معين بسيسو.. ابن الزنزانة وملهم الثورة وشاعر المقاومة

“علمتني الزنزانة السفر لمسافات بعيدة، وعلمتني أيضا الكتابة لمسافات بعيدة، فالسجين دائما يسافر بيده في الماء، ويحاول الكتابة بصوته”. هكذا يلخص الشاعر والسياسي معين بسيسو حياته المليئة بالأحداث والأشعار والسجون، في فيلم أنتجته الجزيرة الوثائقية، ويحكي سيرة رجل يرمز لجيل من الشعراء الفلسطينيين الذين عاشوا ما بعد النكبة، وترجموا الشعر إلى عمل ثوري رافض لواقع الهزيمة.

لكن هذا الواقع الأليم لم يجعله يفقد الأمل -حتى وهو في سجنه- فيقول: على حائط الزنزانة يكتب المسجونون أسماءهم، يحفرونها بزر قميص أو بمسمار، وكبشارة للسجين الذي سيأتي للزنزانة بعده؛ يكتب السجين دائما قبل خروجه تاريخ الإفراج عنه، كأنه يريد أن يقول لابنه أو لحفيده السجين القادم، ما سجن بُني على سجين، ولا مستشفى بُنيت على مريض.

“علمني كيف أقاتل ضد الماء”.. بداية معركة الورق والحبر

ربما لن يكون أقدر على التعريف بمعين بسيسو أكثر من زوجته ورفيقة دربه صهباء البربري، التي تقول إنه شاعر ومناضل وسياسي وحالم ورومانسي، ومتوتر باستمرار وشارعي في الشارع دائما.

ويتحدث معين بسيسو نفسه عن نشأته قائلا: حين كنت في عامي السابع أراد عمي أحمد أن يعلمني السباحة، كان يملك زورقا صغيرا فوضعني فيه وراح يجدّف، وفي وسط البحر أمسك بي وألقاني في الماء، وشربت الملح، وعرفت للمرة الأولى كيف أقاتل بذراعي، وحينما أوشكت على الغرق، أعادني إلى الزورق، كان يلقي بي مرة ثانية إلى الماء، وهكذا تعلمت السباحة وأنا ابن سبع سنين.

ويضيف: كان عمي يعلمني الشعر، وأنا مدين له حتى الآن بهذه النيران التي تندلع طوال الوقت من بين أصابعي، علمني كيف أقاتل ضد الماء وأنا ابن سبعة أعوام، والآن وأنا أقاتل معركة الورق والحبر أعرف ما قد فعل بي.

ويشير الكاتب والباحث السياسي تيسير محيسن إلى أن البدايات الأولى من الممكن أن تُفسر حياة بسيسو، فهو ينتمي إلى عائلة عريقة من عائلات مدينة غزة، وجدّه لأمه من آل الشوا، وقد كان أول رئيس بلدية لمدينة غزة، أما جدّه لأبيه فكان عاشقا للعلم، وقد أرسل أبناءه للتعلم في إسطنبول، وكانت دار ضيافته تعجّ بكثير من الشعراء والقادة، وقد استفاد معين بسيسو في طفولته من مخالطة هؤلاء.

وفي هذا يوضح أستاذ الأدب والنقد بسام أبو بشير أن بسيسو كان يستمع إلى سيرة بني هلال من هؤلاء الشعراء بينما لا يزال طفلا، الأمر الذي جعله يعشق الأدب قبل أن تنمو لديه موهبة الكتابة الشعرية، حتى بدأ ينظم الشعر وهو في مدرسة غزة الوطنية عام 1945، وينشر كتاباته في مجلات فلسطينية بواسطة أصدقائه. ويضيف أبو بشير أن بسيسو اعتنق فكر عصبة التحرر الوطني وهو في ريعان شبابه، وأعلن عن نفسه صراحة في شعره، كشاعر سياسي تفاعل مع القضايا والانتفاضات التي كانت تقوم في فلسطين ضد المحتل الإنجليزي، ثم ضد الاحتلال الإسرائيلي، وظهر ذلك في قصائده التي نشرها في مجلة الاتحاد.

مشهد تمثيلي يُجسّد فترة سجن معين بسيسو التي ضُرب خلالها بالسياط

“إنني شعرت بأن السوط قد رسم خارطة فلسطين على ظهري”

يرى أستاذ البلاغة والنقد الأدبي محمد أبو حميدة أن معين بسيسو كان شخصية صعبة الميراث، وليس من السهل أن يُروّض وينسجم مع حاجة الحاكم، فحاصروه جسديا وأودعوه السجن، وعُذب وضُرب بالسياط، حتى قال “إنني شعرت بأن السوط قد رسم خارطة فلسطين على ظهري”.

وفي هذا تقول زوجته إن السياط صنعت خطوطا بالعرض وبالطول على ظهره، إضافة إلى جروح على قدميه من أثر نبش الكلاب. ويقول بسام أبو بشير إن كل هذا العذاب الذي لقيه معين بسيسو لم يدفعه إلى التخلي عن فكره أو ثقافته، حتى أنه كتب عدة قصائد وهو في السجن، فقد كتب على حائط الزنزانة، وعلى علب الكبريت عن معاناته وحبه لوطنه.

ويرى الأديب والروائي الفلسطيني غريب عسقلاني أن معين بدأ متمردا، فقد كان أكثر وعيا من الوسط الذي عاش فيه، حيث ندر المتمردون، وإن كانوا يمثلون النخبة.

وتستذكر صهباء قصيدة ألقاها زوجها معين في مهرجان لإحدى النقابات العمالية يقول فيها:

ارسمي من دمي ومن أصفادي
يا أيادي خريطة لبلادي
واحصدي من جبالها زهرات
نام عنها الثوار قبل الحصاد

ديوان “المعركة” الذي كان أول ديوان شعري لمعين بسيسو

“ديوان المعركة”.. بداية نضوج الموهبة الشعرية

يرى أستاذ الأدب والنقد بسام أبو بشير أن تجربة بسيسو وموهبته الشعرية نضجت في هذه الفترة، وتجسّد ذلك في أول ديوان شعري طبعه في القاهرة عام 1952، وسمّاه “ديوان المعركة”، وفيه قصيدته المشهورة التي تقول:

أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يخفك دمي يسيل من السلاح
وانظر إلى شفتيّ أطبقتا على هوج الرياح
وانظر إلى عينيّ أغمضتا على نور الصباح
أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح

ويرى معين بسيسو -في تسجيل مصور له- أن هذه القصيدة شكّلت بدايته.. وهنا يشير الروائي غريب عسقلاني إلى أن هذه القصيدة كتبها بسيسو في الخمسينيات قبل أن تنشأ حركة فتح، مضيفا أنه عندما كتب قصيدة “مارد من السنابل” بعد ثورة يوليو 23، فإنه كان ينادي بثورة عربية، ولذلك فإنه لم ينتظر أبو عمار (ياسر عرفات) إلى منتصف الستينيات حتى يُفجّر ثورة فتح.

لقطة تُظهر معين بسيسو محمولا على الأكتاف خلال هبّة مارس عام 1955

“هبّة مارس”.. ثورة تفتح أبواب السجون الناصرية

تمر الأيام ويتخرج بسيسو من الجامعة الأمريكية في مصر عام 1952، ويعود إلى غزة ليعمل مدرسا، لكن الشعر والسياسة يجريان في دمه، ومع سقوط 26 شهيدا في غارة صهيونية على مخيم البريج، يُحوّل بسيسو الحصص الدراسية إلى حصص تعبوية للطلاب، ويُجهّز المحيط بأكمله للاحتجاج على ما حدث.

وهنا تستذكر رفيقة الدرب صهباء أن بسيسو كان في مقدمة المظاهرات التي نظمتها الحركة الوطنية في قطاع غزة آنذاك.

وتمر الأيام ويتسرب خبر عن مؤامرة تُحاك ضد اللاجئين، لينطلق معين بسيسو في تعبئة الشارع الفلسطيني ضد هذه ال مؤامرة، مستغلا كونه مفوها وشاعرا ومحبوبا، الأمر الذي جعل “هبّة مارس” عام 1955 تقترن في الذهن العربي بصورة بسيسو ورفاقه.

لكن فكر بسيسو الثوري وتزعمه للحركات الشعبية -وإن كان موجها ضد الاحتلال- فإن صداه أقلق الحاكم الذي قرّر محاصرة هذه الشخصية جسديا وفنيا، فأودع السجن أكثر من مرة، ولم يقتصر الأمر عليه، بل امتد زوجته صهباء البربري لتُسجن بالقاهرة في السجن الحربي الذي تصفه بأسوأ سجون مصر، وتضيف أنها كانت تسمع فيه صرخات المناضلين المصريين الشيوعيين من أثر التعذيب، ولم تكن تملك سوى البكاء.

تجربة السجن كانت مريرة بالنسبة لمعين بسيسو الذي استثمرها بكتابة عدة قصائد

“ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا”.. صرخة تفلت من القضبان

امتد سجن معين بسيسو فترة العدوان الثلاثي على مصر، ثم أطلق سراحه عام 1957، قبل أن يُعاد اعتقاله مرة أخرى، ليخرج من السجن أيضا بعد 1968، وكأن قدره أن يُسجن دائما وقت الحوادث الكبار.

يرى أستاذ البلاغة والنقد الأدبي محمد أبو حميدة أن السجن شكّل تجربة مريرة لمعين بسيسو، ولذلك كان يُكثر من الحديث عن السجن والسجّان في أشعاره. وتتفق صهباء مع ذلك، مؤكدة أن بسيسو كتب عدة قصائد في محبسه هُرّبت إلى خارج السجن، من بينها واحدة من أهم قصائده يقول فيها:

نعم لن نموت
نعم سوف نحيا
ولو أكل القيد من عظمنا
ولو مزقتنا سياط الطغاة
ولو أشعلوا النار في لحمنا
نعم لن نموت..
ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا

يُشير الباحث السياسي تيسير محيسن إلى مفارقة أن معين بسيسو -الذي اعتقل في سجون جمال عبد الناصر- أصدر مع رفاقه المصريين ديوانا شعريا يمدح عبد الناصر باعتباره زعيم الأمة العربية ورائد عملية التحرر. بينما ينفي توفيق -نجل معين بسيسو- أن يكون ذلك تناقضا، مُرجعا الأمر إلى شخصية الأديب، أو ما يسميه بشخصية الشاعر المباشر صاحب الموقف اليومي، معتبرا عبد الناصر قائدا وزعيما قدّم الكثير لمصر وللثورة.

معين بسيسو الذي عُرف بانتمائه إلى الإنسان المقهور المهتم بقضايا الأمة العربية

سلاح القصيدة.. كلاشنكوف بسيسو الذي يقاتل به العالم

يعود تيسير محيسن ليؤكد أن بسيسو -في هذا الزمن الصاخب والمعقد- كان يُعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني عموما، والطبقات الفقيرة على وجه الخصوص، فهو ينتمي إلى الإنسان المقهور المهتم بقضايا الأمة العربية، ولا يقف عند التجريدات النظرية فقط.

ويُصنف الروائي غريب عسقلاني معين بسيسو ضمن شعراء الحداثة المبكرين، من جيل بدر شاكر السيّاب وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور، وهو ما جعل له حضورا قويا في الشعر العربي.

ويضيف أن بسيسو رأى نفسه في حالة معركة دائمة، فكان يعتبر القصيدة هي الكلاشنكوف والمُسدّس الذي يقاتل به العالم أجمع، لذلك فعندما حُوصر في بيروت، فإنه كان يكتب كل يوم قصيدة في مجلة “المعركة”، ويظن -وكان صادقا- أن هذه القصيدة هي التي سترفع معنويات الجنود والفدائيين في شوارع بيروت، مشددا على “أن لا خروج من بيروت”.

معين بسيسو رائد في الشعر الفلسطيني المقاوم

“حتى يتحول الشعر إلى قوة تحرك المجتمع”.. رائد أدب المقاومة

يشير أستاذ الأدب والنقد بسام أبو بشير إلى أن شعر معين بسيسو تتجسد فيه صورة شعرية تتكرر بأدوات وبأشكال جزئية وكلية وحسية ومعنوية، معتبرا أنه كان مُعلّما في مدرسة “الحقيقة الشعرية” التي تعني أن يقول الشاعر -باعتباره إنسانا أولا- الحقيقة دون مواربة، إذا أراد أن يكون قريبا من الجماهير وبعيدا عن مغريات السلطة، ومغريات الحياة التي غيّرت كثيرا من الناس ومن الشعراء.

لكن معين بسيسو يشرح منهجه الشعري ببساطة فيقول: بعض الشعراء يكتبون لأنفسهم، حسنا إذا أردت أن تكتب لنفسك شيئا لا يفهمه الناس ولا يتفاعل معه الناس، فاكتب هذا الشيء لنفسك، اقرأه لنفسك، اكتبه على المرآة وانظر إلى المرآة، ستجد قصيدتك، وسترى أيضا وجهك، وهذا يحقق كل طموحك وكل الذاتية التي فيك. أما إذا أردت أن تكتب للناس فيجب أن يفهم الناس ما تقول، يجب أن ينفعل الناس مع الذي تقوله حتى يتحول الشعر إلى قوة تحرك المجتمع.

ويؤكد أستاذ الأدب والنقد بسام أبو بشير أنه لا خلاف على أن معين بسيسو رائد في الشعر الفلسطيني المقاوم، لكن مضامين هذا الشعر اتجهت به إلى اليسار، وإلى المغالاة أحيانا في الفكر الشيوعي، وهو ما دفع بعض النقاد إلى وصف قصائده بالضعف بسبب هذه المغالاة.

ويتفق أستاذ البلاغة والنقد الأدبي محمد أبو حميدة مع ذلك، معتبرا أن الشاعر ينبغي أن لا يكون مؤدلجا، فكلما امتلك الشاعر قدرا أكبر من حريته أصبح أكثر صدقا في التعبير.

في المقابل يقول الأديب والروائي غريب عسقلاني إن الإنصاف يقتضي من الأكاديميين القول إن معين بسيسو -رغم كونه مناضلا وسياسيا وصاحب قضية- فإن شعره امتلأ بالقيم الجمالية.

صورة تجمع معين بسيسو بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد أن اعتقله وأفرج عنه من سجونه

اعتقال وإقامة جبرية.. ضغط إعلامي يكسر إرادة عرفات

مثلما أثار معين بسيسو الجدل بشعره، فعل الأمر نفسه بمواقفه السياسية، فقد اتهمه البعض بأنه شيوعي، ووصفه آخرون بأنه فتحاوي بسبب تأييده لياسر عرفات، لكن كثيرين لا يعرفون أنه اختلف سياسيا مع زعيم حركة فتح الراحل ياسر عرفات الذي فرض عليه في بعض الأحيان إقامة جبرية لاتخاذه مواقف مخالفة لسياساته.

وتستذكر صهباء أمر عرفات باعتقال معين بسيسو، قبل أن يضطر إلى الإفراج عنه إثر تضامن واسع من الإعلام، ويُوضح توفيق بسيسو أن اعتقال والده استمر ثلاثة أيام فقط، قبل أن يفرج عنه عرفات ويعتذر إليه، بل ويهديه مسدسه.

وتشير صهباء إلى أنه رغم قرب بسيسو من عرفات -الذي كان يحب سماع شعره- فإنه لم يكن من المحظيين، فقد كان يبتعد أحيانا ويقترب أخرى، ليس حسب المزاج، بل حسب الموقف.

وهنا يشير أبو حميدة إلى أنه رغم اختلاف بسيسو في بعض المواقف مع عرفات، فإنه استمر في مدحه، معتبرا أن ذلك ينسجم مع شخصيته التي تؤمن بالمبادئ والقيم.

نص “شمشون ودليلة” أولى مسرحيات معين بسيسو

“شمشون ودليلة”.. مسرحية الانتصار الفلسطيني على الاحتلال

رغم انشغال معين بسيسو بالشعر والسياسة، فإنه لم ينس حظه من الكتابة للمسرح متأثرا بالمسرح الأوروبي. ويؤكد أستاذ البلاغة والنقد الأدبي محمد أبو حميدة أن بسيسو هو من أدخل المسرح الشعري إلى فلسطين بعد أن كتب ست مسرحيات شعرية مُثّلت كلها على المسرح المصري، معتبرا ذلك دليلا على نجاح ما كتبه.

ويشير أستاذ الأدب والنقد بسام أبو بشير إلى أنه إذا كانت قصائد معين بسيسو تُرجمت إلى عدة لغات من لغات العالم وأشهرته كشاعر، فإن مسرحياته الشعرية زادته شهرة وإبداعا. لكن الأديب والروائي غريب عسقلاني يرى أن اللافت في مسرح معين بسيسو هو عودته إلى التراث الثوري ومحاكاته، كما فعل في مسرحيتي “مأساة جيفارا” و”ثورة الزنج” وغيرهما.

وعن مسرحية “شمشون ودليلة” (أولى مسرحيات بسيسو) يقول أبو حميدة إن بسيسو استطاع أن يُوظّف هذه الرواية التي وردت في التوراة بما يخدم قضيته، وذلك بأن جعل شمشون رمزا للدولة الإسرائيلية، ودليلة رمزا للثورة الفلسطينية، وهو ما دفعه إلى أن يُغيّر من طبيعة دليلة من امرأة خائنة إلى امرأة نبيلة تدافع عن حق شعبها، ليجعل الأمل دائما في أن الثورة الفلسطينية لا بد أن تنتصر على هذا الكيان المحتل.

القصيدة التي كتبها معين بسيسو في الأيام الأولى لحصار بيروت وتحولت إلى أغنية للمقاتلين

“بيروت أين مشيت يا بيروت”.. آخر القصائد المقاومة

تقول زوجة بسيسو إن أجمل فترة عاشاها معا كانت في بيروت، حيث الحيوية والنضال والحركة الوطنية والمثقفون الواعون. وهنا يستذكر توفيق بسيسو قصيدة “وأنت آيتك الحجر”، وهي من آخر ما كتبه والده عن بيروت، ورغم أنه كتبها عام 1983، فإنها لم تنشر إلا عام 1990، وفيها يقول:

بيروت أين مشيت يا بيروت
كل الأرض يا بيروت دالية ونافذة وظل
بيروت أنت نهاية العصر الرديء
وأنت بداية العصر الجميل
أنت الأبجدية.. وأنت المجدلية..
حبلى على المتراس واقفة.. وترضع بندقية

ويؤكد أبو حميدة أن مرحلة لبنان كانت امتدادا لنشاط بسيسو الثقافي والنضالي، فلم يتراجع عن رسالته الوطنية والثورية التي آمن بها، وظل رمزا من رموز المقاومة والمناضلين السياسيين.

ويشير الباحث السياسي تيسير محيسن إلى وجه آخر للمعركة التي كانت تدور على الأرض، تلك التي خاضها معين بسيسو ورفاقه على صفحات الجرائد، وذلك بالتعبير بالكلمة الحرة الصادقة التي كانت تصل إلى وجدان المقاتلين، وتعزز من صمودهم وقدرتهم على الاستمرار.

صورة تجمع معين بسيسو بالشاعر الراحل محمود درويش الذي كان يمازحه بالقول “سنرجع إلى غزة”

“سأعزمك على أكلة سمك على بحر غزة”

يؤكد أبو حميدة أن معين بسيسو لم يفقد الأمل أو البوصلة بعد خروجه وخروج الثورة الفلسطينية من بيروت، فقد كان يحلم بالعودة إلى غزة، وكثيرا ما كان يمازح صديقه محمود درويش قائلا: سنرجع إلى غزة، وسأعزمك على أكلة سمك على بحر غزة.

وقد ظلت غزة حاضرة في شعر بسيسو طويلا، وفي نثره أيضا، فكتب “يوميات غزة”، وعن مدينته التي اشتاق إليها يقول:

الآن تعرف أن شوك الكف
شيء غير عشب الأرض
تعرف أن غزة غير أشباح المدن
الآن تعرف أن شُبّاكا صغيرا من تراب الأرض
مفتوحا لوجهك ستُطل وحده على الوطن

معين بسيسو رحل صامتا وحيدا في لندن عام 1984

“الرجاء عدم الإزعاج”.. رحيل صامت لمارد السنابل

تتذكر صهباء البربري أن رفيق دربها معين بسيسو لم يكن يُفصح عن عمره الحقيقي أبدا، فكان يقول أنا عمري 37 سنة، رغم أنه توفي وهو ابن 56 عاما، بعد أن أصيب بخيبة أمل من جميع الناس ومن كل شيء، فكل ما كان يحلم به لم يتحقق.

توفي معين وحيدا في لندن في 23 يناير/كانون الثاني 1984، قبل أن يشارك في أمسية شعرية أعدّ لها قصيدة بعنوان “السفر”، لكن الموت لم يمهله فقد أصابته أزمة قلبية حادة لم يستطع مقاومتها، ففارق الحياة في غرفة الفندق التي كان قد وضع على بابها عبارة “الرجاء عدم الإزعاج”، ليموت وحيدا في سفره.

ومثلما حرمه الاحتلال في حياته من غزة، فقد فعل ذلك حتى بعد وفاته، إذ منع دفنه في القطاع، ليُدفن في القاهرة؛ المدينة التي كان لها مكانة كبيرة في قلبه رغم الاعتقال والتعذيب.

مات معين بسيسو وبقيت قصيدته:

الصمت موت
قلها ومتْ
فالقول ليس ما يقوله السلطان والأمير
وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير للمهرج الصغير
فأنت إن نطقت متْ
وأنت إن سكت متْ
فقلها.. ومت

هكذا رحل معين وهو يحلم بأرض غزة فقال:

ألف شتاء قد مر يا وطني
ومصلوبك يحلم..
أن تطأ قدماه الأرض
أن يمشي..
أن يسمع وقع خطاه..
كم حلمت بالعودة إلى أرض غزة..

هكذا مات معين بسيسو.. وهو مارد من السنابل.