“عبد الوهاب المسيري”.. صاحب الشعلة الاشتراكية والقلم الإسلامي وكاتب موسوعة الصهيونية

“رحيل الجسد لا يعني فناء الروح، يتلاشى ذكر الأشياء، ويُخلد ذكر الإنسان”. هكذا لخّص المفكر الإسلامي المصري البارز عبد الوهاب المسيري فلسفته في الحياة، فقد كان نموذجا واقعيا لها، رحل عن دنيا الناس، لكن ذكراه ظلت خالدة بموسوعته الرائدة عن الصهيونية، وأفكاره التي سعت إلى إعلاء قيمة الإنسان ضد محاولات تسليعه، إضافة إلى نضال سياسي بدأه ضد الاستعمار وختم به حياته ضد الطغيان.

 

يسلط فيلم “عبد الوهاب المسيري.. رحلة من أجل الإنسان” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- الضوء على حياة المفكر الكبير الذي وُلد عام 1938 في مدينة دمنهور في دلتا مصر، في مجتمع محافظ وضمن عائلة عالية الطبقة، مصرية الطابع.

دمنهور.. ذكريات الأيام الأولى في المحيط البرجوازي

كانت مصر في حقبة الأربعينيات ترزح تحت وطأة الاستعمار البريطاني، وفي تلك الفترة التحق المسيري بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم أتم تعليمه الثانوي في التوجيهية التي حملت أيضا اسم مدينته.

ووسط حارات المدينة كان المسيري الغلام ينطلق بريئا مدفوعا بحماس الأطفال وعاطفتهم، ويتجول ما بين بيت الأسرة، ومحل الوالد في السوق الذي يبيع الأقمشة، ومقهى العائلة الذي تعوّد الناس فيه على إلقاء القصائد الشعرية ومناقشة أمور الفن والثقافة، فكانت الأفكار تتوالى تباعا على عقل الصبي فتنتظم خيالاته وفق معاني التراحم التي تشبع بها من تلك الأماكن.

 

كان لذاكرة الطفولة دور في فكر عبد الوهاب المسيري، فقد استقى خبراته -ككثير من المفكرين- من ذكريات أعطته منظورا ينظر به إلى المجتمع الحديث التعاقدي، ويقارنه بالمجتمع التراحمي. وقد تشكل وجدانه وسط مناخ مليء بأفكار التحرر الوطني والاستقلال، وساعد على ذلك كون خاله شخصية سياسية بارزة من قيادات حزب الوفد، وكان لذلك كبير الأثر في إذكاء الروح الوطنية. ونضجت هذه العاطفة لتُخرج صبيا مقاوما يحمل الحجارة مع أقرانه ويرمي بها قطارات العسكر الإنجليزي المحتل.

حلقات الانفصال.. تمرد على الشعائر بحثا عن الإجابات الكبرى

في عمر الصبا بدأت أولى حلقات الانفصال، كما يحب هو أن يُسميها، فكان كثيرا ما يأخذ ركنا قصيا عن أهل البيت ويمضي وحده متأملا حال المكان والزمان، أو متقمصا إحدى الشخصيات التي تركت أثرا في وجدانه. وقد كان المسيري الفتى لا يقنع بالإجابات السهلة والعبارات البسيطة، فبدأ البحث عن إجابات كبرى محاولا أن يلتمسها عند تيارات مختلفة، وساعده على ذلك شخصيته المتمردة التي لا تقنع بما هو سائد، فتنقّل من موقع فكري لآخر.

 

مَن خَلق الشرور؟ وما أصل الكون؟ استفهامات دارت بعقل الفتى، وكانت إجابات الآخرين تقود إلى مزيد من الحيرة والتفكير ومزيد من الانفصال. وقبل أن يُنهي المسيري دراسته الثانوية قرر انفصاله النهائي وقطيعته للصلاة والصوم حتى يعثر على الأجوبة.

وفي عام 1955، انتقل المسيري الشاب من دمنهور للالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإسكندرية، أو جامعة المدينة العظمى كما أطلق عليها الفلاسفة القدامى، وكانت المدينة وقتها زاخرة بالمظاهر الغربية والمباني ذات الطابع الأوروبي التي تدل على ثراء سكانها من الأجانب الذين تمتلئ المدينة بهم.

جامعة الإسكندرية.. شعلة الثورة المتقدة في صفوف الماركسية

على صدى صوت أهازيج الأهالي وجدال المثقفين في المقاهي، بدأ عبد الوهاب المسيري أولى خطواته في عالم المدنية. ولم يمض سوى عام واحد على استقلال مصر وجلاء آخر جندي بريطاني عن البلاد، حتى كانت جامعة الإسكندرية تموج بطيف سياسي بدا وقتها أنه في طريقه إلى السيادة؛ حيث كان الفكر الماركسي ممثلا في أهم تجلياته الاجتماعية -وهي الثورة البلشفية- قد بدأ في الانتشار في كل أرجاء العالم.

كان المسيري وقتها مثقلا بأسئلة عن الكون والعدالة الاجتماعية، لذلك كان اللقاء بين ما ظنه خلاصا روحيا وجوابا عن الأسئلة، وبين وجدان ثائر اعتاد قديما مواجهة الإنجليز أيام الطفولة، والآن يتشبث بعاداته في المقاومة عن طريق الانضمام للحزب الشيوعي.

 

يقول محمد هشام الباحث المشرف على موسوعة الصهيونية: ضمت الفترة التي انضم فيها المسيري إلى صفوف الحركة الشيوعية -بناء على ما ذكره في كتبه- مزيجا من الرغبة في التمرد ومحاولة البحث عن أجوبة لأسئلة فلسفية، وأخرى تخص الواقع الاجتماعي والسياسي.

وتقول أستاذة العلوم السياسية هبة رؤوف عزت: لمعرفة سبب تحول معظم عقول هذا الجيل إلى الماركسية يجب النظر إلى التيار الإسلامي الذي كان موجودا في هذه الفترة من الحقبة الناصرية؛ فقد انقسم إلى إسلام حركي كان مقيدا بالسجون وتجري شيطنته، ويعاني أزمة على مستوى قيادته ومفكريه بعد إعدام أغلبهم، وإسلام رسمي يجري تكريسه عبر تأميم الأوقاف، وصولا إلى ضم الدين إلى الدولة.

ويصف الكاتب الصحفي والمفكر فهمي هويدي مرحلة المسيري مع الفكر الماركسي بأنها التجربة التي أكسبته خبرة معرفية ساعدته على تطوير معارفه لينتقل إلى موقع آخر أكثر تقدما، مشيرا إلى أن المسيري -شأنه شأن أبناء هذا الجيل- تنقّل بين الفكر الماركسي وفكر الإخوان المسلمين.

لكن الباحثة في العلوم السياسية سناء البنا تشير إلى أن انتقال المسيري لم يكن نابعا من تصور سياسي أو اقتصادي، ولكن من تصور وجودي للحياة نفسها، وبذلك يبدأ بتطويره وتحديثه ليكون متوافقا مع التجارب والخبرات التي خلص إليها.

ازدحم وقت المسيري أثناء فترة دراسته الجامعية بتنظيم إضرابات للعمال، وتوزيع منشورات، واجتماعات لمدارسة “ماركس” و”لينين”. وحتى يكتمل بناء وجدان المقاوم لدى المسيري كان لا بد من الدخول في تجربة اعتقال قصيرة، إثر توزيعه منشورات تُرحّب بالثورة العراقية التي قامت عام 1958.

هدى حجازي.. زواج رغم أنف الحزب ورحلة إلى الغرب

في الإسكندرية، تعرّف المسيري على هدى حجازي التي ستصبح فيما بعد زوجته، لكنها لم تكن زوجته فقط، بل إنها مثلت أحد أهم أسباب انطلاق المسيري من ضيق المادية إلى رحابة الإيمان.

كانت هدى طالبة في نفس القسم الذي كان المسيري يدرس به، وقد تعرّف إليها حين كان يمارس نشاطه الجامعي ضمن أنشطة الطلاب الشيوعيين. وكان المسيري أخبر مسؤوله في الحزب عن نيته الارتباط بها، لكنه رفض بدعوى أنها برجوازية، ولا تصلح له باعتباره أحد المعبّرين عن الطبقة العاملة، وفي النهاية تغلّب الحب على صراع البرجوازية والشيوعية.

هدى حجازي، زوجة المسيري ابنة الطبقة البرجوازية

وبعد سنوات قليلة من تخرجه، وتحديدا في عام 1963، انتقل المسيري إلى الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على درجة الماجستير، وكانت أمريكا وقتها الدولة الفتية الصناعية التي تستعد للهبوط على سطح القمر، وجيشها متورط في حرب فيتنام، وهناك حركات تطالب بحقوق السود، وكان كثير من الأمريكيين يعيشون خيالات الحلم الأمريكي؛ السيارة الفارهة والزوجة الجميلة والبيت الأنيق، بينما يعيش فيه آخرون أزمة قيم.

ووسط كل هذا كان المسيري يخطو خطواته الأولى برفقة زوجته في جامعة كولومبيا بنيويورك، حيث درس الأدب الإنجليزي. وتُشير هدى حجازي إلى الصدمة الحضارية التي أصابتهما في السنة الأولى، وهو ما حدّ من نشاطهما كثيرا، ليقررا بعد ذلك الانتقال إلى جامعة روتغرز بولاية نيوجيرسي، حيث أسس “منتدى الفكر الاشتراكي” مع زميله “كيفن رايلي”.

سنوات التطرف.. عودة إلى الوطن لممارسة السياسة الإسلامية

تعددت رحلات المسيري إلى أمريكا، فبعد أن عاد إلى مصر عام 1969 وعمل فيها مستشارا لمحمد حسنين هيكل وزير الإرشاد آنذاك، عاد مرة أخرى إلى الولايات المتحدة عام 1975، وفي هذه الأثناء عمل مستشارا ثقافيا للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، وبعد رحلة تطواف طويلة عاد المسيري إلى مصر في بداية التسعينيات بروحه المقاومة التي تبحث عن شرارة الثورة في وجه الطغيان.

 

وعن هذه المرحلة، يقول الكاتب الصحفي والمفكر فهمي هويدي: في مصر كانت سنوات التسعينيات ذروة العنف والتطرف، وهو أمر يدفع أي مفكر متوازن إلى التفكير في كيفية الخلاص من هذا المشهد.

ونتيجة للضغوط السياسية والاقتصادية واجه المجتمع المصري ما يصفه جورج إسحاق المنسق العام السابق لحركة كفاية بـ”التفسخ والانحلال”، بينما يشير الباحث المشرف على موسوعة “الصهيونية” محمد هشام إلى تغير النمط الاقتصادي من الاقتصاد الموجّه والمخطط لتلبية احتياجات غالبية الشعب الأساسية إلى “اقتصاد الانفتاح المسعور والاستهلاك بلا أي ضوابط”.

بدأ فكر المسيري بالتغير نحو الأسلمة بسبب الانحرافات الفكرية التي عايشها، مما حداه أن يكتب عنها

وقد انطلقت مرحلة اشتباك المسيري مع الواقع السياسي في مصر من رؤيته أن المفكر ينبغي أن لا يكون منعزلا عن وطنه أو قضايا شعبه مكتفيا بالكتابة، وبدأت تتشكل في عقله فكرة الإيمان بالمنهج الإسلامي كمنهج إنساني رأى فيه خلاصا للإنسان، وانتشالا له من هموم الحياة المادية. وفي عام 1996 قام عدد من النشطاء الإسلاميين بتقديم أوراق الموافقة على إنشاء حزب يحمل في صيغته الطابع الإسلامي، إلا أنه رُفض.

وهنا يقول وكيل حزب الوسط آنذاك ورئيسه الحالي أبو العلا ماضي: بدأ المسيري في هذا الوقت يبحث عن الفكرة الأنسب له، واختار فكرة الوسط التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتشتبك مع الواقع وتقدم له الحلول، كما أنها متطورة في الجوانب الفلسفية والسياسية والمواطنة والتعددية والديمقراطية وإقامة الجسور مع التيارات الأخرى، وقد شارك المسيري في جلسات الحوار الخاصة بحزب الوسط، وكتب مقدمة برنامج الحزب.

“المثقف لا بد أن يكون في الشارع”.. رحلة في الميادين

في عام 2004 شهدت مصر حراكا سياسيا غير مسبوق، أفرزت حركة احتجاج هتفت ضد توريث الحكم وضد الفساد، إنها حركة كفاية التي سيصبح المسيري بعد قليل منسقا عاما لها، مُعلنا بذلك الانتقال كليا من الاكتفاء بالجهد الفكري إلى الحراك السياسي، رافعا شعاره الذي ظل مستمسكا به بقية حياته: “المثقف لا بد أن يكون في الشارع”، وهو شعار ميّز المسيري عن غيره من المفكرين كما يرى الصحفي ومقدّم البرامج أحمد منصور، خصوصا وقد حوّله لواقع عملي.

 

وعن هذه المرحلة تذكر الدكتورة هبة رؤوف عزت أن المسيري اختُطف وزوجته من الشارع وأُلقي بهما في الصحراء، ورغم اشتداد مرضه فإنه لم يستسلم، وكان مؤمنا بتحقيق ما يريد حتى لو طال الزمن.

وقد شكّلت مرحلة التحام المسيري بالشارع المصري نقلة كبيرة في مسيرته، إذ تروي الباحثة في العلوم السياسية سناء البنا أنه أخبرها في آخر حياته عن أهم ما قدّمه في حياته بأنه أصبح يستطيع التواصل مع رجل الشارع العادي، وأن عموم المصريين يُقبلون للسلام عليه بعد أن ترك صومعة المفكر إلى حراك الشارع.

“لست إسلاميا صرفا، بل إسلامي اشتراكي”.. فكر يسع الجميع

كان إيمان المسيري بالإسلام ثمرة صراع داخلي طويل بين المادية والإنسانية، ذلك الصراع الذي دار في نفسه أكثر من أربعة عقود تنقّل فيها بين الإيمان الشعائري البسيط إلى الفكر الماركسي، حتى حطت رحال فكره على شاطئ الإيمان الفلسفي من جديد، ويصف بنفسه هذا التحول قائلا: إن الإيمان لم يُولد في داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة.

كانت التحولات التي مر بها المسيري لا تعنيه وحده، بل كانت مرتبطة أيضا بجيل ضم أيضا المفكر عادل حسين، والمستشار طارق البشري، وهو جيل استطاع صياغة علاقة بين الفلسفة والإسلام، ويضع رؤيته للقومية العربية بشكل يتوافق مع الرؤية الإسلامية، بعد أن أدرك أن للإسلام أبعادا تتوافق وتتقاطع مع منظور العدل الاجتماعي.

اختار المسيري فكرة الوسط التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، فكتب مقدمة برنامج حزب الوسط

ويروي جورج إسحاق المنسق العام السابق لحركة كفاية أن المسيري كان يقول دائما “أنا لست إسلاميا صرفا، بل إسلامي اشتراكي”. وهنا يلفت أبو العلا ماضي إلى أن كل تيار كان يجد جانبا منه في شخص المسيري، مؤكدا أنه عندما انتقل من الفكر الماركسي إلى الفكر الإسلامي حافظ على صداقاته بأصحابه السابقين بقية حياته.

لم يهتم المسيري كثيرا بالقشور والمظاهر مثل بعض الإسلاميين، ولم يُبد اهتماما كبيرا بنظريات المؤامرة المحدقة على الإسلام من الشرق والغرب، بل اتسمت نظرته للإسلام ببعد فلسفي عميق. ويصف الصحفي أحمد منصور فكره بالموسوعي، كما كان مفتوحا على الثقافات الأخرى، يتواصل معها ويكتب إليها.

كان المسيري محبا للفن والجمال، يجمع اللوحات الفنية والتحف، ويداوم على الذهاب إلى المسرح والسينما، ويحب المعمار وإبداعاته. وقد حرص على أن ينتمي إلى روح الإسلام الإنساني، ويظهر ذلك في فكره وكتاباته وحركته وفي معمار بيته وطريقة معيشته.

كما حرص على أن يصيغ فكره وكلماته في عبارات ومعان إنسانية واسعة يفهمها أي إنسان أيا كانت ديانته أو جنسيته، فإذا ما رفض أي من قارئيه أن يعيش بمنهاج الإسلام، فإنه لا يأبى أن يعيش كإنسان.

أحب المسيري الحياة، وعاشها بكل أبعادها، وهي حياة تصفها زوجته هدى حجازي بالحياة المتنوعة والمتكاملة، فقد كتب قصصا للأطفال، ونظم الشعر، بالتوازي مع موسوعته الكبيرة عن الصهيونية. ومما يُروى عنه أنه أعلن عن ندوة ثقافية في ساقية الصاوي بالقاهرة حول النكتة في حياة المصريين، لكن السلطات المصرية أغلقت الساقية خوفا من نكته السياسية، فأقام ندوته على رصيف الشارع المقابل.

موسوعة “الصهيونية”.. حوارات في أمريكا تلهم مشروع العمر

كان المسيري يرى أن طغيان المادة في المجتمع الغربي هو الذي حرّك جيوشا استعمارية من الغرب إلى الشرق، ومن ذلك احتلال العراق وأفغانستان وتحكم القوى العظمى في مقدرات العالم الثالث، واصفا ذلك بامتداد النهج الاستعماري.

 

وكانت رحلته إلى الولايات المتحدة، ودراسته للفكر الغربي، ومناظراته التي عقدها في جامعة روتغرز مع الطلاب والمفكرين الصهاينة هي التي قادته إلى الاهتمام بالصهيونية واليهودية التي تخصص في دراستها بعد ذلك، وألّف فيها أهم أعماله على الإطلاق موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” التي استغرق تأليفها حوالي ربع قرن.

ويرى الباحث المشرف على موسوعة “الصهيونية” محمد هشام أن لقاءات المسيري مع الطلاب اليهود شكّلت وعيه بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، وقد أدرك مقدار تعقد المسألة وصعوبتها.

وبينما كانت النظرة السائدة في العالم العربي إلى الصهيونية باعتبارها مشروعا قائما بذاته، أو أنه امتداد لمؤامرة يهودية تاريخية، كان للمسيري نظرته التحليلية المغايرة، متصديا لفكرة المؤامرة، وأن اليهود هم مصدر كل الشرور والآثام، واعتبرها نظرية مضادة للعلم والإنسانية. كما قام بتصنيف المجتمع اليهودي في فلسطين، وأثبت أن اليهود الحقيقيين بينهم لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة، وأن هذا المجتمع هو خليط من المنتفعين بالدرجة الأولى من هذا المشروع، وهي رؤية جديدة هوجم بسببها.

“أكبر عملية سطو مسلح في القرن العشرين”

أثبت عبد الوهاب المسيري أن “بروتوكولات حكماء صهيون” غير صحيحة من الناحيتين التاريخية والعلمية، معتبرا أن ما يمارسه الاحتلال الصهيوني لفلسطين على أرض الواقع يفوق ما ورد في هذه البروتوكولات. كما دعا إلى إعادة النظر في الأطروحات الصهيونية كلها وفي ما يُسمى بالشعب اليهودي، نافيا وجود هذا الشعب، فهؤلاء المحتلون قدموا من بلاد شتى.

كما ذهب بعيدا في تحري الثقافة الصهيونية والعمق الغربي والثقافة المادية والعلاقة بين الصهيونية والإمبريالية والعلمانية، مقدما صورة جديدة على العقل العربي والإسلامي، ولذلك فلم ينظر لإسرائيل كمغتصب للحقوق والأرض فحسب، بل كنموذج مادي حوّل عقيدة دينية إلى رؤية إمبريالية واستعمارية وعنصرية، معتبرا تأسيس “دولة إسرائيل” بمثابة “أكبر عملية سطو مسلح في القرن العشرين”.

وضع المسيري كتابه “اليهود واليهودية والصهيونية” الذي أثار جدلا واسعا وكاد أن يتسبب بقتله

وقد شبّه الدور الخطير الذي تقوم به إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط بدور “الموظف المنافق” الذي يعرف رغبات رئيسه فينفذها له، واعتبرها نموذجا للدولة الوظيفية، كما أطلق عليها اسم “الدولة المملوكية”، وهي الدولة التي تقوم بخدمة المصالح الاستعمارية في المنطقة، فالمنطقة مستهدفة من المشروع الإمبريالي الغربي، وإسرائيل تحقق لهم أهدافهم بأقل التكاليف، وهي تكلفة تقل عن تكلفة حاملة طائرات واحدة، كما كان يقول المسيري.

صراع المادة والإنسان.. معاركنا الكبرى على ثرى فلسطين

كانت مُحصّلة الصراع لدى عبد الوهاب المسيري صراعا بين الإنسان الفلسطيني الضارب بجذوره في أعماق الأرض، وبين المادية الصهيونية التي تحاول طمس تلك الأرض وتنفي الإنسان. ولم يكن مفهوم المقاومة عنده يقتصر على تحرير الأرض، بل تخطى ذلك ليُعبّر عن الإنسان في مرحلة تاريخية تحاول سحقه والقضاء عليه وعلى قيمه، ولذلك فقد كانت قضية فلسطين لديه قضية إنسان، وليست فقط حقا عربيا ضائعا أمام الصهيونية التي اعتبرها آلة شرسة استيطانية تُجسّد النموذج المادي الحداثي الإمبريالي، وقد آمن بأن الإنسان يمكنه أن يهزم المادة، لأنه أقوى من المادة، باعتباره هو من يصنع التاريخ.

إن هذا المُقاوم الصغير الذي نشأ على مقاومة الاستعمار الإنجليزي بحجارة دمنهور هو نفسه الذي عرّف طفل فلسطين على أنه نموذج الإنسان في مواجهة الآلة بكل بطشها وعنفوانها، وصاحب الأرض المُقاوم في وجه متراس الحرب الصهيوني، ومهما لفح لهب النيران، فإن الإنسان يُعلن صموده أبد الدهر.

وبعد رحلة طويلة من عطاء الفكر والحركة، تُوفي عبد الوهاب المسيري في الثاني من يوليو/تموز 2008، بعد صراع طويل مع السرطان، وكان حينها قد بلغ سبعين سنة.