“فارس غلوب المتمرد”.. بريطاني أسلم ولمع نجمه في صفوف المقاومة

بعد عملية دلال المغربي في مارس/ آذار 1978، واجهت الفدائيين في جنوب لبنان مشكلةُ إبعادهم عن حدود فلسطين المحتلة أكثر من 15 كيلومترا، الأمر الذي جعل مواجهتهم لجيش العدو الصهيوني تبدو صعبة للغاية، فكان لا بد من اتخاذ وسائل جديدة للمقاومة، وجاءت الفكرة من جندي بسيط في صفوف الفدائيين الفلسطينيين، وأشرف على تنفيذها فارس، ابن الجنرال غلوب باشا.

وُلد “غودفري” ابن اللفتنانت جنرال “جون غلوب” في مدينة القدس في 4 أكتوبر/ تشرين الأول 1939، وكان أبوه “غلوب باشا” هو الذي أسس وقاد الجيش العربي الأردني في عهد الملك عبد الله الأول بن الحسين. وعندما بلغ 18 عاما اعتنق الإسلام واتخذ اسم “فارس”، وبعد انضمامه للفدائيين الفلسطينيين لقب “أبو الفدا”. وقد عرضت الجزيرة الوثائقية فيلما عن حياته بعنوان “فارس غلوب.. المتمرد”.

فارس غلوب.. بريطاني حارب في صفوف الفدائيين

يقول عنه عضو جبهة التحرير الفلسطينية مفيد أبو نادر: لم يكن كثير من أبناء الجبهة مرتاحا لوجود هذا البريطاني بيننا، وكانوا يقولون لربما يكون مزروعا بيننا من العدو الصهيوني، ولكن هذا الكلام غير صحيح، فقد كان ملتزما بالعمل الفدائي أكثر من غيره.

غلوب باشا قائد الجيش الأردني مع الملك عبد الله الأول

وفي السياق تقول الكاتبة الدكتورة نادية سعد الدين: أثير جدل كبير حول شخصية فارس غلوب، من حيث أصله البريطاني، ومن حيث توجهاته السياسية لصالح القضية الفلسطينية.

بينما يقول الدكتور عارف حمّو، الأكاديمي والناشط السياسي: لم يكن فارس يحب أن يسأله أحد عن والده، وإذا اضطر للحديث عنه فكان يقول إن ولاءه كان للتاج البريطاني، وليس للصهيونية.

وتحدثت دارينا ابنة فارس غلوب قائلة: جدّي هو جون غلوب، أو غلوب باشا، لفتنانت جنرال للجيش العربي الأردني، وقد وُلِد أبي في القدس عام 1939، وكان اسمه عند ولادته “غودفري”. وعاش معظم حياته في الوطن العربي، وبدأها في الأردن، حيث نشأ وترعرع مع البدو والجيش.

دارينا ابنة فارس غلوب

وقال عنه علي عزيز، الناطق الرسمي باسم جبهة التحرير الفلسطينية: اختار “فارس” اسمه بعناية، فعلاقة هذا الاسم بالثقافة والبيئة العربية عميقة ومتجذرة، وكان باختياره هذا يتحدى ما تربى عليه في عائلته الإنجليزية، من سطوة قوات الاحتلال البريطاني وممارساتها العنصرية ضد الشعوب المضطهَدة في العالم، ولا سيما في البلاد العربية، وفي القلب منها فلسطين.

“تربيتُ ضمن مشاكل هذه المنطقة”

في تسجيل صوتي، يتحدث فارس غلوب عن نفسه، فيقول: تربيتُ ضمن مشاكل هذه المنطقة، وبشكل خاص مأساة فلسطين، وأذكر مشاهد تشريد الشعب الفلسطيني عن أرضه في فترة طفولتي، وإقامة الدولة الصهيونية العنصرية على أرضه المغتصَبة.

فارس غلوب وهو يرتدي الزي العسكري الأردني في ظل والده قائد الجيش

وتحدثت ابنته دارينا عن طفولته، فقالت: درس أبي المرحلة الابتدائية في الأردن، وأرسله أهله إلى مدرسة داخلية في بريطانيا أثناء الثانوية، ولم تعجبه المدرسة فهرب منها، واضطر أهله لنقله إلى مدرسة داخلية في سويسرا، وهناك أنهى الثانوية وعاد إلى بريطانيا لاستكمال دراسته الجامعية في “كلية الدراسات الشرقية والأفريقية” في لندن.

وعن مناصرته للشعوب المظلومة قال عنه علي عزيز: في ريعان شبابه وقف في سويسرا وأوروبا متضامنا مع الثورة الجزائرية على الاحتلال الفرنسي، وكانت له وقفات خاصة ضد حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فقد كان يدرك علاقة التوأمة اللصيقة بين ذلك النظام العنصري والكيان الصهيوني في فلسطين.

كتيبة الرصد.. بداية السير في درب المقاومة

تقول ابنته سارة عن اعتناقه الإسلام: كانت لديه تساؤلات كثيرة، ووجد أن الإسلام يجيب على هذه التساؤلات، فاعتنق الإسلام وهو ابن 18 عاما. وحين بلغ 20 من عمره زار الجامع الأزهر، وفي 1963 أصبح معلما للغة الإنجليزية في مدارس بلدة وادي السير الأردنية، وكان على علاقة وثيقة بالعائلة المالكة في الأردن، وعلى تواصل مع الحركة الثقافية والسياسية الفلسطينية، وله نشاط مميز فيها.

فارس غلوب كان صاحب فكرة تطوير المناطيد الشراعية لمباغتة العدو الصهيوني

بدأ فارس غلوب نشاطه الفدائي في كتيبة الرصد التابعة لحركة فتح أثناء وجودها في الأردن، ثم انضم للجبهة الشعبية- القيادة العامة، ولما انفصلت القيادة العامة عنها، انضم إلى جبهة التحرير الفلسطينية، وخضع خلال منتصف السبعينيات لدورة عسكرية مكثفة فيها. ثم انتقل مع العمل الفدائي إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود.

يقول الدكتور عارف حمّو، الأكاديمي والناشط السياسي: تعرفت عليه من خلال العمل الصحفي والإعلامي، فقد كان يكتب لعدد من الصحف اللبنانية، وكانت له مقالة في جريدة القاعدة، وكنا نستضيفه في محاضرات حول القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية، وكان رفيقي في السكن في بعض الفترات.

مناطيد الفدائيين.. بريطاني يكفّر عن سيئات بلاده

تتحدث ابنته دارينا عن علاقته بالقضية الفلسطينية، قائلة: كان التزامه بالقضية الفلسطينية واضحا ومُركَّزا، وقد يكون مردُّ ذلك- حسب تفسيري الشخصي- نوعا من المسؤولية ألقاها على عاتقه، بصفته بريطانيا يشعر أن بلاده كانت المسؤول المباشر عن نكبة وتشريد الشعب الفلسطيني.

وعن مساهماته مع العمل الفدائي، يقول مفيد أبو نادر عضو جبهة التحرير الفلسطينية: في اجتماعٍ مع الفدائيين ناقشنا الصعوبات التي تواجه مقاتلينا في الوصول إلى خطوط العدو، فطرح أحد المقاتلين البسطاء فكرة راقت لنا، وتلقفتها القيادة الميدانية، إذ قال: أيها الرفاق، لماذا لا نستخدم البالون؟ ومن هنا جاءت فكرة استخدام الطيران الشراعي في عملياتنا القتالية.

فارس غلوب يتبنى تدريبات الفدائيين على الطيران الشراعي

ويتابع: عهِدنا إلى فارس غلوب “أبو الفداء” بمسألة تأمين المستلزمات لتجهيز البالونات “المناطيد” والطائرات الشراعية، فاشتراها من بريطانيا، واستقدم مدربا لتدريب المقاتلين على التحليق بها. وكانت الفكرة أن تحمل هذه المناطيدُ الطائراتِ الشراعية خلف خطوط العدو، ثم تُفصل عن المنطاد، ذلك أنه لم يكن هنالك مرتفعات في المنطقة لانطلاق الشراعيات.

محاولات الاغتيال.. رجل من المقاومة تحت عيون الموساد

هذا الإيمان الراسخ بالقضية الفلسطينية والعمل الدؤوب من أجلها جعل فارس عرضة لعدد من محاولات الاغتيال، وكان يتلقى رسائل التهديد على الدوام، ولذلك كان حسّه الأمني عاليا جدا، وكان يتخذ احتياطات كبيرة لسلامة نفسه، وكان يخشى أكثر ما يخشى أن يُغتالَ بحادث سير.

حادث مرور في بيروت يُفقد فارس غلوب ذاكرته ويقعده لفترة في الفراش

ففي 1975 تعرض لحادث سير أثناء توجهه إلى بيروت، وأصيب على أثره بكسور كثيرة، وفقد ذاكرته برهة من الزمن، فكان يهذي أثناءها بهلوسات عن كتابه الذي يربط فيه بين النازيّة والصهيونية برباطٍ وثيق، وقد صدر ذلك الكتاب تحت عنوان “نجمة داود والصليب المعقوف.. الصهيونية على خطى النازية”.

وقد سافر فارس للعلاج في بريطانيا، وخلال تلك الفترة كانت الطائرات الشراعية تنقل الفدائيين للاشتباك مع الصهاينة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان لجبهة التحرير الفلسطينية السبق في استخدام الشراعيات، ثم تبعتها الفصائل الفلسطينية الأخرى كالجبهة الشعبية- القيادة العامة- وتشكيلات أخرى.

كتاب فارس غلوب “نجمة داوود والصليب المعقوف”

بعد الاجتياح الصهيوني للبنان، غادر فارس غلوب بيروت في 1982، وتوجه مع الفدائيين إلى تونس بناء على الاتفاق الذي أبرمه المبعوث الأممي فيليب حبيب مع ياسر عرفات، ومكث فارس فترة في تونس، ثم توجّه بعدها إلى قبرص، وعمل في مجلة الأفق الصادرة هناك.

وبعد قبرص حاول مرارا العودة إلى بيروت ولكنّ ظروفا قاهرة حالت دون عودته، فتوجّه إلى الكويت، وهناك عمل لدى وكالة الأنباء الكويتية “كونا”.

أبو الفداء.. حادث سير غامض يختم قصة الكفاح

فارس غلوب أسلم في عمر 18 سنة والتحق بالمقاومة الفلسطينية

تقول ابنته دارينا عن حادث مقتله: في 3 أبريل/ نيسان 2004 اتصل والدي من مكتبه في العمل، وقال لي إنه عائد إلى البيت، مضت ساعة أو ساعتان ولم يصل، وكنت خلالها أحاول الاتصال به دون أن أتلقى ردا، وبعد ساعات تلقيت ردا من هاتفه ولكنه لم يكن صوته، لقد كان شرطيا أخبرني أن أبي تعرض لحادث سير وهو في المستشفى الأميري الآن.

تبين لاحقا أن شابا أصمّ عمره 19 عاما، كان يسوق بسرعة كبيرة عندما صدم فارس أثناء قطعه للشارع. لكن فكرة الحادث العرَضي لم ترق لكثير من أصدقاء فارس وبعض أفراد عائلته والمقربين منه، فكان لا يُتَصوَّر أن تنتهي حياة رجلٍ مهمٍّ وخطير وذي حِسٍّ أمنيّ مرهف نتيجةَ حادث سير اعتيادي، لكن التحقيقات لم تُثبت أيا من هذه الفرضيات.

فارس غلوب يرحل عن الحياة بحادث مرور عرضي سنة 2004 في الكويت ويدفن في الأردن

كان فارس قد كتب في وصيته أن يدفن في القدس حيث ولد، ولكن الظروف الأمنية والسياسية حالت دون حصول عائلته على موافقة السلطات الصهيونية المحتلة لدفنه حيث أراد، فحصل أفراد عائلته على فتوى بأن يدفن في أقرب مكانٍ ممكن من القدس، وهكذا دُفن في العاصمة الأردنية عمّان.

ونختم بهذه العبارة التي تصف إيمانه العميق، إذ يقول: كل ما يستطيع الإنسان عمله هو أن يعيش حياته وفق تعاليم الله، ويأمل من خلال أعماله وتصرفاته أن يُسَهِّل حدوث المعجزات، مع يقينه التام أنه لا يصنع المعجزات إلا الله.