“لغز المحارب 88”.. قصة أشهر جواسيس الموساد الإسرائيلي في سوريا

بثت قناة الجزيرة على شاشتها مساء الأحد 12 أبريل/نيسان الجاري فيلما استقصائيا من إنتاجها بعنوان “لغز المحارب 88″، ويتناول قصة “إيلي كوهين” الجاسوس الإسرائيلي في سوريا والمعروف في صفوف الموساد الإسرائيلي باسم “العميل 88”.

ويتتبع الاستقصائي رحلة تجنيد كوهين لهذه المهمة في إسرائيل، ثم انتقاله إلى العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، ومنها إلى سوريا التي نشط فيها لمدة ثلاث سنوات انتهت بإعدامه في 17 مايو/ أيار 1965. ويقدم الفيلم شهادات لأشخاص لهم علاقة وثيقة بملف “كوهين”، هذا العميل الذي تصفه إسرائيل بالبطل الخارق الذي استطاع أن يخترق الدولة السورية.

شكلت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة برئاسة جمال عبد الناصر تهديدا كبيرا بالنسبة لإسرائيل، كما شكلت سوريا باعتبارها جزءا من هذه الوحدة لغزا كبيرا يستوجب معرفة ما يحدث بداخلها، فكان على إسرائيل أن تزرع شخصا يكون أذنها وعينها في تلك المنطقة، لذلك أرسلت عميلها “إيلي كوهين” إلى سوريا.

كوهين ذو الأصول الشرقية.. صيد الموساد الثمين

وُلد كوهين في الإسكندرية يوم 6 ديسمبر/ كانون الأول 1924 لأبوين هاجرا من مدينة حلب السورية إلى مصر، وعام 1957 هاجر كوهين إلى إسرائيل، ليلتحق بعد ثلاث سنوات بوحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان”، وقد وجدت الوحدة في أصوله الشرقية فرصة لإرساله عينا إلى إحدى الدول العربية.

وفي مقابلة مع “صوفي” ابنة العميل “كوهين” قالت إن والدها كان شخصا محافظا وصهيونيا بامتياز، ونفت ما عرضه مسلسل “الجاسوس” الذي عُرض على نتفليكس عام 2019، والذي أظهر كوهين على أنه مُغامر ويتمتع بلياقة بدنية عالية، وأضافت أن والدها كان يُجيد التحدث بأكثر من لغة بمستوى عال، ويمكن الاعتماد عليه بشكل كبير نظرا لجدّيته، وهو ما جعله محط اهتمام الموساد الإسرائيلي لهذه المهمة.

وقد تولت الوحدة 131 الإسرائيلية مهمة نقل المعرفة التي كان يحتاجها “كوهين” في كل المجالات بحرفية عالية، حيث أخضعته لمعسكرات مخصصة لصناعة الجواسيس، وخلقت له اسما جديدا هو “كامل أمين ثابت”، كما دربته على تغيير لهجته المصرية إلى السورية، وذلك لموائمة شخصيته الجديدة مع هويته السورية المُبتكرة.

صورة للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في إحدى الأحياء الدمشقية في سوريا

من الأرجنتين إلى سوريا.. بداية المهمة

انتقل “كوهين” من إسرائيل إلى سويسرا عام 1961، وانطلق منها إلى الأرجنتين بشخصية “كامل أمين ثابت”؛ رجل الأعمال السوري الذي يحمل جواز سفر أرجنتيني، ويودّ العودة إلى بلده سوريا ليؤسس أعمالا هناك.

حاول “كوهين” الانخراط بالجالية السورية في الأرجنتين، واستطاع التعرف على عبد اللطيف الخشن رئيس تحرير جريدة “العالم العربي” الصادرة باللغة العربية في الأرجنتين، وطلب منه رسالة توصية لأنه يود القيام بجولة في بعض الدول العربية ومن بينها سوريا، وذلك بهدف الترويج للشركات السياحية التي يعمل معها، كما أعطاه رسالة توصية إلى ابنه كمال في دمشق، لمساعدته هناك حين زيارته.

انتقل “كوهين” من الأرجنتين إلى جنوة الإيطالية، والتقى جاسوس حلف النيتو ماجد شيخ الأرض الذي سهّل له وصوله إلى سوريا، حيث بدأت رحلتهم عبر باخرة وصلت إلى بيروت، ومن ثم انتقلا بسيارة شيخ الأرض إلى الحدود السورية اللبنانية، وهناك كان قد رتّب شيخ الأرض مع صديق له على الحدود يُدعى “أبو خلدون” آلية الدخول إلى سوريا بسلاسة وبدون تعقيدات.

نجح “كوهين” في الوصول إلى دمشق بمساعدة شيخ الأرض، واستطاع أن يستأجر شقة في حي “أبو رمانة” أحد أرقى الأحياء الدمشقية وأكثرها حساسية، وهناك بدأ كوهين مهمته الحقيقية، حيث أرسل أول رسالة إلى كتيبة 131 في تل أبيب من قلب دمشق عبر جهاز موريس.

صورة بورتريه نادرة للجاسوس الإسرائيلي في سوريا إيلي كوهين

عودة الغراب إلى عشه.. مهمات جديدة

عاد “كوهين” إلى إسرائيل لأول مرة، وأعطى الموساد الإسرائيلي تقريرا عن أهم الشخصيات التي تعرّف عليها في دمشق، إضافة إلى الأجواء السياسة هناك. وطلبوا منه حين العودة إلى دمشق التركيز على ثلاث نقاط أساسية هي: رصد التحركات العسكرية السورية، وتزويدهم بأهم الشائعات التي يسمعها في الوسط السوري عن الوضع السياسي والعسكري هناك، أما الأهم فهو معرفة حال الوضع الاقتصادي في سوريا، حيث كان الهدف الأسمى وسط هذه المهمة هو معرفة إسرائيل بمدى القدرة العسكرية والحربية السورية في حال فكرت يوما تنفيذ هجمات ضد إسرائيل.

بعد ذهابه إلى إسرائيل عاد “كوهين” إلى دمشق بمهمات جديدة، وتوسّع في صداقاته موثقا علاقته بموظف القسم اللاتيني في إذاعة دمشق جورج سيف الذي أتاح له فرصة الاطلاع على كواليس الأخبار خاصة تلك التي لا تبثها وسائل الإعلام، لكن الصداقة الأهم عنده كانت مع معازي زهر الدين الذي استمد أهميته من كونه ابن أخت قائد الجيش في حكومة الانفصال الفريق عبد الكريم زهر الدين.

وقد شكلت روايات انضمام كوهين إلى حزب البعث جدلا واسعا، لكن تعليمات الموساد الإسرائيلي بدت واضحة بالنسبة لعميلها كوهين، فكانت قد طلبت منه عدم الاقتراب من النخبة السورية، وعدم التعاطف مع أي حزب، خوفا عليه أن يكون مع الفريق الخطأ، نظرا لأن سوريا تشهد حالة انقلابات متواصلة، وهو ما أكده الباحث “نوعام تيبر” الذي نفى انضمام “كوهين” إلى حزب البعث السوري.

خبر قضية تحويل إسرائيل لمجرى مياه نهر الأردن يتصدر الصحف العربية آنذاك

بين الجولان ونهر الأردن.. إنقاذ منابع مياه إسرائيل

نسبت الكثير من الأساطير فضل السيطرة على مرتفعات الجولان خلال حرب الأيام الست عام 1967 إلى “كوهين”، معتبرة إياه أحد أهم الإنجازات في حياته، إلا أن الكاتب الأمريكي “ويسلي بريتون” الذي أعد بحث “ملفات إيلي كوهين” قال إن الفضل يعود للقوات البرية والجوية الإسرائيلية، وأن “كوهين” كان جزءا من الجهود التي ساهمت في هذا المشروع وتوضيح معالمه، وأضاف أن ما ذُكر عن دور “كوهين” في الجولان كان مُبالغا فيه.

أما التقرير السرّي الخطير الذي أوصله العميل “كوهين” إلى الموساد الإسرائيلي فهو قضية تحويل مياه نهر الأردن من إسرائيل إلى الأردن، حيث تعرف “كوهين” على مهندس لبناني يُدعى ميشيل صعب، وهو أحد الأشخاص العاملين في خطة تحويل مياه نهر الأردن من نهر بانياس وهو الرافد الرئيسي لنهر الأردن، فبدلا من أن يصب في نهر الأردن ويذهب إلى طبريا لصالح إسرائيل، يتغير المسار لتُنقل المياه إلى نهر اليرموك الأردني، وبناء على ذلك قامت الطائرات الإسرائيلية بقصف مراكز تحويل مياه نهر الأردن إلى الجانب العربي.

أمين الحافظ.. لقاء الأرجنتين المزعوم

أثيرت روايات عديدة حول علاقة نُسجت بين الرئيس السوري الراحل أمين الحافظ بالعميل الإسرائيلي “كوهين” في الأرجنتين، لكن أمين الحافظ نفسه نفى ذلك في برنامج “شاهد على العصر” وقال إن كوهين غادر الأرجنتين قبل أن يأتي هو إليها.

وقال الباحث “نوعام تيبر” إن أمين الحافظ كان لا يزال في القاهرة حين وقوع الانقسام بين سوريا ومصر، حيث احتجزه جمال عبد الناصر هناك مع مجموعة من الضباط لمدة أربعين يوما، ومن بعد عاد الحافظ إلى سوريا، مما يعني أنه لم يذهب إلى الأرجنتين إلا بعد فترة وجيزة، وأضاف “تيبر” أن الحافظ قال الحقيقة بأنه لم يلتق كوهين في الأرجنتين مطلقا.

البناية السكنية التي عاش فيها إيلي كوهين في حي الرمانة في دمشق

حين يكون سقوطك بيدك.. كبوة العميل

حفرت نقاط ضعف “كوهين” سقطة عميلها بيده، فاغتراره بنفسه واعتقاده أن لا أحد يمكنه القبض عليه أو كشفه كانت إحدى نقاط ضعفه، إلا أن السقطة الكبرى هي إصرار “كوهين” على استخدام جهاز البث “موريس” بشكل متواصل ولفترة أطول من دقيقتين، منتهكا بذلك قوانين الموساد.

التقطت المخابرات السورية برقيات كوهين المتواصلة، لكنها لم تستطع تحديد مكان البث في البداية أو مضمونه، فأوكلت المهمة إلى مدير المخابرات السورية أحمد سويداني لتعقّب البث ومعرفة مصدره، وكانت الشكوك في البداية تحوم حول السفارة الهندية في حي أبو رمانة، لكنها بعد التعقب لم تكن كذلك.

وبعد التتبع استطاعت المخابرات السورية تحديد البناية التي يخرج منها البث، وبعد استئجار المخابرات السورية شقة سكنية في المبنى استطاعت الكشف عن الشقة التي يخرج منها البث، وكانت شقة “كوهين”، وهنا أُسقط العميل.

حبل مشنقة في قلب دمشق.. محكمة عسكرية استثنائية

بعد إلقاء القبض على “كوهين” دعا أمين الحافظ إلى اجتماع في قصر الضيافة للتعرف على مجريات قضية “كوهين”، حيث كان من الأحكام التي أصدرتها المحكمة العسكرية حكم الإعدام بحق الجاسوس الإسرائيلي “كوهين”.

وقال مصطفى رستم -أحد قياديي حزب البعث الذين صوتوا على تأييد حكم الإعدام- إن إسرائيل مارست ضغوطا كبيرة عليهم للمطالبة بعدم إعدامه، عدا عن التهديدات التي وجهتها إسرائيل بتوجيه ضربة لسوريا، مما جعل حزب البعث يتخذ قرارا سريعا بإعدامه.

في 17 مايو/ أيار عام 1965 عُلقت جثة كوهين على حبل مشنقة في ساحة المرجة وسط دمشق، بعد أن قررت المحكمة العسكرية الاستثنائية السورية تنفيذ إعدامه أمام الجماهير. ورغم مُضي أكثر من نصف قرن على إعدامه فإن الموساد الإسرائيلي لا يزال مُتحفظا على تفاصيل مهمة كوهين في سوريا.