موسم الهجرة إلى الشمال.. عبقرية الطيب صالح التي لا تشيخ

“نُعلِّمُ الناس لنفتح أذهانهم ولنطلق طاقاتهم المحبوسة، ولكننا لا نستطيع أن نتنبأ بالنتيجة، ونحرر العقول من الخرافات، ونعطي الشعب مفاتيح المستقبل ليتصرف فيه كما يشاء”.

الطيب صالح علَم من أعلام كلاسيكيات الرواية السودانية، يحبه السودانيون على أنه طقس من طقوس السودان، ويتكلمون عنه بقدر لا يماثله أي شيء، ولا يريدون أن يعرفوا أي شيء عن باقي الأشياء. رسم اسمه في عالم الرواية العربية والسودانية بمداد من ذهب بروايته “موسم الهجرة إلى الشمال”.

وقد شكّلت هذه الرواية منعطفا هاما في حياة الطيب صالح، ووضعت صاحبَها في مصاف الكتاب العالميين بعد ترجمتها إلى أكثر من عشرين لغة، كما جرى اختيارها كواحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين.

وقد خصت قناة الجزيرة الفضائية هذه الرواية بحلقة من برنامج (خارج النص)، واستضافت لمناقشتها ثلة متميزة من الكتّاب والنقاد.

“هي التقاء حضارتين في شخص واحد”.. تحت مجهر النقد

قال عن الرواية عبد الله إبراهيم -وهو أستاذ جامعي وكاتب مسرحي سوداني-: حصلتُ على هذه الرواية عليها عام 1968 وكانت فتحا من الفتوح، ولاحقا درستها كعمل ثقافي أدبي من جهة مدرسة ما بعد الاستعمار.

ووصفها نبيل أديب -وهو أستاذ في القانون والسياسة- بقوله: هي التقاء حضارتين في شخص واحد، انتقل من القرية إلى المدينة ثم إلى الغرب، بكل الخلافات الثقافية والسلوكية، وأزعم أنها رواية عظيمة قرأها كل المثقفين السودانيين.

يهاجر بطل الرواية مصطفى سعيد إلى شمال أوروبا للدراسة، ويعود بعد رحلة لم تخل من التفوق والنساء والمغامرة إلى قريته في السودان. حياته في القرية، وموته اختيارا، وتاريخ ميلاده الذي يوافق دخول الاحتلال الإنجليزي للسودان.. جميع ذلك يحمل دلالات كثيرة أرادها الطيب صالح، فقرأ البعض المؤلف مصطفى سعيد ثائرا على الاستعمار ومقارعا له تارة، بينما رأى آخرون فيه عميلا للإنجليز وجاسوسا لهم.

“جرازيلدا الطيب” رسّامة بريطانية تعيش في السودان قرأت الرواية وعرفت شخوصها

مصطفى سعيد هو من مواليد الخرطوم 16 أغسطس/آب 1898 وقد ولد بعد وفاة أبيه ليفتح عينيه على أمه فاطمة عبد الصادق وحيدة. فتحت بعد ذلك على جواز سفره، الاسم والمولد والبلد كما في شهادة الميلاد، المهنة طالب، تاريخ صدور الجواز 1916 في القاهرة، جدد في لندن 1926.

وقد كتب أكثر من كاتب عن هذه الفكرة من قبل، ولكن الطيب صالح استطاع أن يكون أكثر بوحا، فالقصة فيها الكثير مما اعتبر في السودان خروجا عن القيم، وصنفت الرواية بأنها متجاوزة، حتى أنها منعت في التسعينيات أن تدرس في السودان.

مصطفى سعيد.. وجه الطيب المختبئ بين الصفحات

قبل أن تصدر الرواية في كتاب، كان للناقد رجاء النقاش أكبر الأثر في إبراز اسم الطيب، فقد دعاه ليكتب الرواية على شكل حلقات في مجلة “الحوار” التي كانت تصدر في الدوحة، ثم جمعها من بعد في كتاب واحد. ولكن النقاش أثار جدلا كبيراً بين النقاد عندما قال إن مصطفى سعيد الذي في الرواية هو الطيب صالح نفسه. والحقيقة أنهم يسلبون الطيب أهم ميزاته وهي الإبداع والابتكار، فلماذا لا تكون الشخصية من محض إبداع الراوي؟ لماذا يشخصونها واقعيا؟

وعن هذه القضية تقول “جرازيلدا الطيب”، وهي رسّامة بريطانية تعيش في السودان: تكلم الكاتب رجائي النقاش عن الطيب صالح على أساس أنه هو مصطفى سعيد، وهناك من صدقه في ذلك، ولكنني أعرف الحقيقة، لأنني عشت الزمن الذي كتبت فيه الرواية، الحقيقة أن مصطفى سعيد هو مجموعة من الناس الحقيقيين الذين يعيشون بيننا.

مجلة المجلة السعودية كانت تنشر مقالات الطيب سعيد إلى ان تساءل يوما من أين جاءوا؟

وتضيف: وإذا لم تستطع أن تقاوم رغبة الاستطلاع في نفسك، فستجد في تلك الغرفة التي لم يدخلها أحد غيري من قبل قصاصات ورق وشذرات متفرقة ومحاولات لكتابة مذكرات وغير ذلك. هذه الغرفة عبارة عن نكتة كبيرة كالحياة، تحسب فيها سرا وليس فيها شيء، لا شيء إطلاقا. أما مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين، فهو إنسان نبيل استوعب عقله حضارة الغرب، لكنها حطمت قلبه.

“من أين جاء هؤلاء الناس؟”.. منع الرواية بعد ٣٠ عاما من صدورها

صدرت الرواية في بيروت عام 1966، ورغم القيمة الأدبية والتكريم اللذين حظي بهما الطيب صالح، فإن الرواية مُنعت من التدريس في السودان بعد ثلاثين عاما من نشرها، ويعلل التيجاني الحاج موسى الأمين العام السابق للمصنفات الأدبية والفنية في السودان أسباب هذا المنع بقوله: لا تعتبر كتب الطيب صالح الآن ممنوعة، وإن كانت مُنعت في زمن معين فربما كان المنع سياسيا، فالمنع كان بقرار من جامعة الخرطوم، وليس حظرا من المصنفات الأدبية والفنية، وكان لموقف سياسي بحت.

الطيب صالح لم يكن سياسيا ولا يساريا ولا شيوعيا ولم ينتم لأية أحزاب

يُرجِع بعض النقاد المنع إلى مقال كان قد كتبه الطيب صالح في مجلة “المجلة” السعودية، وانتقد فيه نظام البشير، وفُهمت العبارة الشهيرة التي كتبها في نهاية المقال “من أين جاء هؤلاء الناس؟ بل من هؤلاء الناس؟” على أنه قصد بها البشير ومجموعته، لذا فالمنع كان ضد الراوي وليس ضد الرواية، وهذا يتنافى مع أبسط أبجديات الحرية الشخصية والفكرية والسياسية.

هذا إذا أضفنا أن الطيب لم يكن سياسيا أصلا ولا يساريا كما كان يشاع، وقد استلم جائزة من الرئيس جعفر النميري في يوم من الأيام، وفي عهد البشير قال قولته المشهورة، كإجابة على تساؤله في “المجلة”: “إنهم أناس طيبون”. في إشارة إلى ذلك التساؤل المثير للجدل.

قرية كرمكول.. مسقط الرأس ومسرح الأحداث

ولد الطيب صالح في قرية تدعى كرمكول في شمال السودان، وغادرها وهو ابن 24 عاما، ليقضي ما بقي من أعوامه الثمانين متنقلا بين بريطانيا والخليج، ولم يعد لقريته مطلقا، ولكنه جعل منها مسرحا لأحداث روايته، حيث ظلت مغروسة في مخيلته، ورسم تفاصيلها بدقة. وقد كان كأنه يكتب بالكاميرا، فيرسم بالتفاصيل الدقيقة الأزقة والحارات في بلدته، ويدع شخوصه تتحدث عن نفسها، فقد كان نادرا ما يتحدث ككاتب، وكان ينقل تعابير شخصياته وما يختلج في صدورها بأسوب بديع.

“وانظر إلى النهر، بدأ ماؤه يربَدّ بالطمي، لا بد أن المطر هطل في هضاب الحبشة، وإلى الرجال قاماتهم متكئة على المحاريث أو منحنية على المعاول، وتمتلئ عيناي بالحقول المنبسطة كراحة اليد إلى طرف الصحراء حيث تقوم البيوت، أسمع طائرا يغرد أو كلبا ينبح أو صوت فأس في الحطب، وأحس بالاستقرار، أحس بأني مهم”.

قرية كرمكول، حيث مسقط الرأس ومسرح الأحداث

رأت “جرازيلدا” ميزة مهمة في الرواية، إذ تقول: “تكمن فائدة الرواية المهمة في أنها تتحدث عن شمال السودان، فلم تصدر قبله كتب تتحدث عن شمال السودان بهذا التفصيل، نعم كان هنالك بعض الكتب تتحدث عن جنوب السودان، وقليل منها يتحدث عن البادية. الجيد أيضا في الكتاب أنه يحدثنا عن البادية خارج العاصمة.

“ذهبت إلى مكان الأثير عند جذع شجرة طلح على ضفة النهر، كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولتي تحت تلك الشجرة، أرمي الحجارة في النهر وأحلم، ويشرد خيالي في الأفق البعيد، أسمع أنين السواقي على النهر، وتصايح الناس في الحقول، وخوار ثور أو نهيق حمار.. كان الحظ يسعدني”.

تصوير القرية.. مجالس الأنس الجريئة

ساهمت الشخصيات التي بناها الطيب صالح بنقل صورة دقيقة عن القرية، فإلى جانب مصطفى سعيد مع ما يحمله من فكر وتجارب، تجد شخصيات أخرى مثل “بنت مجذوب” التي تعيش حياة القرية ببساطتها، وتنقل في حوارها مع رجال القرية قصص الناس دون تكلف، ولعل حديثها المكشوف تسبب في توجيه كثير من الانتقاد للطيب صالح.

بنت مجذوب كانت أحد أسباب منع نشر الرواية لما فيها من خروج عن قيم المجتمع السوداني والمسلم

“كانت بنت مجذوب امرأة طويلة لونها فاحم مثل القطيفة السوداء ما يزال فيها إلى الآن وهي تقارب السبعين بقايا جمال، وقد كانت مشهورة في البلد، يتسابق الرجال والنساء على السواء لسماع حديثها لما فيه من جرأة وعدم تحرُّج”.

“وارتفع ضحكهم جميعا، حتى بكري يضحك بهدوء، وتوقف جدي عن الطقطقة بمسبحته تماما، وضحك ضحكته النحيلة الخبيئة المنطلقة، وضحكت بنت مجذوب بصوتها الرجالي المبحوح، وضحك ود الريس ضحكا أقرب إلى الشخير منه إلى الضحك، ومسحوا الدموع من أعينهم، وضحك جدي وقال: استغفر الله، والله ضحكتونا يا جماعة”.

شخصية بنت مجذوب.. ميزان المعايير الأخلاقية

يقول عبد الله إبراهيم: أخضعنا مشهد بنت مجذوب للمعايير الأخلاقية أكثر من المعايير السردية، وهو في حقيقة الأمر يمثل بعض مجالس الأنس السودانية بعفويتها، وهذا عكس ما يتصوره الكثير عن السودانيين أنه عديمو الفكاهة متجهمون.

يعارضه مصطفى الصاوي قائلا: كان مستغربا الحديث عن “المسكوت عنه”، وكما تعلم فهناك التابوهات الثلاثة المسكوت عنها: الدين والسياسة والجنس، وأرى أن الطيب صالح كان متجاوزا في مشهد بنت مجذوب.

منع نشر رواية موسم الهجرة كان سياسيا لأن كل مؤلفات الطيب كانت مسموحة النشر في السودان

حتى “جرازيلدا” لم يعجبها الكلام، فتقول: عندما قرأت عن بنت مجذوب في الرواية لم يعجبني هذا، لقد جالست على مدى مكثي الطويل هنا الكثير من النساء، ولم أسمع أيا منهن تتكلم مثل هذا.

ويدافع نبيل أديب عن الطيب بقوله: ما أخذ على الطيب صالح في شخصية بنت مجذوب، وبعض الألفاظ الخارجة التي كانت تستخدمها في حديثها لا يجب أن يؤخذ بهذه الحدة، فهذا وارد في المجتمعات المحافظة، وخصوصا عندما تبلغ المرأة من الكبر عتيا وتجالس الرجال.

عبقري الرواية العربية.. إبداع يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة

منعت رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” في السودان، وهنا ينفي مسؤولو المصنفات الأدبية والفنية أن يكون أي مؤلف من مؤلفات الطيب صالح قد منع بسببهم، وإن كانت نصوص القانون خادعة ويمكن أن تصطاد أي مؤلَّف، إلا أن منع هذه الرواية لفترة معينة كان سببه سياسيا بحتا، والدليل على ذلك أن كل مؤلفات الطيب الآن مسموح لها النشر والتداول في السودان.

رحل الطيب صالح عبقري الرواية العربية كما لقبه النقاد، وبقيت روايته حاضرة بما أثارته من نقاش، وعنوانا عريضا للأدب السوداني والعربي، وما زالت تنشر بأكثر من عشرين لغة، وفي أكثر من 45 دار نشر، وتجاوزت حدود المنع ومقص الرقيب، ذلك أن الإبداع يتجاوز كل حدود الجغرافيا والسياسة.