية.

سنحاول في هذا السفر السينمائي “القبض” على بعض مميزات وخصائص القول السينمائي عند هذا المخرج الذي جمع بين بصمة التدريس/التكوين والإخراج السينمائي، مما جعل العديد من الأجيال المصرية والعربية التي تكونت وتعلمت منه تحمل أثره الفني والإنساني بشكل أو بآخر في العديد من الإنتاجات الفنية والنقدية والثقافية.

من أجل هذا سنسلك المراحل التالية التي ستقرب القارئ الكريم إلى عوالم هذا المخرج، بعيدين كل البعد عن تقديم خطي ومباشر لسيرته الذاتية المنتشرة بشكل واسع في العديد من المراجع الورقية والإلكترونية السينمائية.

 

توفيق صالح.. الذاكرة الثقافية الخصبة

المتأمل لمسيرة توفيق صالح من الممكن أن يستنتج مجموعة من المرجعيات الثقافية المميزة للراحل، مرجعيات أقل ما يمكن أن نقول عنها عشقه للمعرفة والقضايا الإنسانية، وانحيازه الدائم لقضايا المغلوبين والمهمشين والمظلومين وللقضايا العادلة، لا سيما القضية الفلسطينية التي خصص لها عملا سينمائيا بثنائية الأبيض والأسود (سنة 1972)، والذي اعتُبر وإلى اليوم من الأفلام السينمائية العربية والعالمية التي قدمت القضية بلغة “سينماتوغرافية” مشرحة لخبايا القضية ولرموزها، كما سنرى لاحقا.

من الممكن ونحن نتتبع عطاءات الرجل أن نعتبرها نتاجا لمرجعياته الثقافية الخصبة. فتشبعه بالسينما والأدب الفرنسي في عمومه، والثقافة السوفياتية (خلال الحرب الباردة)، وتنقله بين سوريا والعراق ودول عربية أخرى، واختياره طريق التدريس والتكوين في المعاهد السينمائية، ونهله من الرسم والفوتوغرافيا والمسرح.. كل هذا جعله يشكل علامة مضيئة في خريطة القول السينمائي والمسرحي والثقافي والتكويني، مما جعل أعماله تجد طريقها نحو المثقفين والأندية السينمائية، ومن يعشق سؤال المعرفة السينمائية الحاملة لقيمة إنسانية قوية ودالة.

تنقل المخرج بين العديد من الفنون، وتسرب إلى أعماله الفنية وجعلها خصبة فعلا إلى يومنا هذا. فسواء على مستوى الأفلام الروائية الطويلة، أو على مستوى الأفلام التسجيلية، ظلت رؤية المخرج باحثة دوما عن خلخلة الواقع، والبحث عن جعل السينما/الفن في خدمة تغيير الواقع، مما يجعلنا “نموقعه” ضمن ما يمكن تسميته بـ”السينما اليسارية”، أي تلك السينما التي لا تهادن ولا تدغدغ الأحلام، بل سينما عاشقة ومنحازة للإنسان الباحث عن الحق في الحياة.

صورة تجمع المخرج المصري توفيق صالح بالروائي والكاتب الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ

سينما تنشغل بالواقع العربي

يكفي -على سبيل المثال- الاقتراب من طبيعة أفلامه الروائية الطويلة (درب المهابيل في 1955، صراع الأبطال في 1962، المتمردون في 1966، السيد البلطي في 1967، يوميات نائب في الأرياف في 1968، المخدوعون في 1972، الأيام الطويلة في 1980) لنستخلص أنها تحمل في عمقها رؤية تعكس طبيعة انشغالاته المجتمعية المصرية والعربية في تلك المرحلة، لاسيما وقد عاش وتتبع العديد من الوقائع السياسية المصرية والعربية والغربية، مما جعل أفلامه هذه صدى لطبيعة ما كان يفكر فيه.

سبعة أفلام روائية على مدى ربع قرن، إلى جانب تدريسه السينما في العديد من المعاهد السينمائية العربية، وهو عمل جعله فعلا من المخرجين العرب الذين حملوا هما مجتمعيا، وكان حالما بتغيير في الواقع، بل شأنه هنا شأن المفكر العربي الذي ألف وكتب العديد من المقالات والدراسات والبحوث كلها تصب في سؤال: كيف نغير واقعنا نحو الأفضل؟

السؤال نفسه يمكن تلمس بعض عناصره التغييرية في أعماله التسجيلية التي قاربت موضوعات ذات بعد ثقافي وحضاري واجتماعي، بل إن أحد أفلامه التسجيلية عنون بـ”من نحن؟”، فما الذي يمكن استخلاصه من هذه الأفلام التسجيلية التي بصمها بأسلوبه الفني الرابط بين الواقع وأعماله؛ أعمال تسجيلية من قبيل: كورنيش النيل في 1956، فن العرائس في 1957، نهضتنا الصناعية في 1959، من نحن في 1960، القلة في 1961، فجر الحضارة في 1977.. إلخ؟

من الممكن أن تعمق نفس السؤال الذي طرحناه بشأن أعماله الروائية، مما يجعلنا نؤمن وبشكل كبير بأن الراحل أتى إلى السينما، وبشقيها الروائي والتسجيلي، من موقع طرح الأسئلة وخلخلة الواقع والبحث عن التغيير نحو الأفضل، ليس على مستوى مجتمعه المصري فحسب، بل حتى على المستوى العربي والإنساني.

وحتى نقرب القارئ الكريم إلى طبيعة رؤية المخرج الواقعية، إلى درجة ربطها بسخرية سوداء ولاذعة، تعكس في العمق موقفه مما يجري في مجتمعه المصري والعربي كله، سنقدم هنا نموذجين سينمائيين روائيين من أعماله السينمائية الخالدة التي تكشف أن الراحل كان خبيرا بواقعه متملكا لتشخيص دقيق لمجتمعه، طارحا في الوقت نفسه وبشكل مباشر أو بشكل مضمر، كيفية الخلاص من كل أشكال التخلف، لاسيما وأن توفيق صالح كان بمثابة ذلك المفكر العضوي المنشغل فقط بكيفية البحث عن تغيير حقيقي لمجتمعه المصري والعربي كله، مما يحق لنا تسميته بمفكر السينما العربي اليساري.

ألم البوح في “يوميات نائب في الأرياف”

هذا واحد من أفلام توفيق صالح السينمائية الروائية المنتمية لكلاسيكيات السينما العربية، حيث من الممكن اعتباره مثالا دقيقا عما سبق قوله. كيف ذلك؟

موضوع هذا الفيلم، والذي هو في الأصل رواية للكاتب الحكيم توفيق الحكيم، يتعلق بتدوين يومي لنائب (موظف قضائي) دون كل القضايا القضائية التي كانت تعرض عليه. طبعا تدوين هذه اليوميات، ما هو إلا حيلة فنية مؤلمة غايتها قول شيء واحد، ويتجلى في أن الريف المصري ريف غارق في العمى الاجتماعي والسياسي والفكري، ومن ثم فلا مناص من البحث عن كيفية الخروج من هذا الجهل الذي كان يطارد كل مكونات الريف المصري، كعينة ممثلة للمجتمع، لاسيما وأن النائب وفي هذا الفيلم لم يتمكن من معرفة القاتل الحقيقي للضحية “ريم”، مما جعل القضية تقيد ضد مجهول.

على مدى كافة مشاهد الفيلم، قضية واحدة تبين تشعباته الاجتماعية والسياسية والقضائية، ويتعلق الأمر بالتخلف، مما يجعلنا نؤكد مرة أخرى بأن توفيق صالح كان حمّال مشروع سينمائي مجتمعي مصري حالم بالديمقراطية، لاسيما وأن شخصية “ريم” في الفيلم تتميز بالجمال والفتوة، جمال أثار الجميع حد الافتتان به، لكن قتل “ريم” وعدم معرفة القاتل وتقييد القضية ضد مجهول بعدما عثر على جثتها بجانب صندوق الانتخابات، يحمل العديد من القراءات، أبسطها أن “ريم” تحيلنا على مصر الجمال، وأن صندوق الانتخابات المرمي هنا هو قتل للديمقراطية، وارتباط دائم بالتزييف.

الفيلم هو في نظر البعض، ضمن أحسن مئة فيلم سينمائي كلاسيكي عربي، لاسيما، وأنه هنا شرح الريف المصري بكل مكوناته الاجتماعية والسلطوية (شخصية المأمور مثالا).

والفيلم من زاوية أنثروبولوجية، من الممكن اعتماده كنسخة دالة على طبيعة العلاقات المجتمعية المصرية الريفية ككل، والشيء نفسه يمكن قوله على مستوى علاقة الفيلم بالعديد من المعارف كالتاريخ والسوسيولوجيا..

وإذا كان فيلم “يوميات نائب في الأرياف” نبش في تفاصيل الحياة اليومية في الريف، فالفيلم الموالي سِفر في ألم القضية الفلسطينية. فكيف ذلك؟

لماذا لم يدق “المخدوعون” الخزان؟

لا يزال فيلم “المخدوعون” لتوفيق صالح يمارس “سلطته” الفنية على المتلقي، بل لا يزال قادرا على تقديمٍ أفضل لـ”أعطاب” القضية الفلسطينية، وربما إلى يوما هذا، مما يؤكد مرة أخرى صحة ما ذهبنا إليه، أي أن توفيق صالح كان حاملا لهموم مجتمعاته العربية، ومن جملتها القضية الفلسطينية.

لنذكر هنا أن هذه الرواية في الأصل تعود إلى الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وتحت عنوان “رجال في الشمس”. وقد بصم الكاتب المشهد الإبداعي الفلسطيني والعربي والإنساني بأعمال سردية نوعية، هي اليوم مرجعية فنية وتاريخية معرّفة بالقضية الفلسطينية بشكل دقيق.

“المخدوعون” صيحة سينمائية مفكِّكة لما عاشته ثلاثة أجيال فلسطينية (أبو قيس وأسعد ومروان)، ممثلة لكافة الفئات الفلسطينية منذ البدء إلى الجيل الجديد، أجيال اندحرت على يد قائد الشاحنة “السوداء”، وهو “أبو الخيزران” رمزاً لقيادة تميزت بالعجز.

البحث عن المال وعدم الالتصاق بالتربة الفلسطينية والتغيير من الداخل، بل الحلم بالهروب نحو الكويت كعالم محيل على الغنى، ومن ثم موت الجميع في صحراء شاسعة قاحلة، في خزان الماء الذي هربت فيه هذه الأسماء/الأجيال بواسطة قائد الشاحنة.. ميزاتٌ ميّزت هذا الفيلم، لاسيما حينما طرح السؤال القوي المدوي: لماذا لم يدقوا الخزان؟ أي لماذا قبلوا بالموت داخل خزان ماء الشاحنة الملون بلون أسود دال على وضع فلسطيني مأساوي؟

هذا هو المخرج توفيق صالح النابش في القضايا الإنسانية العادلة، مما جعلنا نؤمن بكونه فكّر في هذا الموضوع وغيره بلغة السينما، وبهذا يستحق لقبا جديدا، لقب المفكر السينمائي غير المهادن وغير الهارب إلى موضوعات سينمائية منهوكة.

توفيق صالح مخرج بصم حياته بأسئلة سينمائية روائية وتسجيلية تنتصر للتغيير

ماذا تبقى من توفيق صالح؟

يبدو لي أن سؤالا من هذا القبيل له قيمته الثقافية والإنسانية، فبعد فوز الراحل وهو على قيد الحياة بمجموعة من الجوائز العربية والغربية، وتكريمه مرات عديدة في مهرجانات سينمائية، يمكن القول إن توفيق صالح هو اليوم أيقونة سينمائية مصرية وعربية وإنسانية، بها نقول للجميع ما أشبه اليوم بالبارحة. هي الأسئلة نفسها مازالت تطرح علينا، فما السبيل إلى التخلص من التخلف الذي يطاردنا ويحاصرنا من كل الجهات؟

هكذا هم المخرجون الكبار الذين تبقى أعمالهم -رغم قلتها- خالدة في وجدان الجمهور الذي شاهد هذه الأعمال السينمائية، مما يجعله يعتز بكون مثل هذا المخرج يشكل في حقيقة الأمر الرأسمال الثقافي الحقيقي، وليس الرأسمال هو ما تملكه المجتمعات من ثروات مادية أو مالية قابلة للزوال، لكن مثل توفيق صالح إرث فني وثقافي حقيقي يزيل عنك الكثير من حرج التخلف الذي يكاد “يرسخ” في وجداننا على أساس أنه “يلازمنا” إلى الأبد.

العودة إلى الكتابة عن مثل هذه الرموز السينمائية العربية تشكل اليوم حاجة وضرورة، حتى على المستوى التكويني والبحثي، لاسيما والراحل بصم المشهد السينمائي التكويني في بلدان عربية عديدة، مما جعل من طلبته الموجودين في العديد من أنحاء هذا العالم يعترفون بخدمات الرجل السينمائية، ومن تم ذلك “التناص” السينمائي الحاضر في بعض أعمالهم، كشكل احتفالي سينمائي يعترف برمزية أستاذهم الشامخ، والذي وفق في حياته السينمائية المصرية والعربية والإنسانية، وظل ظله صالحا إلى يومنا هذا، على الرغم من توقف قلبه النابض في شهر أغسطس/آب من سنة 2013.

رحم الله توفيق صالح، فهو مخرج بصم حياته بأسئلة سينمائية روائية وتسجيلية تمتح من قصص المظلومين والمهمشين، وتنتصر للتغيير، ومن ثم كان بالفعل مفكرا سينمائيا يساريا ناصر وبلغة سينمائية واقعية قضية الشعب الفلسطيني وقضايا عديدة “تسربت” إليه، حتى في حياته المهنية التكوينية بالعديد من المعاهد السينمائية العربية.